لعلّ البرد القارِس هو السبب، أو رُبّما انخفاض حرارة جسدي، أو لعلّه دفء أحضان فالنتين التي تُغمرني. لا أدري على وجه التحديد ما الذي أيقظ تلك النشوة التي كانت قد خمدت في أعماقي، لكنها عادت تتدفّق من جديد، كالنّهر الذي يستعيد جريانه.
فالنتين، فالنتين خاصّتي، الذي كان كالعائلة بالنّسبة إليّ.
لكنني، في عينيكَ، لستُ عائلة، أليس كذلك؟ ومع ذلك، أرى قلقكَ الصّادق عليّ يتجلّى في كلّ نظرة. لكنّكَ، في الوقت ذاته، تُنكِر وجودي ذاته… أفكارٌ متناقضةٌ كاللّغز، تتداعى في ذهني بلا توقّف، حتّى انفرجت شفتاي، وهمستُ بصوتٍ خافت.
“فالنتين، هل تذكر اليوم الذي رأيتني فيه للمرّة الأولى؟”
“إن كنتِ تقصدين تلك اللحظة التي كنتِ فيها تتهرّبين من الدروس وتتجوّلين هائمة، فأجل، أذكرها جيدًا.”
“لا، ليس ذلك اليوم. أتحدّث عن اليوم الذي التهمت فيه النيران ستائر غرفتي.”
شعرتُ بنفَسه الدّافئ الذي كان يُداعب وجنتيّ يتوقّف للحظة. وكأن ثقل ذقنه الذي كان يستقرّ على كتفي قد خفّ قليلًا، أو رُبّما كان ذلك وهمًا منّي.
“أتعلم؟ قد يبدو الأمر غريبًا، لكن ذكرى ذلك اليوم لا تزال محفورةً في ذهني بوضوحٍ مُذهل… واضحةً إلى درجة أنني كنتُ أخلط بين ظلال المِصباح على الحائط ولهيب تلك النّيران. هل تفهم ما أعنيه؟ لم أهرب يومًا خوفًا من الرّعد والبرق، هذا ما أُحاول قوله.”
“…واضحةٌ إلى هذا الحدّ؟”
رَنَّ صوته المثقل، كأنّه غارقٌ تحت أمواج البحر، يتردّد في أُذنيّ كصدى عميق.
“لكن ليس هذا جوهر ما أُريد قوله. منذ ذلك اليوم، وأنا أحمل سؤالًا أتوق لطرحه عليكَ كلّما التقيتُكَ. سؤالًا كنتُ أحلم دائمًا بأن أُوجّهه إلى ذلك المُنقِذ الذي أنقذني…”
ما الذي أهذي به الآن؟ تساءلتُ في قرارة نفسي، لكن شفتيّ كانتا أسرع من أفكاري، ترتعشان قليلًا وتتحرّكان بإيقاعٍ متسارع.
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
لم أحاول كبح فمي الذي انطلق يُعبّر بحرّية، بل تركتُه ينطق بما يشاء.
“لماذا كان يجب ألّا أُولد؟”
سؤالٌ ظَلَّ مدفونًا في صدري طوال سنواتٍ طويلة. لأكون صادقة، كنتُ قد عزمتُ على إبقاء هذا السّؤال مطمورًا إلى الأبد، لأنني أدركتُ يومًا أن نطقي به قد يُحدث زلزالًا في قلب فالنتين.
‘ماذا لو كان ذلك السّؤال يمسّ جرحًا لا ينبغي لمسه؟’
وماذا لو أن تذكّري لذلك اليوم، وإخراجي لهذا السّؤال إلى النّور، سيُفسد مستقبلنا من جديد؟
فالنتين، ذلك المرسول الذي وهبته السّماء موهبة التنبؤ. كلماته التي همس بها يومًا في أُذني ‘مستقبلكِ، يا سمو الأميرة، غير موجود.’ كانت نبوءة مُحملة بنيّةٍ واضحة. لم أكن لأُصدّق أبدًا أن فالنتين، حتّى وهو يواجه طفلةً رضيعة، قد ينطق بكلماتٍ دون قصدٍ أو هدف.
على عكس قلبِي المتأرجح كالقصب في مهبّ الريح، كانت شفتاي لا تزالان تنطقان بصدقٍ صارم.
“هل لهذا علاقةٌ بنبوءتكَ التي قلتَ فيها إن مستقبلي غير موجود؟ أو رُبّما بنبوءة أن فاسيلي سيصبح طاغية؟ لقد قلتَ لي ذات مرّةٍ إن معرفتي بموتي قد تُجنبني أسوأ المصائر.”
تحت وطأة الرّعد المدوّي، واصلتُ كلامي كـمَن سُحِر.
“رُبّما مجرّد وجودي، مجرّد كوني وُلِدتُ، هو ما جلب النّحس لعائلتنا…”
في تلك اللحظة، شعرتُ بيدين قويّتين، صلبتين كالحديد، تُمسكان بوجهي وترفعانه لأعلى. في وسط الرّؤية المشوّشة بالمطر، ملأ وجه رجلٍ متصلّب الملامح عينيّ. تلك العينان الباردتان، اللتين طالما بدتا خاليتين من أيّ شعور، كانتا ترتعشان الآن بالذّهول.
“سموّ الأميرة، استمعِي جيّدًا لكلماتي. أنتِ لستِ نحس الإمبراطوريّة، ولا مصيبة العائلة الإمبراطوريّة. ولن تكوني كذلك حتّى لو انهارت السّماء!”
“…”
“ذلك اليوم…”
أغمض عينيه بقوّة، كأنّما يُعاني ألمًا عميقًا، ثم فتحهما مجددًا. ويا للعجب، كان فيهما وميضٌ من الخوف الخفيف.
“أرجوكِ، أتوسّل إليكِ… انسَي ما قلتُه في ذلك اليوم. يجب أن تنسيه. لا يمكن أن تُحبطي روحكِ وتنظري إلى العالم بعيونٍ مشوّهةٍ بسبب تلك الهراءات.”
كان صوته، وهو ينطق كلّ كلمةٍ بحذرٍ ووضوح، ينضح بالتوسّل الصّادق.
فوجئتُ قليلًا. لم تكن كلماته سوى مواساة بسيطة خالية من التعقيدات، لكنني أدركتُ أنّني أشعر بالرّاحة فعلًا. خشيتُ أن يُلاحظ تقطيبة وجهي، فدفنتُ رأسي في يديه الكبيرتين، وتنفّستُ بعمقٍ لأستعيد رباطة جأشي.
“سمو الأميرة.”
تردد صدى ندائه الملحّ في أطراف أصابعه.
‘أيها الوغد، لقد عانيتُ سبعة عشر عامًا بسبب تلك الجملة الواحدة. فلماذا أنتَ مَن يبدو خائفًا الآن؟’
…حسنًا، لا بأس. أنا بخيرٍ الآن. يُمكنني التّحكّم بتعابير وجهي.
شعرتُ براحةٍ عميقةٍ لأنّني تلقّيتُ تأكيدًا بأن كلماته لم تكن صادقة. ومع ذلك، لم أستطع منع تلك الأشواك الحادّة من النمو في زاويةٍ من قلبِي.
“سأُفكّر في الأمر.”
فتحتُ عينيّ مع إجابتي، فبدأ فالنتين، الذي كان يكتم أنفاسه، يداعب وجنتيّ بلطفٍ. لم تكن إجابتي موافقةً صريحة، لكنه بدا مُطمئنًا فقط لأنّني استجبتُ.
يا فالنتين، إن كنتَ ستشعر بهذا الإحراج، فلماذا نطقتَ بتلك الكلمات الشّنيعة في المقام الأوّل؟
“سموّ الأميرة، هل ذكرى ذلك اليوم لا تزال حقًا واضحةً إلى هذا الحدّ…؟”
“أجل، واضحةٌ تمامًا.”
همستُ بردّي من بين راحتيه، وفجأة، بدا العالم هادئًا، لا يقطعه سوى هدير العاصفة.
حين حاولتُ رفع رأسي، شعرتُ بثقلٍ مفاجئ، كأنّ حجرًا وُضِعَ فوق رأسي. نفس الإحساس الذي شعرتُ به في كتفيّ. لا بُدّ أنّه رأس فالنتين.
“أتوسّل إليكِ مُجدّدًا، سموّ الأميرة. انسَي تلك الكلمات الجوفاء من ذلك اليوم. لم تكن سوى هراء لا معنى له، كلامٌ أحمقٌ سأندم عليه مدى الحياة. أرجوكِ، ازيليه تمامًا من عقلكِ الصغير. هل فهمتِ؟”
“سأُحاول، لكن… ألن يكون ذلك صعبًا؟ لا يزال يتبادر إلى ذهني كل ثلاثة أو أربعة أيّام.”
هل كانت النّشوة هي التي جعلتني أنطق بما كنتُ سأكتمه عادة؟ فوجئتُ بنفسي، وضحكتُ كـمَن يُبرّر وأنا أرى وجهه المُتيبّس.
“آسفة، فالنتين. كنتُ أمزح… سأحاول النّسيان جيدًا. مَن أنا؟ أنا الأميرة لاريسا! لا يوجد شيءٌ لا أستطيع فعله. لذا، سأتمكّن من النّسيان ببراعة.”
نظر فالنتين إلى عينيّ بهدوء، ثم تمتم كـمَن يُحدّث نفسه.
“ما كان يجب أن تولدي أبدًا.”
ارتجف كتفاي للحظة. وجه فالنتين، وهو يواجهني، كان مُظلِمًا. عَضَّ شفته السفلى، وأمسك كتفيّ بقوة.
التعليقات لهذا الفصل " 60"