بدأت علاقتنا تتقارب تدريجيًّا من خلال زياراتي المُتكرّرة لدار الأيتام. صحيحٌ أن إخوتي، فاسيلي وتاتيانا، كانا يساعدانني في الخروج، لكن إيفان هو مَن كان يختار ويجمع المواد التي يتم تسليمها لدار الأيتام. لقد ساعدني كثيرًا في اتّخاذ القرارات وتنفيذ التّفاصيل الصّغيرة المُتعلّقة بدار الأيتام بنفسي.
‘بفضله، اكتشفتُ أيضًا أن إيفان يتمتع بشعبيّةٍ كبيرةٍ في الخارج.’
كان لإيفان دورٌ كبيرٌ في تمكّني من التّكيّف مع العمل التطوّعي في دار الأيتام. مِن خلال مراقبة وتقليد طريقته في الاندماج بسهولةٍ مع العُمّال، تمكّنتُ من كسب ثقة الأطفال الذين كانوا يشعرون بعدم الرّاحة تجاهي بسرعةٍ أكبر.
وقفتُ مُتّكِئةً على إطار الباب، وذراعاي متشابكتان، وسألتُ إيفان.
“لماذا أخبرتَ فالنتين أنني تاتيانا؟”
“هل قال ذلك؟”
“نعم.”
“بالأحرى، لم أذكر اسمكِ أو اسم تاتيانا على الإطلاق. قلتُ فقط ‘الأميرة’. بعد أن رآكِ، هو مَن افترض أنكِ تاتيانا.”
“أنا مَن كنتُ قريبةً من فالنتين، وليس تاتيانا. حتّى لو قلتَ ‘الأميرة’، كان يجب أن أكون أنا مَن يتبادر إلى ذهنه أولاً.”
أغلق إيفان الصّندوق ونظر إليّ من الأعلى إلى الأسفل بموقفٍ مُتعجرف.
“هل نسيتِ أنّكِ كبرتِ بما لا يقل عن 15 سنتيمترًا خلال السّنوات الخمس الماضية؟ آخر مرّةٍ رآكِ فيها كنتِ في الثّالثة عشرة فقط، وطولكِ زاد كثيرًا، ووجهكِ مُغطّى. مَن كان سيُفكّر في الأميرة لاريسا؟”
“لقد أرسلتُ صورًا كلّ عام.”
“رؤية صورةٍ أو رسمٍ تختلف تمامًا عن رؤيتكِ في الواقع، أُختي السّاذجة. تذكَّرِي أنكِ أنتِ أيضًا لم تعرفي فالنتين من النّظرة الأولى.”
لم أستطع إلّا أن أُغلق فمي عند هذه الكلمات.
في الحقيقة، أنا أيضًا لم أُلاحظ وجود فالنتين في الحفل. لم أكن أعلم حتّى أن كاهنًا يرتدي رداء الأسقف كان حاضرًا. لم أعرفه إلا عندما اقترب منّي وتحدّث إليّ مباشرة.
‘…ما الذي كان يفعله فالنتين خلال السّنوات الأربع الماضية؟’
هل ذَهَبَ للدّراسة في الخارج حقًّا؟
لكن مهما فكّرتُ، لم يكن هناك سببٌ ليغيب فالنتين عن أوهالا لفترةٍ طويلةٍ إلا إذا كان يدرس أو يسافر. ومع ذلك، استمرّ الشك حول فالنتين في التزايد لأن…
[لو كنتُ أعلم من البداية أن الطُّعم هو سمو الأميرة لاريسا، لما خطّطتُ لهذه العملية.]
[مَن وضع هذه الخطة؟]
[مَن غيري؟]
…لأن تلك ‘الحالة’ بدت مألوفةً جدًّا لفالنتين.
هل أصبح فالنتين جنديًّا؟
لكن فالنتين نبيل. ليس مجرّد نبيلٍ بدون ميراثٍ أو أراضٍ، بل له صِلة دمٍ واضحة بالعائلة الملكيّة والإمبراطوريّة. من الصّعب تصديق أن شخصًا مثله قد يُصبح جنديًّا، ناهيك عن المشاركة في عملياتٍ خاصّةٍ وليس كضابط.
‘إذن، هل كان ذلك اليوم استثنائيًّا؟’
حقًّا لا أعرف. على أيّ حال، الطّريقة الوحيدة لمعرفة الحقيقة هي سؤال فالنتين مُباشرة.
تخلّيتُ عن محاولة البحث في تحرّكات فالنتين وأكملتُ فحص الأوراق. لكن إيفان لم يُغادر غرفة النوم بعد. بينما كنتُ أُعيد الأوراق إلى فيدورا، سألتُهُ.
“هل لديكَ شيءٌ لتقوله؟”
أجاب إيفان دون تردّد.
“مَن ستختارين للرّقصة الأولى؟”
“تقصد أوّل حفلٍ إمبراطوريٍّ لي؟ بالطّبع…”
مَن سأختار؟ لم أُفكّر في الأمر بصراحة.
عادةً ما تكون الرّقصة الأولى مع أحد أفراد العائلة، لذا سيكون إمّا والدي أو فاسيلي أو إيفان. إذا كان عليّ اختيار أحدهم، فالأمر واضح.
“فاسيلي.”
“لماذا؟ ألم نقضِ وقتًا أطول معًا مؤخرًا؟ فكِّري مجددًا.”
“أُفٍّ. أيُّ نوعٍ من التذمّر الطّفولي هذا؟”
عبستُ بانزعاج. لا يُمكن أن يكون يتصرّف هكذا لأنّه يُريد الرّقص معي. بعد تفكيرٍ سريعٍ بشكلٍ مريب، وجدتُ الإجابة.
“لقد راهنتَ مع فاسيلي، أليس كذلك؟”
“لا.”
“ماذا راهنتَ؟ اخبرني، رُبّما أساعدك؟”
بالطبع، هذا كذب. سأتظاهر بمساعدته ثم أرقص مع فاسيلي. فحصني إيفان بنظرةٍ مريبةٍ ثم أجاب بهدوء.
“تسوية دين.”
“تسوية دين؟ كم ديونكَ حتّى تراهن بي على تسويتها؟”
“توبيخ فاسيلي وتاتيانا كافٍ. اخبريني فقط إذا كنتِ ستساعدين أم لا، يا لارا.”
همم. بينما كان الخادم الذي جاء لنقل الصّناديق يتحدّث مع فيدورا، اقتربتُ من إيفان وهمستُ.
“لديّ شرط. إذا ساعدتُكَ في تسوية دينكَ، اخبرني مَن هم بالضّبط الذين استهدفوني في شخارانسك.”
“…مَن؟ تعلمين أنهم متمرّدون.”
“لذلك أطلب منكَ أن تخبرني ‘بالضّبط’. لن تقول إنه ليس لديّ الحق في المعرفة، أليس كذلك؟ إذا كان كذلك، حسنًا، سأكتشف بطريقةٍ أخرى.”
تنهّد إيفان بهدوءٍ ومَدَّ قبضته نحوي.
“أثق بكِ وحدكِ، أُختي. نحن فريقٍ واحد.”
وضعتُ قبضتي على قبضته.
“نعم، ليومٍ واحد.”
كان ذلك قبل أسبوعٍ من احتفال بلوغي سنّ الرّشد.
* * *
صباح اليوم المُرتَقب.
نادرًا ما يكون هناك يومٌ مُهمٌ مثل هذا اليوم في السّنة. بمجرّد أن فتحتُ عينيّ، قفزتُ من السّرير ووقفتُ أمام السّتارة المُعتمة. جمعتُ يديّ وصلّيتُ.
‘هذا العام، سأحتفل ببلوغ سنّ الرّشد بهدوء، لذا مِن فضلك، مِن فضلك، اجعل اليوم مُشمِسًا. أنتَ تعلم أن صديقي هو فالنتين، المحبوب لديكَ، أليس كذلك؟ لقد عاد إلى ماخاتشكالا. من أجل وجه فالنتين، اجعل اليوم مُشمِسًا.’
بعد انتهاء الصّلاة، هدّأتُ قلبي وفتحتُ الستارة. ثم التصقتُ بالنّافذة الزّجاجيّة لأتفقّد الخارج.
السّماء؟ صافية. السُّحب؟ لا وجود لها. الأرض؟ لا ثلوج ربيعيّة متراكمة. الهواء؟ مُنعِش. كان المشهد المرئي هو الطّقس السّماوي المثالي لبدء الربيع!
“ياي!”
لا، لا. يجب أن أهدأ. لا يُمكنني أن أفرح كثيرًا.
حتّى لو كان الطّقس مُشمِسًا الآن، قد تتجّمع السُّحب الثّلجيّة بعد ساعة. لتجنّب مثل هذه الحوادث المؤسفة، يجب أن أُنهي الأمور بسرعة. في تلك اللحظة، فتحَت فيدورا الباب ورأتني مُستيقِظةً مُبكّرًا، فضحكَت بخفّة.
“لا ثلوج في الأوّل من مارس. أخيرًا تحقّقت أمنيتكِ. يبدو أن الحظّ سيرافقكِ هذا العام.”
“ليس حظّي جيّدًا هذا العام، بل كان سيّئًا حتّى الآن. هل مِن المنطقي أن تُمطر الثّلوج في الأوّل من مارس ثلاث سنواتٍ متتالية؟ هذا العام أخيرًا عاد كلّ شيءٍ إلى طبيعته!”
بينما كنتُ أغسل وجهي بسرعةٍ بالماء الذي أحضرَتهُ فيدورا، رفعَت فيدورا شعري وربطته عاليًا. بعد ذلك، وصلت صينيّةٌ ثانيةٌ إلى غرفة النّوم. كانت شايًا دافئًا لتسخين الجسم قبل الإفطار. أشعر بالأسف تجاه الخادمة التي أحضرته، لكن اليوم لم يكن لدي وقتٌ لشرب الشّاي.
أخرجتُ سلّةً صغيرةً كنتُ أُخفيها تحت السرير. كانت ‘مجموعة زراعة زهرة الخطمي للأوّل من مارس’ التي أعددتُها الليلة الماضية.
بعد أن احتفظتُ بها لمدّة أربع سنوات، يمكنني أخيرًا استخدامها اليوم. اخترتُ سترةً من بين الملابس التي أحضرتها فيدورا، أمسكتُ السلّة، وغادرتُ غرفة النّوم.
“سموّكِ! يجب أن تغيّري ملابسكِ على الأقل…!”
“لا وقت لذلك!”
سأزرعها أوّلاً. مع هذه الفكرة، اندفعتُ خارج الغرفة، نزلتُ السّلالم، وركضتُ نحو الحديقة الشّرقيّة.
التعليقات لهذا الفصل " 47"