لم يعرف النمس سبب هذا العرض، لكنّه كان يرغب بشدّةٍ في الخروج من هذا المكان المزعج فورًا.
لم يسأل الأعضاء متى سيعود. كأنّ هذا الموقف روتينيٌّ بالنسبة لهم، لم يلتفتوا حتّى نحو الرجل الذي بدأ يتحرّك ببطء، وبقوا في أماكنهم.
أخذ الرجل بندقيّة صيد، ومسدّسًا، وسكّينًا من على المكتب، ثم تقدّم نحو الدرج حاملاً الفانوس. كان يعرج قليلاً في بعض اللحظات، لكنّه سرعان ما يمشي بشكلٍ طبيعي، مما جعل الأمر يبدو غريبًا.
صرير. لم يمضِ سوى عشر دقائق في القبو، لكن عندما فُتح الباب، شعر النمس كأن نفسًا كان محبوسًا لعشر سنواتٍ قد تحرّر أخيرًا. والأهم من ذلك، اختفاء تلك الرّائحة الكريهة للحم المُحترق جعله يشعر أنّه عاد إلى الحياة.
“سيجارة؟”
التفت النمس، الذي كان يتنفّس بعمق، إلى الرجل. جلس الرجل على إطار نافذةٍ مغبر بجانب رفّ الكتب الذي أُغلق لتوه، وأخرج سيجارةً بيضاء من علبة سجائر فضّية وهزّها.
تردّد النمس قليلاً، ثم أخذ سيجارة. أشعل له الرجل الولاعة. استنشق النمس الدّخان بعمقٍ وأخرجه. شَعَرَ براحةٍ عميقة، لكن لسوء الحظ، ما إن استنشق الدّخان الثّاني حتى اختنق. كان الرجل قد خَلَعَ قناعه.
“كح، كح!”
ضحك النمس بسخريةٍ وهو يمسك بحلقه.
كان الرجل الذي خلع القناع شابًّا جدًّا. بدا أصغر بعشر سنواتٍ على الأقل. على الرغم من أنّه كان يعرف ذلك مسبقًا، إلا أن رؤيته بعينيه جعلت الشعور غريبًا. وكان وسيمًا بشكلٍ مذهل. لدرجة تجعل النّاظر إليه يشعر بالرهبة. وجهه الأبيض كالثلج، وعيناه الزرقاء المُخضرّة المتلألئة كالجواهر كانتا واضحتين لدرجةٍ تُثير القشعريرة.
كان مظهرًا خاصًّا يكسر في لحظةٍ تحيُّز النمس بأن الرجال طـوال القامة يجب أن يكونوا جميعًا ذوي مظهرٍ خشن. كان جميلًا بشكلٍ استثنائي دون الحاجة إلى إضافة أوصافٍ مُزخرفة.
بل إنّ جماله، الذي يُمكن وصفه بأنه كالشّمس، كان يبدو مُقدّسًا بفضل هالة شعره الفضّي الرقيق. لم يكن من الممكن تخيُّل أنه الشخص الذي اكتسب سمعةً سيّئةً بتعذيب السجناء السّياسيين والجواسيس في القبو.
“عيناكَ تقولان إن لديكَ شيئًا تريد قوله.”
كان لديه ما يقوله. لكنّه لم يملك الجرأة ليرمي نكتةً رخيصةً مثل ‘يا إلهي، أنتَ جميلٌ جدًّا. هاها، أجمل من معظم النّساء’ على شخصٍ يُعرف بـ’كلب صيد أوهالا’ في الأوساط السرّية.
“تساءلتُ فقط إن كان مِن الآمن خلع قناعكَ. سمعتُ أن إخفاء هويتك أمرٌ بالغ الأهمية…”
“هو مُهم. لكن قراءة الحروف من خلال تلك الثقوب الصّغيرة كالتّعذيب. ليس من المُستغرَب أن تسقط عيناي أثناء القراءة.”
ليس مرسومًا إمبراطوريًّا، إذن. هل يكشف عن هويّته النّبيلة فقط لقراءة رسالةٍ شخصيّة؟ (بس عشان لاريسا😔🤍)
من ناحيةٍ إيجابيّة، يُمكن اعتبار ذلك علامة ثقةٍ بالنمس نفسه… لكن، على عكس الأشخاص المتشدّدين الآخرين في هذا المجال، كان له نبرةٌ مرنةٌ وناعمة. رُبّما يكون شخصًا مُميّزًا بطريقةٍ غير متوقّعة.
كما قال، استنشق الرجل السيجارة بعمق، وبيده الأخرى فتح ظرف الرّسالة وبدأ بقراءة محتوياته. كانت الرّسالة من صفحتين.
كان يستند برأسه إلى النافذة المكسورة، مُمسِكًا بالرّسالة بهدوء، مما جعل من الصّعب تصديق أنه كان يستجوب جاسوسًا قبل لحظات. أخرج النمس دخان السيجارة وقرّر الاستمتاع بالرّاحة النادرة التي حصل عليها بعد أيّام.
معلومات النمس عنه قليلة.
بل، دعني أُصحّح. كان يعرف الكثير عن ‘فالنتين فلاديميروفيتش دميتريف’، اسمه الحقيقي وهويّته الحقيقيّة، لكنه كان يعرف القليل عن ‘كلب صيد أوهالا’، قائد وحدة هورغان. بدأ في هذا العمل منذ خمس سنوات. هو المسؤول عن وحدةٍ خاصّةٍ سرّيةٍ تم إنشاؤها قبل خمس سنوات. مهامه سرّيةٌ للغاية، لا يعرفها سوى عددٌ قليلٌ من كبار قادة أوهالا.
هذه ليست معلوماتٌ مُدهِشة. في الواقع، كانت هناك شائعاتٌ حول أهميّة وجود وحدة هورغان التي ينتمي إليها فالنتين. منذ تأسيسها، كانت مكوّنةً من خبراءٍ تم إلقاؤهم مباشرةً في العمليات. كانوا يُطاردون نوعًا من الجواسيس، لكن ليسوا جواسيس عاديين، وفقًا للرأي السائد.
بالتفكير في البابا والمتمرّدين الذين ذُكروا عابرًا في القبو، يمكن فهم سبب وصفهم بأنهم ليسوا عاديين. كما أن التعمّق في الموضوع لن يجلب أي فائدة. خاصّةً إذا أخذنا في الاعتبار أن قائد وحدة هورغان ليس سوى فالنتين، مرسول ديانة غافريل.
بعد فترةٍ وجيزة، طوى فالنتين الرّسالة. وضع الورق في الظرف الأصفر الجميل مرّةً أخرى، وبدلاً من حرقه، احتفظ به في صدره. بالطبع، كان هذا متوقّعًا. كانت هناك تعليمات مسبقة من الأعلى. ‘لا تتدخّل في كيفية تعامله مع هذا العنصر.’
“هل يمكنني السؤال مَن أرسل الرسالة؟”
لكن فمه كان فضوليًا.
كان فضوليًا بشأن مَن يمكن أن يرسل مثل ‘هذه’ الرّسالة إلى ‘هذا’ الرجل، ويجعله يتلقّاها مباشرةً في الموقع. بالطبع، جزءٌ منه أراد أيضًا محاولة التّحدّث بودّيةٍ مع فالنتين. بعد كل شيء، من المحتمل ألا يلتقيا مرّةً أخرى بعد اليوم. (مين غير حبيبته لاريسا يعني؟😉)
توقّع أن يُتجاهل أو يُوبّخ على سؤاله الطّائش. لكن ردّ فالنتين كان خفيفًا بشكلٍ غير متوقّع.
“أختٌ صغيرةٌ أعرفها.”
هل هي أخته؟ لكن، حسبما يعلم النمس، كانت عائلة فالنتين المباشرة تتكوّن من والدته المتوفّاة، وأخيه الأصغر، ووالده الدوق، فقط.
“يبدو أنها شخصيّةٌ عزيزةٌ جدًّا. هذه المرّة الأولى التي أنقل فيها مرسومًا إمبراطوريًّا ورسالة شخصيّة معًا.”
“صحيح. هل هذا كلُّ ما تريد قوله؟”
شَعَرَ النمس بالإحراج وهو يفرك مؤخرة رأسه. حتّى هو شَعَرَ أن جملتين كانتا قليلتين جدًا. بعد أن أكمل مهمته كمرسول، بقيت مهمةٌ واحدة.
“يجب أن أعود الآن. هل هناك أيُّ رسالةٍ تُريد مني نقلها؟”
نهض فالنتين ببطءٍ من إطار النافذة، والتقط القناع الخشبي الذي كان مُلقى على الأرض.
“هل تساقط الثلج في أوهالا؟”
“ماذا؟”
“أسألُ إن كان الثلج قد تساقط قبل مغادرتكَ من هناك.”
“لا، أتذكّر أن الطّقس كان صافيًا.”
نفض الغبار عن القناع طق، طق، ثم أعاد وضعه على وجهه.
بالتّأكيد، المشكلة في هذا القناع. بسبب هذا القناع الخشبي الغريب، بدت قامته النحيلة أكثر تهديدًا، وكتفاه أعرض، وببساطةٍ… بدا كمجنونٍ مختل.
“لن أودّعكَ. أتمنّى أن تصل بسلام. آه، وتخلّص من رماد السيجارة بنفسك.”
بعد هذه الكلمات، عاد فالنتين إلى القبو.
لماذا سأل عن الطّقس؟ فرك النمس رماد السيجارة المُتساقِط على الأرض وعاد إلى حصانه الأبيض. كان سعيدًا لأنه لم يُعطه مهمة إضافيّة، مما جعل عودته أكثر راحة.
“حسنًا… هيا نعود، يا جميلتي.”
استغلّ هدوء العاصفة الثلجيّة، ونزل من سفح الجبل عبر أنقاض القلعة.
سَقَطَ الثلج الأبيض على آثار حوافر الحصان في حقل الثلج، ماحيًا الأثر ببطء. كأن أحدًا لم يزر المكان. لم يبقَ سوى المبنى القديم الموحِش وحيدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 38"