“أنتِ… هاه. ما الذي تعتقدينني إيّاه؟ هل تعتقدين أنني أستمتع بالقلق عليكِ؟ حسنًا، بالنظر إلى شخصيّتكِ، لن يكون مفاجئًا إذا كنتِ تستمتعين بذلك. لكن يا لارا، حتّى المزاح له وقتٌ ومكان…”
يا لها من بديهةٍ بطيئة! أمسكتُ بذراع سيرجي، الذي كان يحجب طريقي، وسحبتُهُ بقوّة. ثم، وأنا أقترب من وجهه الذي أصبح قريبًا جدًّا، شددتُ على جزءٍ أعتقد أنه فمه وحذّرتُه بصوتٍ منخفضٍ بالكاد يسمعه في أذنه.
“توقّف عن الثرثرة وعُد إلى الداخل. قلتُ إنني سأخبركَ لاحقًا. ألا ترى أنّني جادةٌ الآن؟ إذا تسبّبتَ في تحطّمي إلى أشلاء، ماذا ستفعل؟ هل ستتحمّل المسؤولية؟ هل ستلعب دور الأميرة الصّغرى لعائلة نوفاروف بدلاً مني؟ هل ستتولّى مسؤولية إخوتي وحمايتهم…”
حَدَثَ ذلك في لحظةٍ قصيرةٍ جدًا.
“آه.”
قبضةٌ قوّيةٌ لا يُمكن مقاومتها أمسكت بكتفي وأجبرتني على الالتفاف. قبل أن أتمكّن من الشّعور بالدهشة، امتدّت يدٌ أخرى ورفعت حجابي بقوّةٍ كأنّها ستُمزّقه.
في اللحظة التي التقت فيها عيناي بعيونٍ زرقاء مخضرّة تخترق هواء الليل. في تلك اللحظة التي تقدّمت فيها نظرةٌ فقدت هدوءها، تفحّصت جبهتي وأنفي وخديّ وذقني وشفتيّ بـنهمٍ. لم أستطع إلّا أن أُحرّك وجهي بعيدًا وأتكلّم بصوتٍ خافت.
“لماذا، ما الخطب؟ لقد أسأتَ الفهم بنفسكَ. لم أقل أبدًا إنني تاتيانا…”
على عكس نيّتي، ارتجف صوتي قليلاً في النّهاية، وأدركتُ متأخّرةً. كان فالنتين يرتدي حجابًا أبيض على رأسه.
كان السبب في قدرته على الجلوس ظهرًا لظهرٍ معي دون أي إزعاج، وبموقفٍ هادئٍ إلى حدٍّ ما، هو هذا الحجاب غير الشّفاف. كان يجب أن أكون قريبةً جدًّا منه حتّى أرى عينيه. لا أحد كان سيخمّن هُويّته.
كان فالنتين يتنكّر ككاهن… لا… بالطّبع، هو بالفعل كاهن، لكن مِن الواضح أنه حضر الحفل مستترًا عن سلطته ككونت فالنتين. كان ارتداؤه لرداء الأسقف دليلاً واضحًا.
“ها.”
ضحكةٌ ساخرةٌ قصيرةٌ انفجرت أمامي مباشرة.
ما معنى هذه الضحكة؟ هل هي بسبب مظهري المُضحِك؟ أم بسبب أنّه أخطأ واعتقدني تاتيانا؟
عاد الحجاب، الذي كان مرفوعًا فوق رأسي، ليسقط على وجهي. من الواضح أن فالنتين عرفني. لكن يده لم تتركني. لم ترتخِ ولو قليلاً.
رداء الأسقف الأبيض يرمز إلى النّقاء والإخلاص.
قلادةٌ فضّيةٌ على شكل نجمةٍ خماسيّةٍ تعني التقشّف والنزاهة.
كان من المُفترض أن يكون هذا المزيج مُريحًا للقلب، لكنّني لم أشعر بأيّ راحة. بدلاً من أن يهدأ قلبي، بدأ يخفق بقوّةٍ كأنه سينفجر. بدا طوله، الذي يبدو أطول من سيرجي بمقدار كف يد، وكأنه يضغط عليَّ من الأعلى.
“ما الذي تفعله الآن؟”
أمسكَت يد سيرجي بذراع فالنتين كأنها ستلويها. حَاوَلَ دفعي إلى الخلف لحمايتي، لكن يد فالنتين لم تتحرّك قيد أنملة. حدّق سيرجي بغضبٍ في يده وتحدّث مرّةً أخرى.
“افلت يدكَ الآن. هل فقدت عقلكَ لتتصرَف بوقاحةٍ وأنتَ أسقف؟”
“سيرجي إيفانوفيتش نيكيتين.”
كان نداءً يحمل تنهيدةً خفيفة.
نظرتُ إلى فالنتين بدهشة. كيف عَرفَ أنه سيرجي؟ سرعان ما تبدّد هذا التساؤل. كنتُ قد ذكرتُ اسم سيرجي في رسائلي إلى فالنتين عدّة مرّات.
“كنتُ أرغب في رؤيتكَ مرَةً واحدة. إذن، هذا هو وجهكَ.”
نظر سيرجي إلى فالنتين بتعبيرٍ مندهش، ثم تحدّث بصوتٍ أكثر هدوء.
“توقّف عن قول أشياء لا معنى لها وافلت يدها.”
رَدَّ فالنتين بنبرةٍ تحمل اهتمامًا خفيفًا وهدوء، كأنّه يردّ على تحدٍ طفولي.
“السير سيرجي هو مَن يجب أن يُفلت يده. إذا استمررتَ في الإمساك بي هكذا، لن أستطيع التصفيق.”
“أيها المجنون…”
“لحظة!”
ما الذي يفعلانه الآن؟ هل جُنّا؟ في موقفٍ طارئٍ كهذا، يتصرّف الأصدقاء… لم يكن لديّ حتّى رغبةٌ في التّوبيخ. اقتربتُ من سيريوزا وهمستُ بسرعة.
“اهدأ، سيريوزا. هل تُريد أن يكتشف الجميع هُويّتي هنا؟ وأنتَ مُخطِئٌ بالفعل. من فضلك، كن هادئًا إذا كنتَ لا تريد أن تُضرب.”
أنا على وشك أن أتعرّض للاغتيال، وهل مشكلتي أن يدي مُمسكة؟ هذا الأحمق غير الحكيم. لويتُ يد فالنتين التي كانت تمسكني وأخرجتها.
“آسفة، فالنتين. أعتذر نيابةً عن سيرجي. ماذا الآن؟”
نظر فالنتين إلى يده الفارغة بصمت، ثم أنزلها ببطءٍ وأجاب.
“ما الخيار الآخر؟ لا بُدّ أن تهربي معي.”
“نهرب؟ لارا، من هذا الأسقف المجنون؟”
“قلتُ لا تناديني باسمي. حسنًا، لقد خلعتُ حذائي أيضًا. أنا مُستعِدّةٌ تمامًا. إلى أين نهرب؟”
“تبًّا! عمّا تتحدّثين الآن؟”
كان إمساك سيرجي بكتفي وإمساك فالنتين بياقة سيرجي قد حدثا تقريبًا في نفس الوقت.
سحب فالنتين سيرجي بقوّةٍ نحوه. ثم رفع الحجاب الأبيض الذي كان يتدلّى بلطفٍ على جبهته وأنفه برفقٍ إلى أعلى رأسه. ليضمن أن يرى سيرجي وجهه بوضوح. للأسف، كان ذلك من زاويةٍ لا أستطيع رؤيتها.
“سيرجي نيكيتين.”
“…فالنتين فلاديميروفيتش دميتريف؟”
“من الآن فصاعدًا، اغلِق فمكَ واستمِع.”
أعاد فالنتين خفض الحجاب. حتّى لو كان ذلك لوقتٍ قصير، لا بُدّ أن شخصًا ما قد عرف هُويّة فالنتين.
نظرتُ حولي بعيونٍ قَلِقَة. كما توقّعتُ، كان الأشخاص الذين يستريحون في الحديقة ينظرون إلينا بعيونٍ مندهشة. لكن إذا لم أكن مُخطئة… بدا توقّفهم الجامد وتركيزهم علينا غير طبيعيّ إلى حدٍّ ما.
“إذا اُغتيلت الأميرة لاريسا، فسيكون ذلك بسببكَ. سأُبلغ جلالته مباشرةً وأجعل رأسك يتدحرج تحت المقصلة مثل كرة تنس.”
“…ماذا؟”
“لا تكن غبيًا، لذا سأقولها مرّةً واحدةً فقط. الأميرة في خطرٍ يُهدّد حياتها. بفضلكَ، اقتربت خطوةً أخرى من الموت. إذا لم تكن تريد طرق أبواب الجحيم وتحطيمها، فابقَ هنا بهدوءٍ مثل كلبٍ مُبتلٍّ تحت المطر.”
كان سيرجي مرتبكًا، لكنّه أدرك خطورة الوضع وأغلق فمه طواعية. في هذه الأثناء، استدار رأس فالنتين نحوي بلطف. (بلوفي: ركزوا على “بلطف”✨)
“هيا بنا. آه، قبل ذلك.”
لم يلمسني أو يسحبني. فقط انحنى والتقط حذاءً أسود مُلقى على العشب. كان تصرّفًا غير متوقّع. بعد أن قلب الحذاء وفحص ارتفاع كعبه، تمتم فالنتين لنفسه.
“مُذهِلٌ أنكِ تستطيعين المشي بهذا.”
“…هل قلتَ ذلك لأسمع؟”
“لا.”
التقط الحذاء الآخر مِن تحت المقعد ووضع كلا الحذاءين أمامي بعناية. ثم نَهَضَ ببطءٍ ومَدَّ يده نحوي.
كان معنى تصرّف فالنتين واضحًا دون الحاجة إلى السؤال. تردّدتُ قليلاً، ثم أمسكتُ بيده، وبمساعدته، ارتديتُ حذائي.
التعليقات لهذا الفصل " 44"