كانت الحديقة الشّرقيّة قد امتلأت بألوانٍ زاهيةٍ من الزّهور الرّبيعيّة التي تم نقلها وزراعتها من المشتل. كانت المياه التي تتدفّق بهدوءٍ من نافورة السّمك الرّخاميّة تلتمع بضوءٍ ذهبيٍّ تحت أشعّة الشّمس. عندما هبّت نسمةٌ خفيفة، كانت رائحة الزّهور التي تتدفّق من كلّ مكان تجعل رأسي يصفو.
مشيتُ بين الأشجار المُرتّبة كمتاهة، ثم جلستُ على ركبتَي أمام رقعة زهورٍ صغيرةٍ في نهاية الحديقة الشّرقيّة.
همم. لمستُ التّربة برفق، ثم نظرتُ حولي ورأيتُ ظهر بستانيٍ مألوف، فناديتُ وسألتُ.
“هل أحفر الأرض وأزرع هنا مباشرة؟ لَم تتساقط الثّلوج اليوم، لذا سأزرع زهور الخطمي!”
ابتسم البستاني الذي كان يُقلّم الأغصان.
“نعم! يمكنكِ الزّراعة هنا. لقد قمتُ بتهيئة التّربة بشكلٍ مُناسب. إذا احتجتِ إلى مساعدة، اخبريني في أيّ وقت. أريد حقًّا أن أرى زهور الخطمي التي ستزرعينها قبل أن أموت.”
“لا تقلق. إذا زرعتُها اليوم، ستراها قبل أن تموت. إذا أزهرَت كثيرًا، سأعطيكَ واحدة.”
“هاهاهاها، سيكون شرفًا لعائلتي.”
حسنًا. مِن أين أبدأ؟ بالطّبع، الحفر؟
‘أوه، نسيتُ القفازات.’
لا بأس. بدأتُ أحفر بيدي العاريتين. شعرتُ بلمسةٍ باردةٍ وناعمةٍ على أطراف أصابعي. متى كانت آخر مرّةٍ لمستُ فيها التّراب؟ كان تراكم الأوساخ تحت أظافري مزعجًا، لكنني حفرتُ بجدٍّ.
‘لكن، إلى أيّ عمقٍ يجب أن أحفر؟’
أعمق من هذا؟ لكن إذا كان عميقًا جدًّا، قد لا تنمو السيقان، أليس كذلك؟
‘لكن إذا كان ضحلاً جدًّا… حسنًا، سأحفر بأعماقٍ مختلفةٍ وأزرع. واحدةٌ على الأقل ستنجح. آه! أنا ذكيّةٌ حقًّا.’
حفرتُ حُفرًا بأعماقٍ مختلفة، ثم أخرجتُ علبة صفيحٍ صغيرةٍ من السلّة. كانت تحتوي على بذور الخطمي. فتحتُ العلبة وأنا أُدندن، لكنّني توقّفتُ عن الكلام للحظة.
لماذا هناك الكثير من البذور؟
‘هل أفرغها كلها؟’
أم بذرة واحدة لكل حفرة؟ بذرةٌ واحدةٌ قليلةٌ جدًا. اثنتين؟ لكن، هل تنمو زهرةٌ واحدةٌ فقط من كلّ بذرة؟
‘لا بأس. سأضع عددًا مختلفًا في كلّ حفرة. واحدةٌ على الأقل ستنمو.’
أنا فعّالةٌ حقًّا. في الحفرة الأولى، وضعتُ بذرةً واحدة، في الثّانية اثنتين، في الثّالثة ثلاثًا. وفي الحفرة الثّامنة الأخيرة… سأضع الباقي كلّه! سكبتُ كلّ البذور المتبقّية في العلبة في الحفرة.
“هل تحاولين زراعتها أم تخزينها؟ أوّل مرّةٍ أرى شخصًا يخزن البذور في الأرض.”
صوتٌ لا يحمل ذرةً من الخبث كما لو كان يسخر، ولا يحمل أيّ مرحٍ كما لو كان يمزح.
رفعتُ رأسي تلقائيًّا. لكن في اللحظة التي رفعتُ فيها رأسي، اضطررتُ إلى تجعيد جبهتي لحماية عينيّ من أشعّة الشّمس السّاطعة.
كان الشّخص الذي اقترب طويلًا جدًّا، لدرجة أن رأسه كان تحت الشّمس مباشرة. بسبب الإضاءة الخلفيّة الحادّة، لم أستطع رؤية وجهه بوضوح.
في الحقيقة، حتّى دون رؤية وجهه، كنتُ أعرف مَن هو. مِن بين الأشخاص الذين يُمكن أن يتحدّثوا إليّ بحميميّة، قليلون هم مَن يملكون طولًا يكفي لتغطية الشّمس من هذه الزاوية. فاسيلي، سيرجي، و…
“فالنتين.”
مَالَ الرّجل برأسه قليلاً. تلاشت الإضاءة الخلفيّة البيضاء، وأصبحت ملامحه، التي بدت غير واقعيّةٍ في ظلالٍ رماديّة، واضحةً تدريجيًّا.
نظرتُ إليه ببلاهة، فمي مُغلَق. ما هذا الوجه؟ إنّه بالتّأكيد الوجه الذي أعرفه، لكنّه ليس الوجه الذي أعرفه. ماذا أعني؟ أعني أن الجمال الذي يتألّق من الظّلال يُسبّب تحفيزًا قاتلاً للعينين!
ضحك فالنتين بخفّةٍ وهو ينظر إليّ بهدوء.
“سـتثقبين وجهِي.”
“…”
“أعلم أنني وسيم، لذا توقّفِي عن التّحديق.”
في تلك اللحظة، شعرتُ بحرارةٍ تتدفّق إلى وجهي، وعاد إحساس الواقع الذي نسيتُه كـموجة.
لكنني لم أُدر رأسي. أُقسم أنّني لم أشعر بهذا التّواضع أمام مظهر شخصٍ آخر في حياتي. علاوة على ذلك، أليس الشّخص أمامي رجلاً بالغًا في الحادية والعشرين، لا يحمل أيّ أثرٍ لصبي؟
الأشخاص في أوائل العشرينات الذين أعرفهم عادةً ما يفقدون نضارة بشرتهم، كما لو كانت تذوب مثل الثّلج، ويبتعدون عن الجمال. خاصّةً الرّجال، مع تقدّم العمر، يُصبح فكّهم أكبر، وتنمو لحاهم داكنة، وتتّسع جباههم، وتصبح عيونهم أعمق.
الكلمات مثل ‘جميل’ أو ‘مُذهِل’ لم تكن لتُستخدم أبدًا لوصفهم، حتّى لو مُتُّ. على الأقل، ليس حتّى ألتقيتُ بفالنتين مُجدّدًا.
عندما وصلَت أفكاري إلى هذه النقطة، عاد رأسي تلقائيًّا إلى الأرض. ثم أدركتُ.
“فالنتين.”
“نعم.”
“تنكّرتَ كأسقفٍ في الحفل لإخفاء وجهكَ الوسيم بشكلٍ لا يُصدّق، أليس كذلك؟ لأن الجميع كان سيُفتن بكَ!”
صمتَ للحظة، ثم أطلق ضحكةً مُندهشةً بتعبيرٍ لا يُصدّق.
“لا أحد في العالم غير سموّكِ يُمكنه قول مثل هذه الانطباعات الصّريحة عن وجه شخص…”
نهضتُ فجأةً من مكاني وأمسكتُ قميص فالنتين عند صدره وسحبتُه للأسفل. لو كان إيفان، لكان كتفه في هذا الموضع، لكن شيئًا ما أشعرني بغرابةٍ شديدة. تفحّصتُ وجه فالنتين، الذي اقترب منّي، بعناية.
عيونٌ زرقاءٌ مخضرّة شفافة كـكراتٍ زجاجيّة. أنفٌ مستقيمٌ لكنّه ليس بارزًا. رموشٌ رقيقةٌ وكثيفةٌ ترفرف مع كلّ رمشة. عيونٌ واسعةٌ بلا فجوات. كلّها تناغمٌ مألوف.
التغيير الوحيد عن أربع سنواتٍ مضت هو أن بشرته أصبحت أغمق قليلاً، وخطوطه أكثر صلابة. بخلاف ذلك، كان فالنتين الذي رأيتُه عن قُربٍ هو نفسه تمامًا. على الرّغم من أن طوله زاد كثيرًا، وأصبحت رقبته وذراعاه أطول، وكتفاه أعرض… لكنّه بالتأكيد.
“فالنتين الحقيقي.”
فالنتين الذي تبادلتُ معه الرّسائل لمدّة أربع سنوات.
عند هتافي المُتحمّس، لم يُجب فالنتين. كان يحمل تعبيرًا غريبًا للغاية. غريبًا لدرجة أنّه بدا غريبًا من جهةٍ ما، لكن ذلك لم يكن مهمًا.
كيف أصف هذا الشّعور المُتدفّق؟ شعورٌ أكثر امتلاءً بما لا يُقاس مقارنةً بلحظاتي مع لارا وأصدقائي.
هل أعتبر فالنتين عائلة؟ شخصٌ لا تربطني به قطرة دمٍ واحدة، ولم أقضِ معه سوى موسمٍ واحد، باستثناء لقاءٍ أوليٍّ في طفولتي لا أتذكّره؟
‘لكن إذا فكّرتم في الأمر، فهذا ليس غريبًا.’
لا أعرف كيف ينظر إليّ فالنتين، لكنني أعتبره إلى حدٍّ ما مُعلّمي. المعرفة البسيطة التي تعلّمتُها منه، مثل الثّقافات الأجنبيّة، النّصائح للأنشطة الاجتماعيّة، والتّوبيخات الصّغيرة… أُقسم أن فالنتين كان أوّل شخص، بعد العائلة وبارفن، أتعلّم منه لفترةٍ طويلة. أحيانًا، عندما أقرأ رسائله، كنتُ أشعر وكأنّ لديّ أخًا آخر. لذا، ليس من الغريب أن أعتبره عائلة. كان هناك سببٌ وجيهٌ لأُحبّ فالنتين، أكثر من أيّ شخصٍ آخر.
لم يكن مُهمًا كيف ينظر إليّ فالنتين بنظرةٍ دقيقة.
بشكلٍ طبيعيٍّ جدًّا، كما فعلتُ مع عائلتي وسيرجي، فتحتُ ذراعي لاحتضانه للتّعبير عن فرحتي. لكن بمجرّد أن التقيتُ بعينيّ فالنتين وأنا أتنفّس بعمق، تجمّد جسدي.
التعليقات لهذا الفصل " 48"