نهضتُ من مقعدي بأكبر قدرٍ من السّلاسة، غير مُتأكّدةٍ إن كنتُ قد تعثّرتُ أم لا. خرجتُ من قاعة المأدبة على قدميّ مباشرة.
ما إن خطوتُ إلى الرواق الخالي حتى أدركتُ حقيقةً مُذهلة. يا إلهي، لم أُلقَ في الجحيم كعقابٍ لكوني بالغة! كانت القاعة نفسها هي التي بدت كالجحيم، حارّة، رطبة، وخانقة!
“صاحبة السّمو، ذلك المكان…”
“شش.”
بوم! دوّى الرّعد وأضاء البرق النّافذة كما لو كان النّهار.
اتّجهتُ نحو الجهة التي هبّ منها نسيمٌ بارد. وكما هو متوقّع، كانت وجهتي الطّبيعة حيث تعصف العاصفة.
“لعنة طقوس البلوغ هذه! إن شربتُ ما يُقدَّم لي، يوبّخونني بأنّي جاهلة… وإن قاومتُ بحذر، يتّهمونني بالمكر والدّهاء.”
“صاحبة السّمو.”
“لِمَ تناديني باستمرار؟ الحرّ يُضايقني. ألم ترَ؟ لقد هجموا عليّ كقطيع ذئابٍ يصبّون الخمر في حلقي. لا تُخبر أحدًا بما أفعل الآن. سأعود قريبًا.”
رُبّما بسبب شعوري بالحرّية الجسديّة والنفسيّة، شعرتُ بخطواتي المتعثّرة أكثر وضوحًا من أيّ وقتٍ مضى. حسنٌ، الهواء البارد يُهدّئ من غثياني، وهذا ليس سيّئًا. رُبّما لأن مزاجي تحسّن، لم يكن الشّعور بقطرات المطر الغزيرة كالسياط مزعجًا تمامًا.
تجاهلتُ صراخ الخدم وكأنّهم اكتشفوا جُثّة، وركضتُ عبر الرواق الطويل الممتد على طول الحديقة المُربّعة.
كانت المصابيح التي تُضيء الرواق تتحول إلى ظلالٍ هائلة، ترتفع كالأمواج مع كلّ صاعقة.
‘يبدو وكأنّها ترقص.’
تذكّرتُ فجأةً ذكريات المهد.
الحرارة المُشتعِلة، الصّرخات المضطربة، والضوضاء الغريبة التي تتحوّل إلى رماد…
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
ظِلّ النّار الذي نهض من الجدار بدا وكأنه سيبتلعني. في لحظة، تشتّت كلّ شيءٍ أمام عينيّ، وانقطع نفسي.
آه…
لا…
هذا لا يُمكن أن يحدث… إن استمرّ الأمر هكذا، قد أحترق حتّى الموت!
لتهدئة جسدي المُلتهِب، ركضتُ نحو السّاحة الداخليّة في وسط الحديقة المُربّعة. اخترقتُ الرّياح العاصفة ووصلتُ إلى أسفل السّاحة، مُحاوِلةً تنظيم أنفاسي، لكن النّار التي تُطاردني لم تهدأ قطّ.
آه، لا… هكذا، أنا…
في تلك اللحظة.
فوووه.
غطّى نسيمٌ باردٌ رؤيتي. وعجبًا، اختفت النّار المُرعِبة التي كانت تتردّد مع صوت المطر في لحظة.
دوّى الرعد مرّةً أخرى، لكن لم أرَ سوى عالمٍ مُظلم. وعندما فتحتُ عينيّ مجدّدًا، كان فالنتين يقف أمامي، مُبلّلاً بالمطر. تلك النّظرة الباردة جعلتني عاجِزةً عن الحركة، ولكن بطريقةٍ مختلفة. لامست يدهُ طرف أنفي.
“ما زلتِ على قيد الحياة.”
خلع فالنتين سترته ووضعها على كتفيّ. ثم، وهو يضمّ ذراعيه، بدا وكأنّه يُفكّر في شيءٍ للحظة، قبل أن يضع يده على جبهتي.
ملتُ برأسي على يده الكبيرة وأغمضتُ عينيّ ببطء. شعرتُ بصوت قلبِي الذي يخترق دماغي يتلاشى تدريجيًّا. كنتُ أودّ الرّاحة أكثر، لكن فالنتين، بلا رحمة، سَحَبَ يده بسرعة.
“…آه.”
وعجبًا، هدأ كلّ شيء. حقًّا، عجبًا.
صاح فالنتين بالخادم الواقف بعيدًا في الرواق.
“لقد انخفضت حرارة صاحبة السّمو كثيرًا. احضر معطفًا واقيًا وبطانيةً سميكةً وشايًا ساخنًا. سأتولّى مسؤولية سلامتها، لذا تحرَّك بحذرٍ دون إثارة الجلبة، وابلغ سموّ الأمير إيفان بموقعنا.”
“حاضر.”
بدت تصرّفات الخادم المطيعة وهو يستدير مُضحِكة. ألم يأمر فاسيلي الجميع بحمايتي حتّى لو اضطرّوا لاستخدام اسمه؟
لكن الخادم غادر، وبقينا وحدنا في السّاحة. كان الزّوار غير المرغوب فيهم، الذين كنتُ مُصمّمةً على طردهم، قد اختفوا إلى مكانٍ ما.
لم أستطع فتح فمي بسهولة. النّشاط الذي كان يملأني وأنا أعبر الرواق تبدّد كبالونٍ فقد هواءه. نظر فالنتين إليّ بعينين تتساءلان كيف يتعامل معي، ثم أطلق تنهيدةً خفيفة.
استند إلى الجدار وجلس ببطء، مُشيرًا إليّ.
“تعالِي إلى هنا.”
انتظر فالنتين بصبرٍ حتّى وصلتُ إليه، ثم أمسك بمعصمي المُتردّد وسحبني لأجلس بين ساقيه. بينما كنتُ مذهولةً وغير قادرة على النّطق، شعرتُ بدفء جسده يستقرّ على ظهري المنحني الذي حاولتُ جاهدةً إبعاده عنه. وضع ذقنه على كتفي كما لو يطعن عنبًا بشوكة، وسحبني بقوّةٍ نحو صدره.
“جسدكِ بارد، لا مفرّ مِن هذا. لا تفكّرِي بشيءٍ وابقي بهدوءٍ في حضني. لو كنتُ أتبع قلبِي، لكنتُ مزّقتُ كل تلك الدانتيل المُزعجة المُلتصِقة بكتفيكِ.”
كانت هذه أوّل مرّةٍ أسمع فالنتين يتحدّث بمثل هذه الوقاحة.
لو سمعتُ كلامه دون تفكير، لكنتُ صفعتُه وصحتُ مُندهِشة، لكن عند التأمّل قليلاً، كان المعنى المضمر مختلفًا تمامًا.
على الرّغم من معرفتي به منذ أكثر من أربع سنوات، إلا أنّنا لم نقضِ سوى أقلّ من نصف عامٍ وجهًا لوجه. سبب معرفتي الجيّدة بطباعه بسيط، كما قال ذات مرّة، فالنتين عندما يتعامل معي هو أعظم مُلقّن نصائح في العالم.
[لديكِ موهبةٌ في جعل الآخرين قلقين.]
كنتُ أستمع إلى نصائحه بجدّية، لكن اليوم كان صعبًا. مهما حاولتُ، لم أكن واثقة من قدرتي على البقاء مُرتاحةً في حضنه.
لذا، ركّزتُ كل انتباهي على يديّ المرتجفتين. هل كنتُ أرتجف من البرد؟ لا. عندما دوّى الرّعد، تذكرتُ ظِلّ النّار الذي شلّ حركتي. مجرّد التفكير به جعلني أشعر وكأن نفسي ينقطع، فاضطررتُ إلى طرده من ذهني بالقوّة.
‘من الواضح أن مجرّد التّخيّل يجعلني أشعر بالاشمئزاز، لكن احتضان فالنتين لي يُسبب إزعاجًا طفيفًا فقط، ولا يجعلني أشعر بالسوء.’
في النّهاية، فالنتين هو عائلتي.
ليس مجرّد عائلة، بل عائلةٌ مُميّزةٌ جدًّا.
رُبّما لهذا السّبب أشتاق إليه دائمًا، وأُفكّر فيه باستمرار، وأهتم به كثيرًا. لأن فالنتين… لأنّه… بعد فاسيلي وتاتيانا وإيفان، هو ‘مُلقّن النصائح’ الرّابع!
يا إلهي، فالنتين مُلقّن نصائح!
“هاهاها، لا يُصدّق! هذا مُضحكٌ جدًّا!”
“ما الذي يُضحككِ؟ هذا الدانتيل المُتهالِك؟”
“نعم، الدانتيل سرّ.”
“الدانتيل سرّ؟ هذا مُذهِل.”
هل بسبب قبولي لهذا الشّعور السّعيد؟ قلبِي، الذي كان يهمس كلّما تذكّرتُ وجهه خلال الأيّام الماضية، أصبح هادئًا بطريقةٍ ما.
شعرتُ أنّني كنتُ حقًا حمقاء عندما تجاهلتُه بعد عودته بعد أربع سنوات، فقط لأن قلبِي كان يضطرب كلّما تقابلت أعيننا. أنا حقًا حمقاء!
لاحظ فالنتين تغيّري، وتكلّم بصوتٍ أكثر نعومة، وذقنه لا تزال مُستندةً إلى كتفي.
التعليقات لهذا الفصل " 59"