لم أعد طفلةً أتصرّف كما يحلو لي. أن أعتبر فالنتين عائلةً شيء، وأن أُعامله كعائلةٍ شيءٌ آخرٌ تمامًا. خصوصًا تلك المسألة التي كرّرتها أُمّي وتاتيانا عشرات المرّات منذ أن بلغتُ السابعة عشرة.
[أنتِ لستِ سيّدةً عاديّة، يا لارا. لذا، من أجلكِ ومن أجل الآخرين، يجب ألا تتصرّفي بتهوّرٍ أبدًا. خصوصًا بعد أن تصبحين بالغة، وبشكلٍ أكبر إذا لم يكن لديكِ خطيب.]
[تصرّفٌ واحدٌ متهوّرٌ منكِ قد يتسبّب في ضررٍ كبيرٍ لشباب أوهالا الأبرياء. لذا، انظري إليّ وتعلّمي. لا تتحرّكي بتهوّر، لا تتكلّمي بتهوّر، ولا تضحكي بتهوّر.]
حتّى لو كُنّا في الحديقة الشّرقيّة للقصر الإمبراطوري، فطالما أننا في الهواء الطلق، قد تكون هناك أعينٌ تراقب في أيّ مكان.
إذا احتضنتُ فالنتين بتهوّر، فإن المُتضرّر سيكون هو. هو لا يزال أعزبًا، لذا قد تتضرّر سُمعته. أليس الوضع مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه قبل أربع سنواتٍ عندما كان يستعدّ للدراسة في الخارج؟
عادت نظرة فالنتين إلى طبيعتها تجاه تردّدي. في تلك الأثناء، حاولتُ خفض ذراعيّ المفتوحتين بشكلٍ محرج.
“أمم، هذا، أعني…”
“خذيه.”
ماذا؟
“أصيص الزّهور.”
“…أوه.”
قبل أن أتمكّن من التفكير فيما يعنيه، وُضع شيءٌ ثقيلٌ في يدي اليمنى.
تحرّكتُ مثل دميةٍ مفصليّة، أتبع توجيهاته، ثم نظرتُ إلى أصيص السيراميك الصّغير الذي استقرّ تحت ذقني. كان أصيصًا، لكن لم يكن هناك نبات، فقط تربة.
“ما هذا؟”
“خطمي الأوّل من مارس.”
“لماذا تعطيني إيّاه؟ ألم تقل إن هذه مجرّد حيلٍ تجاريّة؟”
ابتسم فالنتين بمرحٍ وأجاب.
“صحيح. يجب أن تكوني ممتنّةً حقًّا لي، سموّكِ. لقد استسلمتُ عن طيب خاطرٍ لهذه الحيلة التجاريّة الواضحة لأُقدّم لكِ هدية بلوغ سن الرّشد.”
شعرتُ بحكّةٍ لا تُطاق في حلقي وأنا أواجه ابتسامته المُنعِشة مباشرة. أدرتُ عينيّ قليلاً وانحنيتُ لأنظر إلى الأصيص. كنتُ غاضبةً وتنفّسي ثقيلٌ لأنني لا أستطيع الرّد على سخريته الصّريحة.
منذ لحظاتٍ فقط، كنتُ أعتقد أنني سأتمكّن من التّحدّث معه بسهولة، فلماذا أصبح الأمر هكذا؟ هل المشكلة حقًّا أنّه وسيمٌ جدًّا؟ دون أن أرفع عيني عن الأصيص، سألتُه بصوتٍ خافت.
“هل مِن الأفضل نقل هذا إلى رقعة الزّهور؟”
“على الأقل انتظري حتّى ينبت. كنتِ متلهّفةً كلّ أوّل مارس، ولم تدرسي كيفية زراعة الزّهور؟ إذا لم تنبت، ستشتكين بالتّأكيد من سوء حظّكِ هذا العام.”
نهضتُ فجأةً بانزعاجٍ وحدّقتُ في فالنتين. نظر إليّ بتعبيرٍ يقول ‘وماذا ستفعلين بنظرتكِ هذه؟’ وأكمل حديثه بهدوء.
“أعتقد أنني أخبرتكِ مرّاتٍ عديدة. سموّكِ دائمًا تتسرّعين بقلبكِ، لكن عندما يحين الوقت، تتخبّطين. كان يجب أن تستعدّي مسبقًا. من يضع كل هذه البذور في حفرةٍ واحدة؟”
“كانت تلك الحفرة فقط، الأخرى مختلفة.”
“لو درستِ مسبقًا، لما اختلفت أعماق الحُفر أو عدد البذور.”
“أنتَ…”
رؤية وجهه الذي يردّ على كلّ شيءٍ جعلني أشعر حقًّا أن فالنتين عاد. رُبّما لهذا السبب؟ تلاشى الغضب الذي كان يتصاعد كما لو أن شخصًا قلاه بمهارة.
“حسنًا، توقّف عن التذمّر!”
“لا ينبغي أن تأخذيه كمجرّد تذمّر.”
“حسنًا. يُمكنني الدراسة الآن، أليس كذلك؟”
لم يُجب. فقط نظر إليّ بوجهٍ هادئ، دون ردٍّ إيجابيّ أو سلبي. ومع ذلك، كان هناك شيءٌ غريبٌ في فالنتين أمامي.
‘لماذا؟ هل شكوتُ كثيرًا لدرجة أن يتشبّث بي هكذا؟’
صحيحٌ أن الشّخص الذي يشتكي لا يدرك كم مرّةً يفعل ذلك. أخرجتُ شفتيّ قليلاً وقررتُ التراجع خطوة.
“هل أنتَ غاضب؟ آسفةٌ لقولي إنه تذمّر. أعترف أنّني كنتُ أنزعج كلّ عامٍ ولم أستعدّ جيدًا… سأتأمّل في ذلك.”
لم أفهم لماذا يجب أن أعتذر عن هذا، لكن بدا أفضل من التعامل مع فالنتين الذي يقف بلا تعبير. لحسن الحظ، جاء ردٌّ هذه المرّة.
“أودّ أن أسأل سموّكِ شيئًا.”
“قُل.”
“إلى متى ستستمرّين في التّصرّف كما يحلو لكِ؟”
“ماذا؟”
“في شخارانسك، أخطأتُ بظنّي أن سموّكِ هي الأميرة تاتيانا. هل فكّرتِ ولو مرّةً واحدةً في سبب ذلك؟”
“حسنًا…”
أغلقتُ شفتيّ. أدركتُ أن القول ‘لأنّنا متشابهتان’ ليس مناسبًا. ألم أكن أرتدي حجابًا مثل فالنتين؟
لكن هذا لا يعني أنه لا توجد إجابة متوقّعة.
“لأنني لم أبلغ سنّ الرّشد رسميًّا بعد، فمن غير المرجّح أن أحضر حفلاً متنكّرةً مقارنةً بتاتيانا.”
غرقت عيناه الزرقاء المخضرّة في برودة. شعرتُ بقشعريرةٍ في ظهري من وجهٍ غريب.
“…لم تذكري ذلك ولو مرّةً في رسائلكِ، لذا افترضتُ أنكِ تحترسين.”
لا أعرف كم مِن الوقت حافظ على تعبيره القاسي. بعد قليل، تنهّد بهدوءٍ واستند إلى شجرة الحديقة.
“أستطيع أن أتخيّل إلى حدٍّ ما لماذا تتعلّق سموّكِ بأسطورة الخطمي الطفوليّة هذه. لا بُدّ أنّكِ أردتِ الدعاء لسلامة إخوتكِ بزهرة الخطمي الذهبيّة.”
“…”
“لا بُدّ أنكِ شعرتِ بالخوف. الوقت المُحدّد يقترب، ولا ضمان للنّصر. أعرف هذا الخوف أكثر من أيّ شخصٍ آخر. لقد اختبرتُه حتّى الملل. مللتُ منه لدرجة أنني كنتُ على وشك التخلّي عن كلّ شيءٍ في وقتٍ ما.”
“…”
“لكن لماذا لم تُدرجي نفسكِ في تلك السّلامة؟”
‘همم.’
الخطمي ليست المشكلة. واصل فالنتين بنبرةٍ باردة.
“هل نسيتِ النبوءة بالفعل؟ في المستقبل الذي رأيتُه، لم تكوني موجودة. دعيني أكون أكثر وضوحًا. لا أستطيع التنبؤ بمكان أو زمان توقّف أنفاسكِ. الشّيء الوحيد الذي يمكنني تخمينه هو أن موتكِ سيكون نقطة تحوّلٍ في انحدار إمبراطوريّة أوهالا.”
نظرتُ إلى فالنتين ونسيتُ حتّى التنفس. كانت نظرته، المنتشرة في ضباب الدخان، تخترق بدقّةٍ تساؤلاتي ومخاوفي التي كنتًُ أعيد التفكير فيها عبر الزّمن. نعم، كانت دقيقةً للغاية.
‘هل انقراض عائلة نوفاروف مرتبطٌ بموتي؟’
كم سنة مرّت منذ أن بدأتُ أفكّر هكذا؟
هل تسبّبتُ في ضلال إيفان؟ هل دفع ذلك فاسيلي إلى الإصرار على اختياراتٍ خاطئة؟ هل قاد ذلك إخوتنا إلى نهايةٍ كارثيّة؟… تزايدت الهموم المتتالية مع تقدّم العمر، لم تتلاشَ، بل أصبحت أكبر.
“لذا يجب أن تكوني حذرة. لماذا تعتقدين أنني ذهبتُ إلى شخارانسك؟ لو كنتِ تقدّرين حياتكِ ولو قليلاً، لما قمتِ بمثل هذا الفعل أبدًا. هل فكّرتِ ولو للحظةٍ أن المشهد الذي رأيتِهِ في شخارانسك قد يكون آخر مشهدٍ ترينه؟”
التعليقات لهذا الفصل " 49"