في اليوم التالي لظهور أكثر من مئة سيّدةٍ لأوّل مرّةٍ في المجتمع الراقي، بدأ موسم السهرات الاجتماعيّة فعليًا. حتّى أنا، التي لم أشارك في حفل الظهور الأوّل، كنتُ أسمع عن مختلف المناسبات التي ينظمها مضيفون متنوّعون في أماكنٍ متفرّقة.
لم أرَ بعينيّ تلك الحفلات الراقصة الفخمة أو جلسات الشاي والعشاء المعقّدة، لكن كلمات فاسيلي الموجزة، التي وصف بها المشهد خارج القصر بعد عودته من نزهته الظهريّة، جعلتني أشعر وكأنني كنتُ حاضرةً في تلك التجمعات بنفسي.
“شارع سانتوريتو كان مكتظًا بالشباب والشابات.”
“مع كل خطوة، كانت روائح عطورٍ مختلفةٍ تملأ الأجواء، وكأن لافتاتٍ تحمل أسماء سيّداتٍ غريبات تتراقص أمام عينيّ.”
“لو تأخّرتُ ثانيةً واحدة، لكنتُ حُشرتُ وسط الحشود دون أن أتمكّن من تحريك قدمي. هذه ليست مبالغة، صدّقيني.”
لو أن ولي العهد، بلا خطيبة، خرج للتنزّه وحيدًا في شارع سانتوريتو، لكنتُ أنا نفسِي اندفعتُ لمشاهدته بدافع الفضول.
أبي، أمّي، فاسيلي، تاتيانا، إيفان– كان الجميع منشغلين بيومٍ حافل. أما أنا، فكنتُ الوحيدة التي قضت يومًا عاديًّا كالمعتاد، أنتظر غروب الشمس وأتوق إلى خبرٍ واحدٍ فقط: النبوءة العلنيّة التي ستُعلن في مأدبة العشاء هذا المساء.
لكن قبل أن تغرب الشمس، وصلتني رسالةٌ إمبراطوريّةٌ جديدة من تاتيانا.
“يقول أبي إنه يريدني أن أحضر مأدبة العشاء الليلة؟”
“أجل، بسبب فالنتين. كان من المفترض أن تكون النبوءة موجّهةً للعائلة الإمبراطوريّة ككل، لكنه غيّر رأيه وقرّر أن تكون موجّهةً لكل فردٍ على حدة. ما الذي يُخطّط له هذا الرجل، يا تُرى؟”
فجأة، تذكّرتُ صوتًا مرّ في ذهني كالبرق.
[الآن فقط أدركتُ أنني لم أضع هذا في الحسبان.]
هل ‘أخذ فالنتين الأمر في الحسبان’ هو ما جعلني مدعوّةً إلى المأدبة؟
لم أشعر بالفرح، بل بالضيق. ما السبب الذي يدفع لإجباري على الجلوس وسط تلك الأجواء الرسميّة المشدودة، حيث يجلس أفراد العائلة الإمبراطوريّة وكبار النبلاء وجهًا لوجه؟
بينما كنتُ أفكّر، حانت السّاعة السّابعة مساءً، الموعد المُحدّد. أمسكتُ بيد تاتيانا، التي جاءت لاصطحابي، ونزلنا إلى القاعة الفرعية، حيث كانت طاولةٌ تتّسع لأربعين شخصًا مُزيّنةً بأدوات المائدة الفاخرة وأزهارٍ طبيعيّةٍ رائعة. كان النبلاء، الذين أنهوا بالفعل جولةً قصيرةً من الأحاديث، جالسين حول الطاولة في انتظار الطعام.
“ها هي ابنتي، لارا!”
ناداني أبي، الجالس تحت شعار العائلة الإمبراطوريّة الأرجواني، وأشار إليّ. نسيَ أنظار الحاضرين، وضمّني إلى صدره، وفرك ذقنه على خدي. هل كان ذلك ممتعًا؟ لا، لم يكن كذلك.
“كم مرّةً يجب أن أقولها؟ هذا مؤلم! إمّا أن تحلق لحيتكَ كلها، أو توقّف عن فرك ذقنكَ بوجهي!”
“حسنًا، حسنًا. ابنتي العزيزة، اليوم لدينا الكثير من الضيوف. لا تخافي، ولا تشعري بالرهبة. اجلسي بجانبي وتناولي مثلجات التوت الأزرق التي تحبينها.”
“ما أُحبّه هو التوت الأحمر، وليس الأزرق! التوت الأزرق هو ما تُحبّه تاتيانا!”
“نفس الشيء، أليس كذلك؟”
جلستُ بجانب تاتيانا، وشفتاي متشابكتان بامتعاض. النبلاء الذين التقت أعينهم بعينيّ أومأوا برؤوسهم بأدب، مقدّمين تحيّةً صامتة. وبمجرد أن استقررتُ في مكاني، كآخر قطعةٍ في لغزٍ من أربعين قطعة، هزّت أمّي الجرس لتلفت انتباه الحاضرين.
استغللتُ تلك اللحظة للبحث عن فالنتين. كان يتحدّث مع السيّد بجانبه، دون أن يلقي نظرةً واحدةً نحوي.
‘غيّر طريقة إعلان النبوءة بسببي، ومع ذلك لا يكترث حتى بإلقاء التحيّة؟’
ما الذي يفكّر فيه؟ كم مرّةً تساءلتُ عن نواياه؟
“الآن، وقد اجتمع الجميع… كما هو مُخطّط، قبل أن تبدأ الوجبة الرسميّة، سيكشف الكونت فالنتين عن النبوءة التي سيهديها لعائلتنا الإمبراطوريّة نوفاروف.”
كنتُ أظن أن النبوءة ستُعلن بعد بدء الوجبة، عندما ترتفع الأجواء، لكنها ستُقدم الآن مباشرة. كان ذلك مريحًا بالنسبة لي. لن أضطر للجلوس كتمثالٍ حجري، عاجِزَةً عن الانخراط في أحاديث الكبار، ثم أغفو من الملل.
نهض فالنتين من كرسيه. اتجهتْ إليه تسعةٌ وثلاثون زوجًا من العيون.
“أولاً، أودّ أن أعبّر عن شكري مجددًا للكاردينال غراسيا، الذي جاء من الكرسي البابوي لتسجيل هذه النبوءة.”
كانت بدايته سلسة.
ردًّا على تحيّته الأنيقة، أومأ الرجل العجوز ذو الشعر الأبيض، الجالس مقابله، بصمت. ثم وقف فالنتين باستقامة، يده اليمنى تحت صدره، واليسرى مُعلَّقةٌ بجانب ساقه، ونظر إلى الإمبراطور بنظرةٍ ثابتة.
“جلالة الإمبراطور، إذا حافظتَ على مركزكَ كرأس عائلة نوفاروف الإمبراطوريّة، ستتمتع إمبراطوريّة أوهالا بالسّلام والأمان.”
ساد الصمت، وكأن الجميع يحبس أنفاسه. ثم جاء دور أمي.
لكن شفتَيّ فالنتين لم تنفرجا. دفع كرسيّه إلى الخلف، وتحرّك ببطء، مُحيطًا بظهر أبي حتّى وصل إليّ. وضع يده على كتفي، وهمس في أذني بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه سواي.
“مستقبلكِ، صاحبة السمو، غير موجود.”
لم أُفاجأ.
لقد سمعتُ هذه النبوءة من قبل، لكنني لم أفهم لماذا اختار فالنتين أن ينقلها بهذه الطريقة اللافتة للانتباه.
لكن عندما استعدتُ كلماته في ذهني مرّةً أخرى، وعندما أدركتُ أنه تعمّد همسها في أذني، أدركتُ، ولو متأخّرةً، المعنى الحقيقي لنبوءته.
سأموت.
تذكّرتُ فجأةً حوارنا ذلك اليوم.
[ماذا عن إيفان ولاريسا؟]
[للأسف، لم أرَ شيئًا عن مستقبلهما. أو بالأحرى، يمكن القول إنه… ليس لديهما مستقبل.]
تذكّرتُ أيضًا صوته يومها.
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
هل كان ذلك هو المعنى الحقيقي لكلماته؟
في غضون السبعة عشر عامًا القادمة، حيث سيُعدم فاسيلي كطاغية، وحيث ستلقى تاتيانا وإيفان مصيرهما بالموت، سينتهي مستقبلي أنا أيضًا، في فترةٍ قصيرةٍ كهذه.
نظرتُ إلى فالنتين.
كان ضوء عينيه الزرقاوين البارد، كأنه نبضٌ من أعماق البحر، يخترق رأسي بنظرةٍ قاتمة. تفحّص وجهي دون أن يرمش، ثم استقام ببطء. عاد إلى مكانه بخطواتٍ جريئة بل وواثقةٍ إلى حدّ الرّاحة.
[لقد قلتَ بنفسك إن مستقبلي ‘غير موجود’. أليس هذا يعني أنني قد أموت قبل فاسيلي بفترةٍ طويلة؟]
[لم يكن ذلك ما قصدتُه.]
[لكن قبل قليل قلتَ إنه ممكن.]
[كنتُ أكذب.]
كنتُ في حيرةٍ عميقة. ليس لأن تلك الكذبة التي قالها يومها كانت الحقيقة، ولا لأن تصرّفات فالنتين، الذي أعلن حكمًا بموتي ثم بدا غير مبالٍ، كانت تثير استيائي.
لماذا؟ لم أكن حزينة.
كل ما شعرتُ به هو التساؤل. عن السبب الذي يجعل إخوتي جميعًا يواجهون الموت المُبكّر. عن السبب الذي جعل فالنتين، الذي كنتُ أظن أنه كَذِبَ بشأن موتي، يؤكّده الآن، وبصوتٍ خافتٍ في أذني فقط.
التعليقات لهذا الفصل " 24"