“آه، أظنّني أعرف ما تريدينه. تتحدّثين عن ذلك الوعد المتعلّق بلارا، فرسكِ المحبوبة، أليس كذلك؟ اليوم الذي وعدتُ فيه بمساعدتكِ على الركوب. دعيني أرى… اليوم قد يكون صعبًا، فمتى يناسبكِ؟… آه، شكرًا، الكونت بوشكين. سأتولّى مرافقة صاحبة السمو الأميرة بنفسي.”
ابتسم الكونت بوشكين بودّ، كما لو كان ينظر إلى ابنة أخيه، ثم أدار ظهره. فعل فالنتين الشيء نفسه، واتّجه بي بعيدًا عن غرفة الاستقبال. انتظرتُ حتى تأكّدتُ أن الأنظار التي كانت تتبعنا بدأت تنصرف، ثم فتحتُ فمي بسرعة.
“لديّ ما أقوله.”
نظر إلى الأمام، وابتسامةٌ خفيفةٌ ترتسم على وجهه، كأنه يعرف تمامًا ما سأقول.
“دعيني أخمّن ما تريدين قوله؟”
“لا! لا تحاول التخمين، سأقوله بنفسي أولاً.”
أومأ فالنتين برأسه قليلاً، وبينما كنتُ في أحضانه، أخذتُ نفسًا عميقًا للحظة. ثم، بصوتٍ هادئٍ وواضحٍ قدر الإمكان، قلتُ.
“لا تكشف نبوءة فاسيلي للناس.”
“هل هذا أمر؟”
“لا… إنّه طلب. كيف يُمكن أن يكون أمرًا؟”
توقّف فالنتين فجأة. أجلسني على أريكةٍ صغيرةٍ بجوار نافذةٍ بارزة، بينما اتّكأ هو على إطار النافذة، مرتفعًا قليلاً عن مستواي. كان هذا المكان هو المكان الذي التقيتُ فيه بفالنتين لأوّل مرّة عندما بلغتُ الثالثة عشرة.
“هل جئتِ لأنكِ تعتقدين أنني سأُعلن للجميع عن المستقبل الذي سيلقاه سمو الأمير فاسيلي بعد سبعة عشر عامًا، وذلك لاتخاذ تدابيرٍ أكثر صرامة؟”
كان سؤالاً في الصميم. ضيّق عيناه بتعبيرٍ غامض.
“على سبيل المثال، تدبيرٌ مثل دفع الأمير إيفان أو الأميرة تاتيانا لتولّي العرش بدلاً من فاسيلي.”
“لا يُهمّني من تدفع ليكون إمبراطورًا، فهذا ليس شأني. كل ما أريده هو أن تبقى نبوءة فاسيلي سرًّا بيننا، كما هي الآن.”
نظر إليّ مليًا، ثم تمتم، كأنه يتحدّث إلى نفسه.
“أحيانًا، لا تبدين في سنّكِ، صاحبة السمو.”
يا لها من ملاحظةٍ بديهية!
“أعرف ذلك. أنا ذكيّة. أنا فرحةُ والدتي وفخر العائلة الإمبراطوريّة.”
“لو كنتُ مكان جلالة الإمبراطورة، لَما كنتُ مسرورًا تمامًا.”
“غير صحيح! هي مسرورة، أنا متأكّدة. إذن، هل تقول إنني على صواب أم على خطأ؟”
“هل أنشدتِ <عن الجَنّة>؟”
“أنشدتُ؟ ماذا تعني؟”
توقّفتُ عن الكلام للحظة.
لم يكن ذلك فقط لأن فالنتين تفادى سؤالي ببراعةٍ وألقى سؤالاً مفاجئًا، بل لأن <عن الجَنّة> هو عنوان الكتاب الذي ذكرتُهُ في رسالتي إليه قبل أيام. أجاب فالنتين بنبرةٍ كأنه يسأل عن أمرٍ بدهي.
“أتحدّث عن المهمّة السرّية التي طلبتِها منكِ. المهمّة الأولى من بين المهام الخمس التي ذكرتِها.”
شعرتُ بشيءٍ غريب، فلم أجب على الفور.
المهام السرّية الخمس، المهمة الأولى:
أن أنشد كل ليلةٍ في غرفة نوم فاسيلي كتاب <عن الجَنّة>.
<عن الجَنّة>… كتابٌ وفيٌّ لعنونه، يصف الجنّة، العالم الذي تؤمن به طائفة غافريل بأنه موطن الأرواح الراحلة. هذا العالم، الفردوس الذي خلقه الإله، لا يطؤه إلا من لم يرتكبوا الذنوب أو من غُفرت ذنوبهم.
قد يكون تفكيرًا سطحيًا، لكن السبب الذي جعلني أختار إنشاد <عن الجَنّة> كمهمةٍ أولى لم يكن مجرد أملٍ عظيم بأن يشعر فاسيلي بالنفور من الذنوب، بل كان رغبةً أكبر في أن يبتعد عن طريق الطغيان عبر تعليمٍ مكثّف.
[فاسيلي، الأرواح التي لا تصل إلى الجَنّة تهوي إلى الجحيم، حيث تعيش ألف عامٍ كعبيدٍ لتنينٍ شرير يُدعى غوارسالوف.
لكن من يصعد إلى الجَنّة يأكل حلوى السحاب، أحلى من الشوكولاتة وأعذب رائحةً. أنا مصمّمةٌ على تذوّقها بعد موتي، فلنصعد معًا، حسنًا؟]
وإلى حدٍّ ما، كنتُ أريد أيضًا أن يُدرك فاسيلي نواياي الحقيقيّة بنوعٍ من المكر الطفولي.
سألتُه بصوتٍ خافت.
“هل قرأتَها؟”
لم أذكر كلمة -الرسالة- من الحرج، لكن فالنتين فهم على الفور.
“ألن أقرأها؟ إنها رسالةٌ من صاحبة السمو! إذا تجاهلتُها هذه المرّة، قد أجد رأسي محلوقًا بالفعل. لستُ جريئًا إلى هذا الحد.”
“إذن، هل ترى أنها… طريقةٌ جيّدة؟”
“إنها طريقةٌ لطيفة.”
لم يقل إنها جيّدة. هل هذا تلميحٌ خفيّ يدعوني للبحث عن طريقةٍ أفضل؟
‘هذا الرجل يلمس رأسي فجأة؟’ فكّرتُ للحظة، لكنه عدّل دبوس الشعر على شكل زهرة التفّاح بضع مرّات ثم أبعد يده.
شعرتُ بحرارةٍ تتدفّق إلى وجهي، وكأن عينيّ ستنفجران. لم يكن فالنتين يربّت على رأسي. كل ما فعله هو إعادة دبوس الشعر المنحرف، الذي اختلّ مكانه بسبب ركضي المتواصل، إلى موضعه.
‘هل أبدو الآن بمظهرٍ غبي جدًا؟’
كانت عينا فالنتين مثبتتين على رموشي، التي ترتعش من اضطرابي الداخلي.
“هل ستحضرين مأدبة العشاء غدًا؟”
كما في لقائنا الأول، قاومتُ رغبتي في الاختباء خلف الستارة، وأجبتُ.
“أنا؟ كيف لأميرةٍ في الثالثة عشرة أن تحضر مأدبة عشاء؟ هذا شأن تاتيانا، التي ستصبح بالغةً العام القادم.”
“همم… الآن فقط أدركتُ أنني لم أضع هذا في الحسبان.”
تضعه في الحسبان؟
ابتعدت عينا فالنتين عني، وتطلعتا نحو نهاية الرواق الذي جئنا منه. كان الكونت بوشكين يقف في منتصف الطريق، يلوّح له بخفة. ابتعد ظهر فالنتين ببطءٍ عن النافذة.
“يجب أن أذهب الآن. أنا، كما ترين، أكثر شعبيّةً مما أبدو.”
فجأة، تذكّرتُ شيئًا، فسألتُ بسرعة.
“انتظر لحظة. إذن، ما جوابكَ؟ لن تتحدّث عن نبوءة فاسيلي، أليس كذلك؟ إذا عرف الناس بمستقبله، فسيكون…”
“حسنًا… لا أعرف إلى أي مدى تتخيّلين الأمور، لكنني لستُ ابن عا*ـرةٍ يُكلّف شريكه بمهمّةٍ جسيمةٍ ثم يتجاهله.”
نظر إليّ للحظة، ثم مرّ بجانبي متّجهًا إلى الكونت بوشكين. هل يمكنني أن أطمئن؟ أيعني هذا أنه لا داعي للقلق؟ وأنا أراقب ظهره وهو يبتعد بلا مبالاة، شعرتُ فجأةً أنني من أثار الذعر بنفسي دون داعٍ.
لكن… هل قال ‘شريك’ للتو؟
شريكٌ في تنفيذ المهمّة السرّية؟
“هاه…”
يا إلهي، حقًّا. هل يعتبرني، أنا الطفلة، شريكةً له؟ مخيفٌ، مخيفٌ جدًا. أنا نفسي أصبحتُ مُخيفةً لأنني موهوبة إلى هذا الحد. أن أكون ذكيّةً جدًا في سِنٍ صغيرةٍ مشكلةٌ بحد ذاتها! حتى رجلٌ بالغ حديثًا يعاملني كشخصيةٍ ناضجةٍ في السابعة عشرة! هززتُ رأسي مستنكرة، ثم نهضتُ وأنا أتذكّر أمرًا مهمًا.
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
آه، كان يجب أن أسأله عن معنى تلك الكلمات!
لقد انشغلتُ بأمر فاسيلي تمامًا، فنسيتُ الأمر. لكن فالنتين كان قد ابتعد كثيرًا بالفعل. لا خيار سوى انتظار فرصة أخرى.
“…لكن، ما معنى ‘ابن عا*ـرة’؟ هل هو ابن شخصٍ اسمه عا*ـرة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 23"