كانت ليلةً مظلمةً اندلعت فيها عاصفةٌ ثلجيّةٌ رماديّة.
اخترق أغصان الشجيرات المنتشرة في كل الاتجاهات كمخالبٍ شيطانيّة، انطلق حصانٌ أبيض يرفرف ذيله الطويل.
على ظهر الحصان، الذي كان يعبر حقلًا ثلجيًّا في سفح جبلٍ لا يوجد فيه طريقٌ واضح، جلس رجلٌ يحمل حقيبة ظهر وبندقيّة على كتفه. كان الرجل يلتفت باستمرار لتفقّد محيطه أثناء الركض، حتى لمح فجأةً جدارًا أسود، فجذب اللجام.
“مهلاً، مهلاً.”
تباطأ، واقترب بحذر. عندما رفع قبعته البنّيّة الدّاكنة قليلاً، تفرقّ بخار أنفاسه البيضاء كصفّارة قطار. الجدار الذي اقترب منه بدا قديمًا ومتهالكًا، كما لو أنه صمد لقرونٍ عديدة.
ما تبقّى منه كان يشبه لوحةً تذكاريّة، نصفه مُغطى بكرومٍ جافّةٍ متشابكة، والنصف الآخر مدفونٌ تحت الثلج الأبيض، مما جعل شكله غير واضحٍ تمامًا.
لقد وجدتُه أخيرًا. تقدّم الرجل حول الجدار نحو الأرض المفتوحة.
في هذه الأرض، التي كانت يومًا حصنًا، لم يبقَ سوى جدارٌ مُدمّرٌ جزئيًا، ونقطة مراقبةٍ بائسة، وقلعةٌ قديمةٌ تحوّلت إلى طابقٍ واحد بعد أن تهدّمت طوابقها العلويّة.
دَفَعَ الرجل بابًا خشبيًّا متآكلًا يُصدر صريرًا ودخل إلى القلعة. وخزه الغبار الحاد في عينيه. كانت الممرات والغرف مقسمةً إلى أماكن مغطّاة بالثلج وأخرى خالية منه حسب وجود السقف من عدمه.
لم يكن هناك أيّ أثرٍ للحياة في هذا المكان.
ومع ذلك، داخل القلعة، رأى ستّة خيول. كانت الغرفة الوحيدة ذات السقف السليم تُستخدم كإسطبل.
رَبط الرجل حصانه بجانبها، ثم اقترب من الجدار المقابل ودفع رفّ كُتبٍ محطّمًا إلى الجانب. مع صوت تكسُّر، ظهر ممرٌ طويلٌ وباردٌ يؤدي إلى القبو.
ممرٌ لا يُمكن السير فيه دون مشعل. من نهايته، كان ينبعث نفَس الموت. لكن الرجل لم يخف. أحكم ربط حقيبته وبندقيّته، وأغلق رفّ الكتب خلفه، وتقدّم بحذرٍ في الظلام اللامتناهي، مُلتمسًا طريقه بأطراف أصابعه. استمرّ، واستمرّ، حتّى وصل إلى الأرض.
في لحظةٍ ما.
“مَن أنت؟”
شَعَرَ بحدٍّ باردٍ يُوضع على رقبته. لم يُبدِ الرجل أيّ ارتباك، رفع يديه بهدوءٍ وأجاب.
“أنا مرسول. جئتُ لتوصيل أمرٍ إمبراطوري.”
مع إجابته، فتّش في جيبه الداخلي وأخرج رسالة. في الظلام الذي بالكاد يُرى فيه شيء، انتزعت حركةٌ خشنةٌ الرّسالة من يده. بعد صمتٍ قصير، أُعيدت الرّسالة إلى يده.
“حسنًا. ما اسمك؟”
“النمس الأبيض ذو المسدّس.”
ومض ضوءٌ ساطعٌ كالبرق أمام عينيه.
الرجل، الذي أطلق على نفسه لقب النمس، عبس بشدّةٍ ورفع يده ليحجب رؤيته. رأى ضوء فانوسٍ أصفرٍ يتمايل بين أصابعه. سخر شخصٌ مجهولٌ منه وقال.
“البندقيّة على ظهركَ لا تبدو كمسدّس.”
“بندقيّتي ليست مسدّسًا، بل بندقيّة صيد، وأنا لستُ نمسًا، بل إنسان.”
“يبدو أن هذا الرفيق يعرف بعض النكات. تعالَ معي.”
أعاد النمس الرّسالة إلى جيبه وتبع الشخص المجهول إلى أعماق القبو. بعد اجتياز عدّة زوايا، رأى مشاعل صغيرة معلّقة على الجدران هنا وهناك، مما جعل الرؤية أوضح بكثير. مع هذا الوضوح، تفقّد مُرشِده بحذر. كان يرتدي زيًّا عسكريًّا أخضر داكنًا. رغم أنه متّسخ ومهترئ، كان زيًّا عسكريًّا من أوهالا بلا شك.
“آآآآآآآه!”
فجأة، انفجرت صرخةٌ مروّعةٌ من مكانٍ قريب. تابع الجندي السير دون اكتراث، ودفع النمس إلى داخل مساحةٍ مغلقةٍ بقضبانٍ حديديّةٍ كثيفة تشبه السجن.
“أيها القائد، لقد وصل المرسول.”
تنفّس النمس بعمقٍ وهو يُواجِهُ المشهد أمامه.
كان هناك عنفٌ أُحادي الجانب يُمارس. كائنٌ مُتضرِّرٌ كان معلّقًا بسلاسل مثبتة في السقف، وأمامه وقف جنديٌ ضخم الجثّة كان قد سكب دلو ماءٍ باردٍ للتو. بقع الدم المتجمّدة على الأرض، كالطين الجاف، كانت تشهد على أن العنف استمرّ هنا مرّاتٍ عديدة.
الشخص المُلقَّب بالقائد كان جالسًا على كرسيٍ خشبيٍ بجانب الجدار، كأنّه يُراقب كل شيء. كان استناده المريح إلى ظهر الكرسي يتناقض بشدّةٍ مع أجواء المكان. لهذا، أدرك النمس على الفور.
هذا هو ذلك الشهير…
“انقذني!”
كانت صرخةً مُختنقةً كأنها تنبعث من حلقٍ مملوء بالبلغم.
“مرسول الإمبراطور؟ انقذني! اخرجني من هنا! هؤلاء الأوغاد لا يُصدّقون كلامي أبدًا! أنا لستُ جاسوسًا للبابا ولا متمرّدًا! يا مرسول… عُد إلى الإمبراطور واخبره، مواطنكَ البريء هنا يتعرّض لتعذيبٍ مروّع…!”
صفعةٌ قويّةٌ كالصّخر ضربت وجه الرجل.
“أنتَ القمامة التي ألقت بالفقراء الأبرياء إلى النهر. هناك أمورٌ سرّيّةٌ لا يمكن الكشف عنها، لكنك خطّطتَ لأفعالٍ أكثر بشاعة. لذا، لا تعطف عليه، يا أخي.”
دفع شخصٌ ما ظهر النمس. ابتلع النمس ريقه وخطا ببطءٍ نحو الرجل المُلقَّب بالقائد.
تقابلت أعينهما. أو رُبّما كان يعتقد ذلك.
كان الرجل يرتدي قناعًا. قناعًا خشبيًّا مصنوعًا بإهمال. كانت فتحات العينين ضيّقة لدرجة أنها تكاد تسمح فقط برؤية ما أمامه مباشرة، وكان هناك شقٌّ بيضاوي مماثل حول الأنف والشفتين.
كان مظهره غريبًا لدرجة أن مجرّد النظر إليه يُثير القشعريرة ويجعل الشخص يشعر بالضعف. وإذا كان المكان عبارةً عن غرفة تعذيبٍ مليئةٍ بالصرخات والدم، فإن الحفاظ على الهدوء سيكون أمرًا شاقًا.
ناهيك عن أنّه بعد أن أدرك أن الرجل النّحيل يُقارب طوله 190 سم، كان الأمر أكثر إثارةً للرهبة.
حدّق النمس في الرجل وهو يقترب في ذهول. وعندما مدَّ الرجل يده الملطّخة بالدم، أخرج النمس رسالتين كانتا مخبأتين بعنايةٍ في جيبه الداخلي القريب من قلبه.
لم تكن رسالةً واحدة، بل اثنتان.
إحداهما كانت على ورقٍ فاخرٍ لا يستخدمه إلا الأثرياء عادةً. كان على الظرف المُستطيل ذي اللون الأرجواني الفاتح ختمٌ شمعيٌّ يحمل شعار عائلة نوفاروف الإمبراطوريّة.
مرسومٌ إمبراطوري. أمسك الرجل بهذا العنصر الثمين بلا مبالاة، وألقاه في جيب بنطاله بعشوائيّة، ثم مدَّ يده مرّةً أخرى. تردّد النمس، غير متأكّد من المعنى، ثم أخرج الرّسالة الثانية التي كان يمسكها.
“لم يُخبروني بما تحتويه هذه… قالوا فقط إنك ستعرف فور تسليمها إليك.”
شَعَرَ النمس بشعورٍ غريبٍ وهو يُسلّم الظرف الورقي الأصفر.
لم ينتبه في البداية، لكنّه عندما أخرج الظرف في القبو الرّطب والكريه الرائحة، أدرك على الفور. كان الظرف ينبعث منه رائحة زهورٍ ناعمةٍ وعطرةٍ تجعل الأنف يشعر بالحكة. كانت الرائحة مُميّزة لدرجة أنها جعلت رأسه يدور.
شم، شم.
شمَّ شخصٌ ما بقوّة.
“رائحةٌ تثير الحكة… هل هناك امرأة؟ هل هذا شيءٌ من امرأة؟”
كاك، تفو!
بصق دمٌ متجمّدٌ على الأرض. ضحك الرجل المُعلَّق على السقف باستهزاءٍ وهو يرمق بعيونٍ مجنونة.
“هاها! لديه امرأة؟ أيها الأحمق. يصنع نقطة ضعفٍ بيديه! هل تعتقد تلك المرأة أنّك صيّادٌ عالقٌ في قبوٍ قذرٍ تتعامل مع جثث اللحم؟ هل تعلم أنّكَ شيطانٌ لا يرمش عند قتل الناس؟ هاها… هذا مُمتع… إذا انتشرت إشاعةٌ أن لدى الشّهير في أوهالا… امرأة، فلن تستطيع تلك المرأة أن تُغمض عينيها بسلام…”
في البداية، ظَنَّ النمس أن أُذنَي الرجل المُقنَّع قد أصيبتا بضررٍ كبير. وإلا، كيف يُمكن لشخصٍ يتعرّض لمثل هذه السخرية المسيئة أن يظلّ دون ردّ فعل، يضع الظرف الأصفر تحت إبطه، ويُخرج المرسوم الإمبراطوري المُجعّد ليفحصه؟
لم يُظهر الرجل أيّ اضطراب. وَقَفَ كتمثالٍ وهو يتفحّص المرسوم، ثم أخرج ولاعةً وحرق الورقة. تشييجيك. بعد أن تناثر الرّماد الأسود على الأرض، مرَّ الرجل بجانبه ببراعة، ثم توقّف فجأةً وأدار رأسه.
التعليقات لهذا الفصل " 37"