في تلك اللحظة، كأنّ سِتار اللّيل الذي يُغطّي رأسي قد اختفى، وكأنّ شمس الظهيرة قد أشرقت.
هذا الأسلوب الخالي من الحماس. صوتٌ ناعمٌ وقويٌّ بشكلٍ غريبٍ لا يتناسب إطلاقًا مع هذا الأسلوب. الشّيء الوحيد الذي تغيّر هو أن نبرة صوته أصبحت أعمق قليلاً.
كان الصّوت مُحاطًا بالصّخور مع أوزانٍ ثقيلةٍ متدلّيةٍ منه. أصبح أكثر سمكًا وثقلًا. لو لم يتغيّر حتّى هذا الأسلوب البارد، لما لاحظتُ الفرق أبدًا.
جاء الرّد خاليًا من أي مرح.
“كما توقّعتُ، لقد خمّنتِ هُويّتي على الفور.”
إنّه هو بالفعل! شعرتُ بخفقان قلبي المُتسارِع من الفرحة. في الوقت نفسه، حاولتُ أن ألتفت، لكنّني تذكّرتُ تحذيره بعدم الحركة، فعدتُ برأسي ببطءٍ إلى وضعه الأصلي.
‘أُريد أن أُحيّيه بسرعة!’
أردتُ أن أرى بنفسي كيف تغيّر خلال السّنوات الأربع الماضية. كنتُ أتطلّع إلى رؤية تعبير الدهشة على وجه فالنتين عندما يرى كم كبرتُ، وكنتُ أشتاق بجنونٍ لمصافحة صديقٍ ألتقيه بعد أربع سنوات.
فالنتين بالتأكيد سريع البديهة. حتّى مع هذا التنكّر، عَرفَ مَن أكون على الفور…
“سموّكِ تاتيانا.”
…مهلاً.
“لا تندهشي واستمعي بهدوء. هناك بعض الجواسيس المتمركزين في هذا القصر يُخطّطون لاحتجازكِ رهينة. قد يكون من الصّعب تصديق ذلك، لكن هذا ليس مزاحًا، إنّه الواقع.”
…ماذا؟
“معلومات الجواسيس موجودةٌ بالفعل لديّ ولدى سموّه إيفان. عددهم أربعة، وهم أشخاصٌ خطرون مستعدّون لتنفيذ هجماتٍ انتحاريّة إذا لزم الأمر. بينما تجلسين على هذا المقعد، سنتعامل معهم واحدًا تلو الآخر. لكن مِن المؤكّد أن أحدهم يُراقب وضعكِ الآن. شخصٌ ما في هذه الحديقة.”
لا أعرف مِن أين أبدأ بالاندهاش.
هل لأنّه يظنّني تاتيانا؟ أم لأن هناك جواسيسٌ في هذا القصر؟ أم لأنّهم يستهدفونني؟ كنتُ مصدومةً للغاية لدرجة أن سعادة لقاء فالنتين قد اختفت بالفعل إلى ما وراء المجرّة.
شعرتُ بحركة شخصٍ غريبٍ يجلس بجانبي. كما قال فالنتين، كانت امرأة ذات شعرٍ أشقر واضح. تحدّثت إليَّ بطبيعيّةٍ رغم أننا لم نلتقِ من قبل.
“لقد رأيتكِ في الحفل منذ قليل، أليس كذلك؟ الحفل اليوم مزدحمٌ جدًّا بالناس، إنّه مُربِك.”
“كان هناك مَن يُراقب سمو الأميرتين باستمرارٍ منذ أشهر. بالأحرى، تم اكتشافهم منذ أشهر، لذا رُبّما استمرّ ذلك لمدة عامٍ على الأقل. بعد فترةٍ طويلةٍ من التّخفّي، أمسكنا بواحدٍ منهم وبدأنا التّحقيق. تبيّن أن الأمر أكثر جديّةً مما توقّعنا، ولاقتلاعهم بالكامل، استخدمنا سموّكِ.”
جريءٌ كعادته أن يقول إنّه استخدمني بكل هذه الثقة.
علاوة على ذلك، أصبح واضحًا سبب مساعدة إيفان لمغامرتي. لقد كانت فرصةً مثاليّةً لاستخدامي كطعم، فلم يكن هناك داعٍ لمنعه.
أنا الآن لستُ أميرة، بل سيّدةٌ أجنبيّةٌ جاءت بدعوةٍ من سيرجي. علاوة على ذلك، بما أنني جئتُ إلى شخارانسك سِرًّا دون حراسةٍ إمبراطوريّة، كانت هذه الفرصة المثاليّة التي انتظرها الجواسيس الذين يستهدفونني خلال العام الماضي.
‘من حُسن الحظّ أنني خلعتُ حذائي.’
سيكون من السّهل الهروب إذا دعت الحاجة.
“لقد كان أمرًا مؤسِفًا بشأن عائلتكِ. لقد فقدتُ عائلتي قبل عامين، وكانت أسوأ تجربة حزنٍ في حياتي…”
“لقد جئتِ إلى الحفل وأنتِ متحمّسةٌ لتقييمي، وأنا آسفٌ لاستخدامكِ. بالمناسبة، سموّكِ تاتيانا مُخلِصةٌ حقًّا. أن تأتي إلى شخارانسك متخفّية بسببي.”
“لذا أستطيع أن أتفهّم مشاعر الآنسة مينولا تمامًا. أليس من الصّعب التّغلّب على ذلك؟”
“هل وجودي بجانب سمو الأميرة لاريسا مُزعِجٌ إلى هذا الحد؟”
هل يجب أن أُجيب؟
شعرتُ بالارتباك. ماذا أقول؟ هل أكشف الآن أنني لاريسا؟ لكن لماذا يظنّني تاتيانا؟ إنه يعرف كل شيءٍ عن وضعي. كيف يُمكن أن يخطئ؟
لا، قبل ذلك.
“فالنتين، هل كنتَ حقًّا تدرس في الخارج خلال السنوات الأربع الماضية؟”
“هذه ليست من المعلومات التي تخصّ سموّكِ.”
“ليست من المعلومات التي تخصّني؟ هل يجب أن تكون أنتَ الوحيد الذي يسأل؟”
“إذا كنتِ هدفًا لهجومٍ انتحاري، فالنتيجة بعد الموت ستكون أسوأ. إنّه مثل الموت بعناق قنبلة، حيث ينفجر الجسد حرفيًّا. تتشتّت الأجزاء إلى قطعٍ صغيرةٍ يستحيل جمعها. لذا، لا ترفعي صوتكِ عبثًا واجيبي على أسئلتي فقط.”
يا إلهي، هجومٌ إرهابـ.ـيٌّ مُخيفٌ إلى هذا الحد! لم أرغب في أن يُدفن قبري في أجزاءٍ متفرّقةٍ في منزل إيلين، فأغلقتُ فمي بهدوء.
كان ردًّا باردًا، لكنني لم أشعر بالإهانة. مهما فعل خلال السنوات الأربع الماضية، يبدو أن شخصيّته لم تتغيّر.
“لا يُهمني إذا كنتِ تراقبينني، سموّكِ.”
“هل يمكنني أن أمسك يد الآنسة مينولا للحظة؟ أودّ أن أتلو صلاةً قصيرةً لها.”
“من الأفضل أن تحافظي على هذا الحد. على عكس أوهام سموّكِ، ليس لدي أدنى نيّةٍ لاتّخاذ سمو الأميرة لاريسا زوجة، ولا أنوي أبدًا أن أكون عشيقها، لذا لا تبذلي جهدًا في هذا الاتجاه عبثًا.” (بلوفي: يا كذااااب! شايفتك بعد كم فصل تتوسل عشان تصير حبيبها🤌🏻)
كانت السّخرية القاسية متقطّعة بسبب الصّلاة، لكنها بدت أوضح وأكثر حدّةً من أيّ صوتٍ آخر. فالنتين باردٌ بطبعه. لكن صوته اليوم بدا باردًا بشكلٍ خاص.
‘هل كان هكذا في السابق، باردًا إلى درجةٍ تُثير القشعريرة؟’
شعرتُ وكأنني أواجه شخصًا غريبًا يحمل عداوة، مما جعل كتفيّ تنكمشان.
هل هذا التوتّر غير المألوف بسبب الوقت الطويل الذي مَرَّ بيننا، أم لأنّه يظنّني تاتيانا؟ بعد كلّ شيء، قبل أربع سنوات، كنتُ مجرّد طفلةٍ في الثّالثة عشرة. لم يكن بإمكانه أن يتصرّف ببرودٍ كهذا أمام طفلةٍ صغيرة.
فجأة، ظهر شخصٌ غطّى رؤيتي.
“ها أنتِ هنا.”
“…سيريوزا؟”
نظرتُ إلى سيرجي بدهشة. في البداية، شعرتُ بالحيرة من اقترابه المُفاجِئ في موقفٍ خطيرٍ كهذا، مما قد يُعطّل الخطة.
لكن سرعان ما أدركتُ أنه، مثلما يعرف إيفان عن هذا الوضع، يجب أن يكون سيرجي على عِلمٍ أيضًا، فهدّأتُ من دهشتي.
“أعتذر، لكن هل يمكنكِ تركنا لحظة؟ لديّ حديثٌ مع الآنسة جينيفييف.”
“أوه، حسنًا، أنا…”
“أرجوكِ، سيدتي.”
هل يفترض أن يصبح سيرجي الآن مَن أتحدّث إليه؟ لكن لديّ شعورٌ سيء. وجه المرأة، الذي فحصتُه بكلّ قوتي عبر الحجاب، لم يكن هادئًا على الإطلاق. كانت المرأة مُرتبِكة. مثلي تمامًا!
“جعلتِني قلقًا، يا لارا. ماذا تفعلين هنا؟”
انحنى سيرجي وهمس لي بمجرّد أن بدأت المرأة تبتعد مُتردّدة. يبدو أن هذا هو ‘الوضع غير المتوقّع’، أليس كذلك؟ دفعتُ ذراع سيرجي بهدوءٍ وهو يُحاول الجلوس بجانبي.
“سيريوزا، سأخبركَ لاحقًا، لكن عُد إلى القصر الآن.”
“اخبريني عمّا تتحدّثين؟ حاولي ألّا تبتعدي عنّي، وإذا اضطررتِ للابتعاد، اخبريني أين ستذهبين. أنتِ تُخفين هُويّتكِ، فماذا لو حدث شيء؟”
التعليقات لهذا الفصل " 43"