“حسنًا، لقد أدركتُ جيدًا أن سموّكِ قد درست عنّي بإمعان، لكنني، في المقابل، لا أعرف عن سموّكِ الكثير. وبما أن الأمر يتحقّق من طرفٍ واحدٍ فقط، يبدو من الصّعب اعتبار ذلك تلبيةً للشرط الثالث.”
“أنتَ أيضًا تعرفني جيدًا، أليس كذلك؟”
“هل هذه أمنيتكِ، سموّكِ؟”
إن الشعور بالنظر عن قرب إلى وجهٍ جميلٍ بغيضٍ يستفزّني بوقاحة، هو شعورٌ مضاعف بالضيق لا يُضاهى. أخذتُ وقتًا للتفكير مرّةً أخرى بعمق. وبعد تأملٍ، احتفظتُ باعتذارٍ قصيرٍ لأمّي في صدري، ثم فتحتُ فمي.
“أنتَ… مُنقذِي الذي أخرجني من غرفة اشتعلت فيها النيران. بل ويُقال إنكَ لعبت دور الفارس لبضعة أيّامٍ بعد ذلك اليوم، أليس كذلك؟ فكيف يمكنكَ أن تزعم أنك لا تعرفني؟”
نظرت عينَا فالنتين، التي كانت تحدّق في وجهي، أخيرًا إلى الأمام للمرّة الأولى، مُبتعِدةً عنّي.
ساد صمتٌ قصير. وبعد لحظات، هزّ فالنتين، بوجهٍ خالٍ من التعابير لا يُدرك ما يفكّر فيه، الكيس الورقي، ثم أفرغه في فمه! كان تصرّفًا طفوليًا سخيفًا لدرجة أنني ما كنت لأتفاجأ لو أنه كبر في السنّ بشكل عكسي.
“مهلًا! من يبتلعها هكذا دفعةً واحدة؟”
“واحد، اثنان… بقي سبعة. إذن، هل جئتِ لتعبّري عن امتنانكِ، سموّكِ؟”
سبعة؟ هل أكل كل التوت؟ هذا الأحمق يتصرّف كما لو أن 300 قطعةٍ ذهبيّة تنمو على الأشجار! قفزتُ غاضبةً، ووقفتُ أمامه لأحجب رؤيته.
“لماذا تدفعني بعيدًا هكذا؟”
“…”
“أنا… فالنتين الذي رأيتُهُ، ولو للحظاتٍ قصيرة، ليس شخصًا يُلقي نبوءةً مثل ‘ليس لكِ مستقبل’ بـنيّة تخويفي، حتّى لو كان يمزح بطرقٍ أخرى. لهذا قضيتُ الأيام الأخيرة أفكّر. إن لم يكن هدفكَ مضايقتي، فما الذي كنتَ تفكّر فيه عندما فعلتَ ذلك؟ لماذا همستَ لي سرًّا بعيدًا عن أعين الناس؟”
“…”
“لقد أجبتَ عن ذلك من قبل.”
نعم، لقد قالها أمامي بالفعل. قبل أسابيع، في حديثه مع فاسيلي، قال فالنتين بوضوح.
[المستقبل ليس قدَرًا، إنه ليس كارما ثابتة يجب تقبّلها كما هي. لو كانت نبوءتي تحمل أمرًا لا يمكن رفضه، لكان أكثر من خمسة آلاف من سكان مملكة تشيرينسكو قد غرقوا جميعًا في الفيضان العظيم. لكنهم أحياء، أليس كذلك؟]
[إذًا، أخبرتني أنا وحدي بهذه النبوءة بدافع اللطف أيضًا؟]
[يمكنك اعتبار الأمر كذلك، لكنني في الواقع اخترتُ الطريقة الأمثل لتجنّب أسوأ مستقبلٍ ممكن.]
كانت الإجابة بسيطة بشكلٍ مفاجئ.
“لأن معرفتي بموتي هي الوسيلة المثلى لتجنّب أسوأ مستقبل.”
“ما رأيك؟ لقد أصبتُ الهدف تمامًا، أليس كذلك؟ توقعتَ أن أغرق في الاكتئاب وأذرف الدموع بعد إعلانكَ عن موتي، ثم أغضب منك، لكنني لم أفعل، ففاجأتكَ، أليس كذلك؟”
حاوِل الإفلات هذه المرة إن استطعتَ. حدّقتُ فيه بنظرةٍ حادّة.
“هل هذه الإجابة من رأسكِ، سموّكِ؟”
“نعم.”
تنهّد بعمق، وهو أمرٌ نادر منه.
“أنتِ ذكيّةٌ جدًا. إجابةٌ صحيحة.”
جذبني فالنتين من يدي وأجلسني على ركبتيه. وأنا أستند بظهري إلى صدره الواسع، محدّقةً إلى الأمام بهدوء، تذكّرتُ اليوم الذي ركبنا فيه الفرس معًا. لم أُظهر ذلك، لكنني كنتُ مصدومةً تمامًا. فالنتين ليس من النوع الذي يعترف بهذا الوضوح!
ضمّني إليه أكثر، وهو يُربّت على ذراعي، وأجاب بنبرةٍ رقيقةٍ غير معتادة منه.
“من المحتمل أن يكون ذلك ممكنًا.”
“لكن لماذا تهرب إذن؟ ألم تقل إن موعد دراستك في الخارج قد تقدّم؟ كيف تخبرني أنا وفاسيلي بمستقبلٍ كئيب كهذا، ثم تفرّ هاربًا؟ ألا تملك أدنى قدرٍ من المسؤولية؟ حسنًا، لستُ أقول إنك تفتقر إليها تمامًا، لكن مع ذلك…”
“لستُ أهرب. أنا ذاهبٌ للإنقاذ.”
“لإنقاذ مَن؟”
“أيّ شخص. هذا… كيف أقول؟ إنها كلمةٌ لا أحب نطقها، لكن يُمكن تسميتها بـ’المهمة’ أو ‘القدر’.”
المهمة والقدر.
رفعتُ رأسي لأنظر إلى تمثال المرأة المقدّسة الذي يرتفع خلف المنصة. في البداية، شعرتُ أن نظرتها الهادئة كانت تحتضن كتفي فالنتين، لكنني الآن أراها بشكلٍ مختلف. ألم تكن تلك النظرة تراقب العبء الثقيل الملقى على كتفيه بدلاً من احتضانه؟
فكّرتُ في قوة التنبؤ التي يمتلكها فالنتين، الوحي. وشعرتُ بقليلٍ من الندم على تصرفاتي الطفوليّة. كم عدد الأشخاص الذين أنقذهم فالنتين؟
حتّى في تفكيري الطفولي، بدت لي قوّة التنبؤ قدرةٌ لا حاجة لاستخدامها بإيثار. كل البالغين الذين أعرفهم يستغلّون الناس للسيطرة على المزيد من السلطة والثروة في المستقبل. يستخدمون قوّتهم.
لكن اليوم، بدا فالنتين في عينيّ مختلفًا عنهم. بل شعرتُ أنه مدفوعٌ بإكراهٍ داخلي ليكون كذلك. وفي كلمةٍ عابرةٍ نطق بها…
“إذا لم يكن هناك سببٌ حتّى لتمتعي بهذه القوة…”
أراح جبهته على رأسي، متوقّفًا عن الكلام. ساد صمتٌ قصير، ثم هبطت همهمةٌ دافئة كالتنهيدة فوق رأسي.
“يبدو أنني أتقدّم في السن. ها أنا ذا، أنوح على رقّة قلبي في التعامل مع طفلة.”
“أنا أستطيع أن أسمعك، كما تعلم.”
“إذن، استمعي أكثر. وجودي معكِ، يجعلني غير مرتاح. لا أعرف ماذا ستفعلين. عندما أكون معك، أشعر وكأنني في السابعة عشرة.”
“للتوضيح، أنتَ بالفعل في السابعة عشرة. وأنا في الثالثة عشرة. عبقريّةٌ في الثالثة عشرة، متكافئةٌ معك عقليًا.”
والفارق بيننا أربع سنواتٍ فقط. ولكن ما أهميّة العمر بين الأصدقاء؟ مددتُ أصابعي الأربعة ولوّحتُ بها نحو رأسي، حيث خمنتُ أن أذنه قد تكون ملاصقةً لي.
“أفهم شعورك. أنا أيضًا أشعر أحيانًا وكأنني في الثالثة والعشرين وليس الثالثة عشرة. كما تعلم، لا يوجد في أوهالا طفلةٌ ناضجةٌ ولبقة وعبقريّة مثلي. لذا لا داعي للقلق، فالنتين. سأظلّ على قيد الحياة دون أن أموت مبكرًا، وسأنقذ فاسيلي وتانيا، وإيفان كمكافأة.”
“…”
“في الحقيقة، قد يكون مُبكّرًا للحكم، لكن قراءتي لكتاب <عن الجَنّة> لفاسيلي تبدو فعّالة جدًا.”
وفجأة، رنّت في ذهني جملةٌ مألوفة.
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
أتعلم، فالنتين؟ هل أردتَ أن تقول إنني بلا مستقبل؟
هل رغبتَ في الحديث عن مستقبلٍ زائلٍ لأميرةٍ نبيلةٍ -مستقبلٌ لا يمكنكَ البوح به بسهولةٍ لأحد- حتى لو كان لطفلةٍ رضيعة؟ هل كنتَ تأمل أن يُنصت أحدٌ إلى المستقبل الذي رأيتَه؟
الآن قد تكون الفرصة المثالية لسماع إجابات كل هذه الأسئلة. رتبتُ أفكاري، وهيأتُ صوتي، ثم فتحتُ شفتيّ.
“فالنتين، عندما أنقذتني وأنا طفلة…”
“ما هي الفكرة المفاجئة التي جعلتكِ تبدئين بالحديث عن الجَنّة مرّةً أخرى؟”
فجأة، سمعنا صوت فتح الباب. قفزتُ مذعورةً من حضن فالنتين، ووقفتُ متصلّبةً.
كان ذلك تقريبًا في نفس اللحظة التي انفتحت فيها الأبواب الثقيلة العريضة، من بين أبواب قاعة الصّلاة المزدحمة، بقوّة. والذي دخل منها ليس سوى أخي فاسيلي، الذي كان من المُفترض أن ينتظرني في قاعة الصّلاة المركزيّة بالطابق الأول.
التعليقات لهذا الفصل " 31"