انتهى النّقاش العاصف، الذي امتزجت فيه الحماسة بالهيجان، عندما عادت أُمّي أخيرًا لتضع حدًّا له. وأنا أُغادر غرفة الاستقبال، مُستمتعة بشعور التحرّر الجارف، اقتربت تاتيانا فجأة، لفّت ذراعيها حول خصري وهمسَت.
“لقد كبرتِ كثيرًا، يا لاريسا. صرتِ تعرفين كيف تستغلّين غياب أُمّي لتحرّكي عقلكِ. يبدو أنني لم أعد قادرةً على مناداتكِ هرّتي الصغيرة.”
آه، إنه يدغدغ. أجبتُ وأنا أرتجف بكتفيّ.
“لكن… هل يُفترض أن أعرف هذا حقًّا؟”
كنتُ أتحدّث عن العم أنطون.
“همم… هل هناك سببٌ يجعلكِ تعتقدين أنّكِ لا ينبغي أن تعرفي؟”
“أسأل لأنّني لا أعرف، ألم يُخفَ الأمر لسببٍ ما؟”
نظرت تاتيانا إليّ مليًّا بعينيها المتفحّصتين، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ مرحة.
“صراحةً، أنا عارضتُ رأي العائلة. إذا كان هناك شخصٌ يجب أن يحذر من أنطون ليبرتان، فهو أنتِ بالذّات، لا أحد غيركِ. لكن، هاهاها، شخصٌ ما ألقى خطبةً حماسيّة، بل وتناثر رذاذ كلامه، مُقنِعًا الجميع بضرورة إخفاء الأمر، فاستسلمتُ أخيرًا. كان لديه أسبابٌ مقنعةٌ نوعًا ما.”
كنتُ أستطيع أن أُخمّن، ولو بشكلٍ غامض، من هو ذلك الشّخص.
“فاسيلي؟”
“لا، إيفان.”
إيفان؟ هل حقًّا إيفان مَن فعل ذلك؟
نظرتُ إليها بعينين مليئتين بالشّك، فتعمّقت ابتسامتها أكثر.
“عزيزتي لاريسا، الأمر مُحزِن، لكن يجب ألّا تثقي بأحدٍ خارج عائلتكِ.”
“…”
“على مدى سنوات، زرع أنطون ليبرتان جواسيسه في القصر الإمبراطوري. مَن برأيكِ كان هدفه؟ أنتِ بالذّات. إنه يتلهّف للاقتراب منكِ، كما فعلَ في الماضي وسيفعل في المستقبل. أميرةٌ صغيرةٌ بريئةٌ لا تعرف خبايا العالم، سهلة الخداع والاستغلال.”
مرّت وجوهٌ قليلةٌ في ذهني وأنا أستمع إلى كلام تاتيانا، لكن عدد الأشخاص الذين أستطيع تذكّرهم من دائرة معارفي المحدودة لم يكن كبيرًا.
“لهذا أراد إيفان إخفاء الحقيقة. لم يكن يُريد أن تشعري بالخوف من مقابلة الغرباء وأنتِ صغيرة. أليس هذا مفاجئًا، يا لارا؟ حتّى ذلك الأحمق يُفكّر أحيانًا بطريقةٍ صحيحة.”
جعلتني كلماتها أُدرك حقيقةً جديدة.
لم يكن شعوري بالحماية المُفرِطة من العائلة، الذي كنتُ أجده أحيانًا مبالغًا فيه، مجرّد وهم. كلّ شيء، من ضرورة موافقة فاسيلي على أبسط مواعيدي وأنشطتي، إلى تدخّل تاتيانا المستمرّ في قائمة الأزواج المرشّحين، كان هدفه حمايتي من أنطون ليبرتان.
“…إذن، لمَ تكشفين كلّ شيءٍ الآن؟”
أجابت تاتيانا دون تردّد.
“لأنّكِ، من اليوم، أصبحتِ بالغة.”
كلمة بالغة بدت غريبة، وكأنّها لا تناسبني.
“هكذا هم البالغون. يبدون مطيعين، لكنّهم يُخفون الغضب في أعماقهم. مهما حاولتِ السّيطرة عليهم، يهربون فجأةً إلى مكانٍ بعيدٍ لا تستطيعين الإمساك بهم. هكذا يُصبح الجميع عندما يكبرون، يتحوّلون إلى طيورٍ تسعى للطّيران.”
“ماذا؟ أنا لا أتصرّف بعشوائيّةٍ لهذه الدّرجة…”
لكنني توقّفتُ. هاها، هذا العام وحده، تصرّفتُ بطّيشٍ كبير. أغلقتُ فمي بحرج، فأمسكت تاتيانا بيدي وقادتني.
“لذلك أُحذّركِ مسبقًا. من الآن فصاعدًا، كوني حَذِرة، بل شديدة الحذر. يا لارا، لا تثقي بأحدٍ خارج عائلتكِ بصدق، ولا تُعطي عاطفتكِ الحقيقيّة لأيّ شخص. تذكّرِي دائمًا، مَن هو حليفكِ اليوم قد يكون عدوّكِ غدًا. إذا فكّرتِ بهذه الطّريقة، لن تُصدمي بالخيانة.”
أن أعتبر الجميع غير جديرين بثقتي؟ هذا أمرٌ مُحزِنٌ جدًا، يا تانيا.
أخفيتُ مشاعري الحقيقيّة وأومأتُ برأسي بحزم، آملةً أن أُخفّف قليلاً من قلق عائلتي الحبيبة.
* * *
في تلك اللّيلة.
أُقيم في القصر الإمبراطوريّ مأدبة عشاءٍ كبرى حضرها ستّون ضيفًا من داخل البلاد وخارجها.
“في هذا الحفل، نُرحّب بالذين قطعوا مسافاتٍ طويلةٍ ليحتفلوا ببلوغ الأميرة لاريسا. أولاً، الكونت بافلوف من أوبلونسكي…”
بعد تقديم أكثر من سبعة دبلوماسيّين، بدأت المقبلات. تبعتها بعض الخطب الرّسميّة المُملّة، ثم ساد جوٌّ أكثر حرّية. في تلك اللحظة، كانت كأسي تمتلئ بالنبيذ دون توقّف، وأنا جالسةٌ بجانب إيفان في المقعد الرئيسي.
“يا صاحبة السّمو الأميرة لاريسا الرّائعة، أشكركِ على شرف منحي فرصة رفع كأس النبيذ نيابةً عن جلالة ملك أوبلونسكي. أنقل لكِ تهنئة الأمير فيكتور…”
“صاحبة السّمو! منظركِ وأنتِ ترفعين الكأس بجرأةٍ يُضاهي شجاعة الرّجال! لو رأى الأمير بازيم من بلادنا هذا المشهد، لأدرك على الفور أنها لحظةٌ قدريّة…”
لعنة مراسم البلوغ! بالكاد أصبحتُ بالغة، وها هم يحثّونني على أن أصبح مدمنة خمرٍ بفضل هذا التّقليد البغيض.
كم عدد هؤلاء الأُمراء بحق خالق السّماء؟ أنظار الصّيادين المتلهّفين، الذين ينظرون إلى عروسٍ جديدةٍ طازجة في سوق الزّواج، تبدو ماكرةً وخبيثة. بينما كنتُ أبتسم بآليةٍ وكأن روحي قد سُرقت، ارتجفت كتفيّ فجأةً كما لو أنّني احترقتُ، وفتحتُ عينيّ على مصراعيهما.
‘فالنتين.’
أين فالنتين؟
نظرتُ حول الطّاولة بسرعة. كان فالنتين يجلس على مقربة، يتحدّث مع رجل دينٍ عجوزٍ يبدو أنه كاردينال. في قاعة المأدبة الهادئة المعتمة، حيث تلتمع الأضواء الخافتة، كان شعره الفضّي الشّفاف يُشبه مجرّة درب التّبانة مُقتطعة ومشطوبة بعناية.
وجوده الآسر في طرف الطّاولة كان كأنّه شعاع سلامٍ يُنير عالمًا ملوّثًا.
المُحيطون به كانوا منشغلين تمامًا بكلامه، غير مُبالين إن غرقتُ في النبيذ أو نجوتُ. بعضهم تظاهر بالتّركيز بينما كان مفتونًا بجماله. رُبّما بسبب سكرتي، لم أستطع استيعاب المزيد من التّفاصيل. بدا وجهه أكثر جمودًا من المعتاد، لكنّني لم أعرف السبب.
ما كنتُ متأكّدة منه هو أنّه، خلال الخمس دقائق التي قضيتُها أُحدّق به، لم تتلاقَ عينانا ولو مرّةً واحدة. ضحك باختصار، وغطّى فمه بكأس النبيذ، وتنهّد قليلاً بينما يتفحّص محيطه، لكنه لم ينظر إليّ أبدًا.
هل فعل ذلك عمدًا؟ أم أنه ببساطةٍ غير مهتمٍّ بي؟
‘لا يُهمّني.’
السُكر يجعلني لا أغرق في أفكارٍ تافهة، وهذا جيّد. إذا لم ينظر إليّ فالنتين، فلـيكُن، سأتجاوز الأمر، هذا كُلُّ شيء.
“لارا، ألم أقل لكِ أن تتجنّبيهم بحذر؟”
تسلّل صوتٌ باردٌ إلى أُذني. اقترب فاسيلي، الذي كان يجلس بجانب والدي، ووقف خلفي.
“كم مرّةً نصحتكِ لكنّكِ لا تستمعين. لن أتغاضى عن هذا اليوم بسهولة. وأنتَ، إيفان، إذا لم تستطع الاعتناء بأختكِ الصّغرى، فـلِمَ تجلس على هذا الكرسي؟”
“أخي، لقد شربتُ خمس كؤوسٍ نيابةً عن أختي الصّغيرة المحبوبة بشكلٍ مزعج، هؤلاء الدبلوماسيّون المُلتصِقون مثل العلق، يرفعون الكأس مرّتين باسم ملكهم وأميرهم. هذا كلّ ما لديّ من أعذار، فرجاءً، اخرِج تلك الفتاة من هنا بأسرع وقت.”
أشار فاسيلي إلى خادمٍ قريب.
“اصطَحِب لارا إلى غرفتها. إذا اقترب منها أيّ أحد، حذِّره باسمي.”
التعليقات لهذا الفصل " 58"