استقرّ صمتٌ طويلٌ وثقيلٌ على الطاولة. تنقّلت أنظار الحاضرين بين أبي وأمّي وبيني. رُبّما اعتقد الجميع أن النبوءات كانت واضحةً ومباشرةً… حتّى وصلت إلى دوري.
وضع أبي كأس النبيذ التي في يده ببطءٍ على الطاولة، وسأل فالنتين.
“الكونت فالنتين، لماذا نقلتَ نبوءة لاريسا سرًّا دون إعلانها علنًا؟”
“كان ذلك السبيل الوحيد لإتمام نبوءة صاحبة السمو الأميرة.”
التقى نظري بنظر فالنتين.
أدركتُ حقيقةً واحدةً بوضوح، أبي لا يعلم شيئًا عن مستقبلي.
نظرتُ إلى فاسيلي. كان يُحدّق بي بالفعل، لكن تعبير وجهه لم يكن مطمئنًا. كان قناع فاسيلي مشروخًا نصفه تقريبًا، وهذا جعلني أتأكّد من حقيقةٍ أخرى. لم يُخبره أحدٌ مسبقًا عن هذا الموقف، وهو أيضًا لا يعلم شيئًا عن المستقبل الذي سأواجهه.
فجأة، اجتاحني شعورٌ بالراحة، كموجةٍ ضربت قلبي، فطغت على كل تساؤلاتي وتوتري.
‘آه… يا لها من راحةٍ حقًّا.’
مجرّد أن عائلتي لا تعلم بموتي جعلني أشعر بهذا الاطمئنان العميق. لكن بينما كنتُ غارقةً في هذا الشعور، فتحت تاتيانا، التي بجانبي، فمها بنبرةٍ حادّةٍ بعد أن تفحّصت وجهي بعناية.
“أعتذر عن إفساد هذا الموقف المهيب، لكنني لا أستطيع قبول هذا، أيها الكونت.”
“مهما كانت النبوءة التي قالها لكِ، اخبريني بها كلّها، لارا.”
“تانيا.”
وبّختها أمّي. لكن تاتيانا، ولأوّل مرّةٍ منذ سنوات، ردّت على أمي بانفعال.
“لماذا؟ لاريسا مجرّد طفلةٍ تجاوزت العاشرة بقليل! مَن يعرف ما الذي قاله هذا الوغد لها؟”
لم أتجاوز العاشرة بقليل، للعلم. (بلوفي: عمرها 13 سنة)
بفضل هذا، وجدتُ نفسي في وسط جدالٍ عائليٍ حادٍّ قبل أن أغرق في مشاعر أنني مُقيدةٌ بزمنٍ محدود.
“احترسي في كلامكِ، تانيا. أنتِ تعلمين كم شخصًا موجود هنا. النبوءة يمكن مناقشتها لاحقًا…”
“لا يهم كم شخصًا موجود! مَن يُعلّم أختي الصغرى معاني ألقاب دنيئة مثل ‘عا*ـرة’ وما شابه، أليس وغدًا؟ أم يجب أن أدعوه مُعلّمًا، يا إيفان؟”
رفضت تاتيانا حتى محاولة إيفان لتهدئتها، ونظرت إليّ مجددًا.
“لارا، نحن حُماتكِ. من واجبنا حمايتكِ من أي تهديد، ومن كل ما قد يهدّدكِ. بصراحة، إن حقيقة أن نبوءةً لم يُعلن عنها علنًا قد أُعطيت لكِ، أنتِ الأصغر هنا، تُشعرني بعدم ارتياحٍ شديد. لدرجة أنّها تكاد تكسر أي ذرة ثقةٍ كنتُ أُكنّها للكونت فالنتين.”
أعرف جيدًا كيف يجب أن أتصرّف في مثل هذه المواقف.
“اخبري أختكِ. ما الذي قاله لكِ مرسول ديانة غافريل؟” (بلوفي: مرسول ديانة غافريل هو نفسه فالنتين)
استعدتُ ذكرى قديمة.
يومٌ تدفّق فيه الدم كالنهر على السجادة.
وجهٌ يقف حاملاً سيفًا، دون أيّ شعورٍ بالذنب.
لم تكن تلك الحادثة الأولى. لقد خرق فاسيلي وعده معنا ‘المعاقبة دون إراقة دم’ ثلاث مرّاتٍ بالفعل. كانت المرّة الثالثة ذات أثرٍ كبيرٍ بشكلٍ خاص.
لأن فاسيلي، أمامي وأمام إيفان مباشرة، وبدون تردّد، قتل إنسانًا.
[لم أعد أتحمّل هذه الأفعال المجنونة، يا أخي! هل البشر في عينيكَ مجرّد حيوانات؟ تقطع رأس إنسانٍ لمجرّد أنه تلعثم أمامكَ، ألا تشعر بأي ذنب؟]
تلك الذكرى لا تزال محفورةً بوضوحٍ في ذهني.
كان إيفان يصرخ، وهو يحجب عن عينيّ رؤية الخادم الذي ينزف ويسقط. فاسيلي، دون أن يترك السيف من يده، حدّق بصمت في وجه إيفان.
[إذا أصبحتَ إمبراطور أوهالا، ستصبح أنهار الإمبراطوريّة مليئةً بالدماء الحمراء من الجثث. لن أسمح أبدًا… لمجنونٍ متعطّش للدماء مثلكَ…!]
في خضم ذلك الضجيج الذي هزّ القصر، هرع رئيس الخدم وأمّي إلى الغرفة. نظرت أمّي إلى الأرض بوجهٍ شاحب، وأمرت رئيس الخدم.
[اغلق الباب، واصطحب جلالة الإمبراطور إلى هنا. لا يجب أن يعرف أحدٌ بهذا الأمر.] [حاضر.]
وصل أبي في أقل من خمس دقائق، ودفع الباب بعنف. نظر إلى الجثة ثم إلى فاسيلي دون كلام، ثم تحدّث بنبرةٍ قاسيةٍ كأن أسنانه تصطك.
[فاسيلي، اشرح بنفسك. يجب أن يكون تفسيرًا مقنعًا لي.]
في تلك اللحظة، كان عقلي ممتلئًا بفكرةٍ واحدةٍ فقط.
يجب أن أحمي فاسيلي. إنه أخي. يجب أن أساعده.
[تكلّم، فاسيلي.]
دون أن يُلاحظ أحد، رفعتُ يدي وغرستُ أظافري في مؤخّرة عنقي. بعمقٍ وسرعةٍ. ثم فتحتُ فمي ببطء.
[فاسيلي!]
[…الخادم.]
شعرتُ بالأنظار الحادّة تتركّز عليّ، فابتلعتُ ريقي. ثم قلتُ كذبةً لن أستطيع تكرارها في حياتي.
فحص أبي العلامات الصغيرة التي تركتها أظافري، ثم ضمّني إليه، شاكرًا أن شيئًا لم يحدث. عبر كتفه، التقطت عيناي عينَيّ فاسيلي. كان ينظر إليّ بعيونٍ خاليةٍ من أيّ عاطفة.
لماذا قتلتَ الخادم؟
هل فعلاً جُننتَ؟ هل أنتَ مجنون حقًا؟
كنتُ أريد أن أسأل، لكن لساني لم يتحرّك. في ذلك اليوم، اجتاحت عاصفةٌ قويّةٌ القصر. صدر مرسومٌ بتفتيشٍ واسعٍ لاستئصال الجواسيس، وتم تدقيق هويّات الجميع.
لا أعرف ما كانت النتيجة. كنتُ في العاشرة فقط، ولم يكن من المُمكن أن تصل إلى أُذني أسرارٌ داخليّةٌ كهذه.
لحسن الحظ، منذ ذلك اليوم، لم يقتل فاسيلي أحدًا.
لكنه بدلاً من ذلك، ارتدى قناعًا مثاليًّا. قناعًا يجعله يبدو كإنسانٍ عادي. هل كان ذلك ندمًا على أفعاله الوحشيّة؟ الاحتمال ضئيلٌ جدًا.
حافظ إيفان على الصمت بشأن كذبتي. رُبّما حتّى الآن. لستُ متأكّدة، لكنني أعتقد أن رغبته لم تختلف كثيرًا عن رغبتي في حماية العائلة.
منذ ذلك اليوم، بدأنا، أنا وإيفان، نبتعد عن بعضنا ببطء. لم أجرؤ على سؤاله إن كان ذلك بسبب فاسيلي. كنتُ أخشى أن يُعاد فتح ذلك الموضوع.
‘أنا… أعرف كيف أحمي عائلتي التي أحبّها.’
الحقيقة ليست دائمًا ما يحمينا.
أحيانًا، نحتاج أن نسلك طريقًا ملتويًا قليلاً.
ثلاث حقائقٍ وكذبةٌ واحدة. النقطة المهمّة هي: لا تخافي من احتمال فقدان ثقة من تحبّين.
“شكرًا، تانيا. لكن لا بأس. لا تعاتبي الكونت فالنتين كثيرًا. كل ما فعله هو محاولة حماية شرفي.”
“شرفكِ؟”
“نعم. النبوءة التي تلقّيتها تشبه نبوءة إيفان. سأرتكب خطأً كبيرًا في المستقبل، خطأ سيترك عارًا عليّ وعلى العائلة الإمبراطوريّة. ما هو هذا الخطأ… حسنًا، سأخبركِ لاحقًا، ليس الآن.”
“هل هذا صحيح؟”
أومأتُ برأسي بوجهٍ يوحي بأنّه لا مجال للشك.
لكن تاتيانا، كما أعرفها، من أكثر الناس ذكاءً وفطنة. وكما توقعتُ، لم تنجح حيلتي في تبديد شكوكها. بل ارتفع صوتها، لأوّل مرّةٍ منذ زمنٍ طويل.
“لارا! هل يمكنكِ أن تقسمي أنه لا توجد ذرة كذبٍ في كلامكِ…؟”
“كفى.”
كانت نبرةً حاسمة. أغلقت تاتيانا فمها، وسحبت نفسًا عميقًا، ونظرت إلى أبي.
التعليقات لهذا الفصل " 25"