لم يكن سيرجي متعجرفًا مثل البعض. كان يستمع جيّدًا للآخرين، لطيفًا، وكما قالت تاتيانا، طيّب القلب.
مهما كانت المزحة التي ألقيتُها، لم يفعل سوى التذمّر قليلاً دون رفع صوته، وعندما كنتُ أضايقه بأن يناديني ‘القائدة’، كان يطيع ويناديني ‘القائدة’ بسهولة.
كُنّا أفضل أصدقاءٍ لبعضنا البعض. بالطبع، كان لسيرجي أصدقاءٌ آخرون كثيرون ومتنوّعون غيري.
زوج؟ لا يمكنني حتّى تخيّل ذلك الآن. سألني سيرجي بهمس.
“جينيفييف، مِن أي بلدٍ أنتِ قادمة؟”
“مملكة إيترانغ.”
“هل تتحدّثين لغة تلك البلاد؟”
“في عائلتنا، إتقان خمس لغاتٍ هو جزءٌ من الثقافة.”
بمجرّد نزولنا من الدرج، تجمّع الناس حولنا. ومن الطبيعي أن تكون أوّل مَن يقترب هي مضيفة هذا الحدث، الدوقة إيلين.
“السير سيرجي، شكرًا لحضوركَ الحفل. مظهركَ الرائع يرفع من مستوى هذا الحفل الليلة.”
“إطراءٌ زائد. المظهر الذي يرفع مستوى هذا المكان يقف أمامي، الدوقة إيلين.”
“شابٌّ وماكرٌ رغم صغر سنّكَ.”
أليس كذلك؟
“هذه هي الآنسة جينيفييف مينولا، أخت زوجة ابن عم صديقي، قادمةٌ من مملكة إيترانغ. مرّت مؤخّرًا بمأساة، لكنّها تتعافى تدريجيًّا. آمل أن يكون هذا الحفل فرصةً جيّدةً لها، لذا تجرأتُ على إحضارها معي.”
“أوه! لا تقل ذلك، السير سيرجي. أصدقاؤكَ مُرحّبٌ بهم دائمًا. يبدو أن الآنسة مينولا تمرّ بمحنةٍ كبيرة. الفراق لا يصبح مألوفًا مهما مررنا به. آمل أن يكون هذا الحفل مواساة لكِ، الآنسة مينولا.”
بدأت الدوقة إيلين تلمح بمهارةٍ إلى تقديمي لابنتها، وبدأت السيّدات الشّابات والنبيلات يتقدّمن للتحدث إليَّ واحدة تلو الأخرى.
كما شهدت فيدورا عن فضول شعب أوهالا، كان كُلُّ من اقترب يوجّه لي تحيّةً وتعزية.
احتضن العديد منهم كتفي أو أمسكوا يدي ودلّكوها بلطف، وبعضهم حتّى تلا صلواتٍ قصيرة. لو كنتُ حقًّا في حالة حداد، رُبّما كنتُ سأشعر بالامتنان، لكن تكرار هذا التصرّف الزائف عشرات المرّات جعلني أشعر بالملل فقط.
على عكسي، كان تعبير سيرجي وهو يتعامل مع الناس مُرتاحًا للغاية.
‘في الأوساط الاجتماعيّة، لا أحد يحظى بشعبيةٍ أكثر من ابن عائلةٍ نبيلةٍ ثريّة.’
على الرّغم من إلغاء نظام توريث الابن الأكبر منذ عقود، لا تزال بعض الطبقات، بما في ذلك النبلاء العليا، تتمسّك بهذا النظام. في مثل هذه العائلات، لا يُورث الأبناء والبنات تحت الابن الأكبر أي شيء، لذا تصبح كل الأمجاد والثروة ملكًا للابن الأكبر حصريًا.
كانت جميع النبيلات في الأوساط الاجتماعيّة يأملن أن تتزوّج بناتهن من ابنٍ أكبر أو ابنٍ وحيدٍ من عائلةٍ تتبع هذا النظام التّقليدي. بهذه الطريقة، يمكنهن ضمان حياةٍ هانئةٍ ومريحةٍ في شيخوختهن دون التورّط في معارك الميراث القاسية.
“سيريوزا، سأعذر نفسي قليلاً…”
أشرتُ لسيرجي المُتردّد أنني بخير، وتوجّهت نحو جدار القاعة. ثم اختبأتُ خلف عمود، رفعتُ الحجاب بحذر، واتّجهتُ إلى القاعة الرئيسيّة حيث يُعرض تمثال رو.
‘هل هذا هو سلف المرسول الشهير؟’
نظرتُ إلى التمثال بنظرةٍ خائبةٍ قليلاً.
كان التمثال، الذي يتّخذ شكل رجلٍ عجوزٍ متجوّل، يقف ويداه مجتمعتان، ينظر إلى الأرض.
كانت التجاعيد المنحوتة على وجهه ويديه مفصّلة بعناية. كان التمثال دليلاً واضحًا على مهارة النحّات.
ومع ذلك، كان التمثال، الذي تجوّل في أنحاء القارّة لمئات السنين، ملطّخًا في أماكن عديدة، مما يجعل مادته الرخاميّة تبدو باهتة. كانت هناك أجزاءٌ مفقودة، وثلاثةٌ من أصابعه العشرة مكسورة. كما كان حجمه أكبر قليلاً من طولي، على عكس التماثيل الأخرى المعروضة في المعارض الدّينية.
‘حسنًا، المظهر ليس مُهمًا. بل إن علامات الزمن تجعله يبدو أكثر روعة.’
الشّيء المهم هو شيءٌ آخر.
ثلاث جواهرٍ زرقاء يُقال إنها مرصّعةٌ في جبهة التمثال. تُسمّى جواهر المرسول…
‘لحظة، ماذا؟’
لماذا لا توجد جواهر؟
فحصتُ جبهة التمثال بمزيدٍ من التفصيل وأنا في حالة صدمة. لا شيء. بدلاً من ثلاث بلوراتٍ زرقاء فاخرة، كانت هناك ثلاث فجواتٍ صغيرةٍ فقط.
[…لا يُعرف بالضّبط متى وأين فُقدت جواهر المرسول. آخر سجلٍّ يعود إلى 150 عامًا مضت، ويُعتقد أنها فُقدت أثناء نقلها من عائلة هوتلروي إلى الكرسي البابوي…]
إذن، لم تكن موجودةً أصلاً. لقد فُقدت قبل 150 عامًا.
‘لو كنتُ قد بحثتُ أكثر.’
بهذا، لم يعد هناك سببٌ لتحمّل كل هذا العناء للقدوم إلى شخارانسك. لقد خدعتُ والدتي وتاتيانا لحضور هذا الحفل، وكُلُّ ذلك ذَهَبَ هباءً.
عدتُ إلى قاعة الحفل وأنا أتجوّل حول التمثال بنظرة خيبة أمل. وبينما كنتُ أنظر إلى النّاس هنا وهناك بعيونٍ شاردة، لاحظتُ مشكلةً كبيرةً في الحفل.
‘لماذا لا أرى فالنتين؟’
ألم يكن هذا الحفل قد جَذَبَ كل هذا الاهتمام بسبب أخبار قدوم فالنتين؟ أصغيتُ بأذنيّ ووجّهتُ كل تركيزي إلى المحادثات العابرة للنّاس.
“متى سيظهر مرسولنا الشهير؟”
“تقصد الكونت ناريان؟ يقولون إنه لا يُمكن العثور عليه مهما بحثوا.”
“يا إلهي، لا تمزح بهذا الشكل. إذا اختبأ رجلٌ في ثقب فأر في حفلٍ كهذا، فسيُصاب الجميع بخيبة أمل!”
“لا بأس، لا داعي لخيبة الأمل.”
فالنتين ليس من النوع الذي يختبئ في ثقب فأرٍ في حفل رقص. إذن، هل لم يصل بعد؟ أم أنّه ألغى حضوره؟
فجأة، شعرتُ بإرهاقٍ شديد. بذلتُ كل هذا الجهد في التنكّر، وارتديتُ كعوبًا عاليةً لتبدو قامتي أطول، وحجابًا أبيض نادرًا، وتظاهرتُ بأنني أجنبيّة، وكل هذا الهراء.
‘لم أرَ الجواهر، ولا حتى فالنتين.’
لم يمضِ نصف ساعةٍ على حضوري الحفل، وكنتُ قد أُنهكتُ بالفعل.
‘عندما كنتُ طفلة، كنتُ أحلم بحفلات الرّقص. لكن بعد تجربتها، ليست بالروعة التي تخيّلتُها.’
علاوة على ذلك، لم يكن شعور التّزاحم مع النّاس مُمتعًا. هل لأنني لستُ شخصيّةً اجتماعيّةً جدًا؟ على الرغم من أن مبنى منزل إيلين كبيرٌ نسبيًّا، كان الداخل مزدحمًا بالناس أينما ذهبتُ.
وجدتُ مقعدًا قريبًا وجلستُ عليه كما لو كنتُ أنهار. ثم خلعتُ حذائي سرًّا تحت تنورة الفستان، ووضعتُ أصابع قدمي المتورّمة على العشب.
‘آه، أشعر أنني عُدتُ إلى الحياة.’
كان قرارًا جيّدًا أن أتسلّل. بعد بضع دقائقٍ من الجلوس في حالة ذهول، بدأ مزاجي السّيء يتحسّن قليلاً.
بعد فترةٍ وجيزة، رأيتُ أشخاصًا آخرين يشعرون بإرهاق الحفل يخرجون إلى الحديقة للرّاحة. شعرتُ بحركة شخصٍ يجلس على المقعد خلفي، لكنّني تجاهلتُها. على أي حال، أنا الآن أجنبيّةٌ في حالة حداد، وحجابي يصل إلى صدري، لذا أيّ تعزيةٍ ستكون بضع كلماتٍ فقط…
“سمو الأميرة.”
“…”
“لا تتحرّكي وابقي جالسةً بهدوء. إذا كنتِ لا تريدين أن يكتشف الجميع في هذا القصر عن هُويّتكِ النّبيلة.”
التعليقات لهذا الفصل " 42"