كان تمثال امرأةٍ بيضاء، تحتضن سلّة، يقف خلف المنصة، ينظر إلى فالنتين بنظرةٍ حنونة. لم أشعر بأدنى حركةٍ منه. كان هادئًا لدرجة أنني كنتُ سأظنّه جثّةً لو لم أقترب وألاحظ، ببطء، أن كتفيه يرتفعان وينخفضان.
تقدّمتُ بحذرٍ شديد، وجلستُ بجانب المنصة. عندما رأيتُ فالنتين راكعًا على بعد سبع خطواتٍ فقط، يجمع يديه بأناقة، شعرتُ بمشاعر متضاربة.
لكن عادةً ما يُطلق على مثل هذه المواقف اسم الكارما. أو بعبارةٍ أخرى، تحصد ما تزرع.
نظرتُ إليه كـفلّاحةٍ تجمع حصادًا متواضعًا، وفتحتُ شفتيّ بحذر.
“فالنتين.”
لم يتحرّك. رُبّما كان صوتي خافتًا جدًا. تقدّمتُ ثلاث أو أربع خطوات ورفعتُ صوتي قليلاً.
“افتح عينيكَ، فالنتين.”
انطفأ الصمت.
كان مشهد حركته يُشبه لوحة. لم تكن لوحةً مائيّة، بل زيتيّة، عميقة وغنيّة. لم تكن لوحةً طبيعيّة، بل ساكنة، واضحة وحادّة. ظهر أنفه الطويل والنحيف، وشفتاه المُغلقتان بإحكام. عندما ارتفعت جفناه ببطء، كما لو كان صندوق باندورا يُفتح، شعرتُ وكأن إعصارًا أزرقًا مخضرًّا يجتاح بشرته البيضاء.
تركّزت عيناه المشوّشتان على وجهي، وومضتا بحدّة. في تلك اللحظة، كان نظره كما لو أن أشواكًا تلتف حول ساقيّ.
تجمّدتُ في مكاني، راكعة، غارقة في توتّرٍ لا يُمكنني وصفه. ظلّ فالنتين ينظر إليّ دون أن ينبس بكلمةٍ لفترة. عاد الصمت المنطفئ ليشتعل مجددًا، واستمرّ، واستمرّ، حتّى فتح شفتيه أخيرًا.
“لاريسا.”
على الرّغم من نبرته الهادئة، شعرتُ وكأن صاعقةً ضربت حلقي. فَتَحَ شفتيه مرّةً أخرى.
“هل أنتِ لاريسا الحيّة، أم لاريسا المَيتة؟”
هذه المرّة، انسد حلقي من سخافة السؤال.
“آسفة لتخييب ظنّك، لكن هذه ليست الجَنّة.”
“هذا مُطمئن.”
ألقى عليّ نظرةً بطيئةً وواسعة، وبصوتٍ منخفضٍ ومهيب، كما لو كان يُقدّم صلاة، هَمَسَ.
“زي الكاهن يناسبكِ كأنه خُلِقَ لكِ. إذا انضممتِ إلى الكنيسة الكبرى، سيجعل النّاس أيديهم وأرجلهم سوداء سعيًا لنيل بركة الملاك.”
“هل كنتَ مركّزًا في صلاتكَ لدرجة أنّك لم تلاحظ وصولي؟”
“لا، كنتُ أغفو قليلاً.”
آه… حسنًا، فالنتين بشري أيضًا، يمكنه أن يشعر بالنعاس. بالطبع.
لا أعرف أيّ تعبيرٍ كان على وجهي، لكن فالنتين، مُتجاهلاً ذلك، نَهَضَ ببطءٍ وتمدّد طويلاً. عندها فقط لاحظتُ زي الكاهن الذي يرتديه.
على عكس الكرادلة الآخرين، كان يرتدي رداءً أبيضًا مُزيّنًا بحزامٍ ذهبي. كان مختلفًا تمامًا عن فالنتين النبيل الذي أعرفه من أوهالا. بشرته البيضاء، شعره الفضّي المتدفّق كالنّهر، وجههُ النقي كوجه سيّدة، وخدوده المحمرّة قليلاً جعلته يبدو كتجسيدٍ لمرسولٍ مقدّس.
قد يبدو التعبير مضحكًا، لكن بالمقارنة مع الأسقف بارفن، الذي يُشبه رجلاً عاديًّا من الجيران، كان فالنتين ينضح بهالةٍ مقدّسةٍ وأنيقةٍ لا تُضاهى.
لهذا السبب، وبعد أن تسلّلتُ بجرأة، شعرتُ بالرهبة ولم أستطع حتّى فتح فمي. أؤكّد أنه حتّى لو كانت تاتيانا هنا، لما كان الأمر مختلفًا كثيرًا. كان الفارق بين فالنتين الذي أعرفه وهذا الوجود أمامي كبيرًا لدرجة أنني تساءلتُ إن كان عليّ استخدام لهجةٍ رسميّة.
لكن شعور الغرابة لم يدم طويلاً. عندما تحرّك فالنتين نحو الحائط كالماء المتدفّق، وأخرج كيسًا ورقيًّا بنيًّا من حقيبةٍ ملقاة، تحطّم توتّري في لحظة.
عبث في الكيس، وأخرج شيئًا ثم وضعه في فمه بلا مبالاة. كان توتًا مُجفّفًا. يا للهول!
“تبدو مستمتعًا. هل تخلّيتَ عن الصوم أيضًا؟”
“نعم، لستُ مؤمنًا لدرجة أن أجوّع نفسي.”
وضع ساقًا فوق الأخرى وجلس على كرسي خشبي مهترئ قريب منه.
كانت الغرفة مزيجًا غريبًا من الأشياء القديمة والثمينة، مما جعلني أشعر وكأنني في عالمٍ آخر. بينما كان يمضغ التوت ببطء، كـمَن يمضغ العلكة، نظر إليّ وقال.
“إذا أكلتُ كل هذا التوت المجفف…”
“هل ستشرب الحليب أيضًا؟”
“لا، سأصرخ.”
ماذا؟ نظر إليّ، مذهولة، وأكمل بلا مبالاة.
“عندها، سيهرع كل الكهنة من الطابق السفلي. هذا المبنى خشبيٌّ قديمٌ مُغطّى بالرخام فقط، لذا الصوت ينتشر بسهولة.”
“هل تُهدّد فتاةً في الثالثة عشرة الآن؟”
“لديكِ عادةٌ دنيئةٌ تتمثّل في التأكيد على عمركِ اللطيف عندما تكونين في موقف ضعف، صاحبة السمو. نعم، إنّه تهديد. لذا، انهي أمركِ بسرعةٍ وغادري. الوقت المُحدّد هو حتّى يفرغ هذا الكيس.”
كان فالنتين يرمي حبّات التوت الحمراء في فمه، ساقاه متقاطعتان، دون أيّ أثرٍ لهدوء الكهنة المعتاد. تفحّص وجهي الصامت لفترة، ثم سأل بسخرية.
“ألن تقولي إنكِ جئتِ بدون سبب؟ فقط لأنكِ اشتقتِ إليّ؟”
ليس صحيحًا! عندما يكون لديّ أمرٌ مهم، أُرتّب كلامي جيّدًا قبل البدء. هدأتُ أعصابي، ومع استعادة رباطة جأشي، وضعتُ ذراعيّ متقاطعتين وبدأتُ.
“لقد فكّرتُ كثيرًا في سبب إعطائكَ تلك النبوءة لي.”
“في الحقيقة، يُمكن وصف علاقتنا بأنّها أقرب من صداقةٍ عاديّة. لتكوّن صداقةً حميمة، هناك ثلاثة شروطٍ يجب تحقيقها، ونحن نستوفيها جميعًا.”
“أنا مُهتمٌّ حقًا بمعرفة هذه الشروط.”
“أوّلاً، التواصل المُنتظِم. نحن نتبادل الرسائل، أليس كذلك؟ ثانيًا، وجود أسرارٍ مشتركة. صحيحٌ أن فاسيلي متورّط، لكن ثلاثةٌ أو اثنان لا فرق. أخيرًا، معرفة طفولة بعضنا جيّدًا.”
ابتسم بسخريةٍ خفيفة.
“يبدو أنكِ تعرفين طفولتي جيدًا.”
“نعم، لقد درستُها. مُؤسّس عائلة دميتريف هو أيضًا أحد أسلافي، بافيل نوفاروف، الذي حصل على لقب دوقٍ قبل 180 عامًا لإنجازاته. والدتكَ، الدوقة السابقة، كانت أميرةً من مملكة أوبلونسكي، وجدّتكَ أميرةٌ من مملكة تشيرينسكو. لديكَ صِلاتٌ وثيقةٌ بهاتين المملكتين. وكان لديكَ أخٌ أصغر…”
“يكفي إلى هنا. أقنعتِني. مِن أين حصلتِ على كل هذا؟”
“مِن تانيا… ورُبّما إيفان؟”
نَظَرَ إليّ بوجهٍ يقول إن كل شيءٍ واضح. حتى لو لم يتدخّل، كان هذا كل ما أعرفه. لقد وصلتُ إلى الكنيسة الكبرى بحثًا عن مزيدٍ من المعلومات.
التعليقات لهذا الفصل " 30"