“فالنتين هذا… لماذا يُحاول إخفاء قصص الماضي عنّي؟”
“إنه ليس من النّوع الصاخب، أليس كذلك؟ رُبّما رأى أنه لا فائدة له من استغلال شهرته كـمُنقِذ الأميرة. شخصٌ حذرٌ حقًا. لكنّه، مع ذلك، يحصل على صفرٍ كاملٍ كمرشحٍ لزوجكِ.”
فالنتين… كان الكونت الذي أنقذني؟ بل وأنقذني عندما كنتُ في السّادسة من عمري، لا أكثر من سنجابةٍ طائرة! والأعجب أنه لم يتباهَ بذلك، بل أخفى الأمر حتّى عنّي، أنا المعنيّة بالقِصّة.
تذكّرتُ لقاءنا الأول… أو بالأحرى تلك اللحظة في القصر الإمبراطوري، عندما كنتُ أختبئ هنا وهناك، فاصطدمتُ به مصادفة. ما الذي كان يفكّر فيه حين رآني؟
‘هل يُعقل أنه ندم على إنقاذي؟’
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
لم أستطع أن أجزم أنه لم يفكّر في تلك الكلمات. فالنتين الطفل… ما الذي دفعه ليقول لي مثل هذا الكلام؟
“جلالتكِ.”
في تلك اللحظة، فُتح الباب فجأة، ودخل رئيس الخدم على عجل –لا أعلم متى غادر أصلاً. ظننتُ أن العشرين دقيقة قد مرّت، فعدتُ إلى مقعدي. لكن رئيس الخدم لم يلتفت إليّ، بل اقترب من والدتي وهمس في أذنها.
“…أهذا صحيح؟”
“نعم، لقد تلقّينا الأمر للتو من جلالة الإمبراطور.”
ما الذي يحدث؟ نظرة والدتي الهادئة، وهي تغرق في التفكير، كانت ساكنةً كبحيرةٍ لم تُمس. لاحظت تاتيانا تلك النظرة، ففتحت فمها بهدوء.
“ما الأمر، أمّي؟ هل حالة أبي ساءت؟”
رفعت والدتي رأسها لتجيب.
“لقد رأى الكونت فالنتين مستقبل عائلة نوفاروف الإمبراطوريّة. يقول إنّه سيعرض نبوءته علينا غدًا في مأدبة العشاء، أمام الجميع، علنًا.”
رؤية المستقبل.
ما معنى أن يرى المرء المستقبل؟ هذا السؤال نفسه وضعته في رسالتي العاشرة إلى فالنتين.
[كيف ترى المستقبل؟ هل هو مشهدٌ معينٌ يُطبع أمام عينيك كصورةٍ فوتوغرافيّة؟ أم أنك تعيش فيه كما في حلم؟ أم إذا لم يكن أيًا منهما، فهل هو مجرد فكرةٍ مجرّدةٍ كما لو كنت تقرأ رواية؟]
لم أتلقَ إجابةً واضحةً بسبب سرّية الموضوع، لكني أذكر أن ردّه كان موجزًا جدًا، كلماتٌ قليلةٌ لم تكد تُلاحظ.
[كأنني أحلم.]
إذن، ما نوع الحلم الذي رآه فالنتين هذه المرة؟ لم يدم تساؤلي طويلاً، فقد كنتُ نصف متأكّدة بالفعل. رُبّما لم يرَ فالنتين مستقبلاً جديدًا، بل ينوي الكشف عن مستقبل رآه من قبل.
وأنا متأكّدةٌ أن هذا المستقبل يخص فاسيلي وتاتيانا.
“غريبٌ حقًا. يقولون إن نبوءات الكونت فالنتين لا تخطئ أبدًا، على عكس المرسولين في التاريخ. ما نوع المستقبل الذي رآه، يا تُرى؟”
كانت خدّا تاتيانا متورّدين بفضولٍ خفيف. أجابت والدتي، وهي تُمرّر يدها على ذقنها.
“الكونت فالنتين ليس متهورًا، ولا يحمل أي عداءٍ خاصٍّ تجاه عائلتنا الإمبراطوريّة. لا أعتقد أنه ينوي خلق جوٍّ سلبي، فاطمئني.”
“كلامكِ يثير فضولي أكثر! هل هذا الأمر تم الاتفاق عليه مع أبي؟”
“في كلتا الحالتين، ليس هذا وقت التفكير في الأمر الآن. رئيس الخدم، افتح الباب مجددًا. لا يمكننا أن نُبقي السيدات ينتظرن أكثر من ذلك.”
“حاضر.”
انتهى الحديث هناك.
فُتح الباب المغلق بإحكام، ودخلت المرأة الحادية والسبعون، تخطو على السجادة نحو قاعة الاستقبال. توالت بعدها عشرات الفتيات من عائلاتٍ نبيلةٍ بارزةٍ لتقديم تحيّاتهن، لكنهن لم يعلقن في ذهني. كان عقلي غارقًا في هدفٍ واحد، كأنني أسبح في ماءٍ ساكن، هادئ ومذهول.
‘يجب أن أوقف فالنتين.’
لا يمكنني أن أسمح له بإعلان مستقبل فاسيلي أمام الجميع.
‘يجب أن أمنعه. يجب أن أفعل شيئًا.’
انتظرتُ بانفعالٍ أن تنتهي هذه الساعات الطويلة من أوّل ظهورٍ اجتماعي لي. وأخيرًا، عندما تقدّمت المرأة رقم 114، وهي الأخيرة، لتعرّف عن نفسها ثم تراجعت إلى الخلف، سمعتُ.
“هذا كل شيء لهذا العام، جلالة الإمبراطورة.”
“بالتأكيد أكثر من العام الماضي.”
أدرتُ عينيّ بسرعة، وعندما نهضت والدتي من مقعدها، نهضتُ خلفها على الفور.
“هل يمكنني الذهاب إلى أبي؟ أشتاق إليه. لديّ سؤالٌ يحيرني كثيرًا، ولا أحد غيره يستطيع الإجابة عليه.”
“يبدو أن لارا الصغيرة قلقةٌ مجددًا بسبب شيءٍ لا تعرفه إلا هي.”
“لكنها صمدتُ حتّى النهاية، أليس كذلك؟ هذا إنجاز! يبدو أن هرّتي الصغيرة قد كبرت بالفعل.”
دفعتني والدتي برفق من ظهري.
“اذهبي. لكن انتبهي على تصرّفاتكِ.”
“لا تقلقي.”
ابتعدتُ بخطواتٍ مترددةٍ عن والدتي، وعندما غادرتُ قاعة الاستقبال، ركضتُ مسرعة. الرواق، الذي كان مكتظًا بالسيّدات والنبيلات في طابورٍ طويل، أصبح خاليًا كأن شيئًا لم يكن.
كان الرواق هادئًا بشكلٍ غريب، مُضاءً بضوء الغروب الخافت، حتى بدا وكأنه ليس الرواق نفسه الذي مررتُ به صباحًا. للحظة، شعرتُ وكأنني زرتُ عالمًا آخر.
اتجهتُ نحو غرفة الاستقبال في الطابق الثاني. كانت هذه الغرفة، ذات التصميم شبه المغلق، تُستخدم كمكتبةٍ صغيرةٍ ومعرضٍ للأعمال الفنية، وهي المكان الذي يتبادل فيه النبلاء الشباب، الذين بلغوا سن الرشد، التحيّات مع الإمبراطور وكبار النبلاء.
كانت الأجواء هناك تقترب من نهايتها، والباب الثقيل مفتوح على مصراعيه، مما يوحي بجوٍّ من الحرّية النسبيّة.
لا يوجد مكانٌ في القصر ممنوعٌ عنّي، لكن من التقاليد احترام خصوصية بعض الأماكن المُخصّصة للرجال أو النساء. لكنني، لحسن الحظ، في الثالثة عشرة فقط، لذا لا أحد يهتم! تعيش الثالثة عشرة!
ترددتُ في الدخول وأخذتُ أتجوّل حول المكان، حتى لاحظني الكونت بوشكين. اعتذر لمُحدّثه واقترب مني.
“صاحبة السمو الأميرة لاريسا؟”
“الكونت بوشكين.”
“هل جئتِ لمقابلة جلالة الإمبراطور؟”
“لا، لستُ هنا من أجل أبي. أين الكونت فالنتين؟ يجب أن أقابله الآن. أين يمكنني أن أجده؟ هل رحل بالفعل؟”
“الكونت فالنتين…”
نظر حوله للحظة، ثم أشار بيده اليمنى نحو نافذةٍ ليست بعيدة عن مدخل غرفة الاستقبال. كان فالنتين واقفًا هناك، متأنقًا، يضع يديه خلف ظهره، ويستمع بتركيزٍ إلى كلام رجلٍ نبيلٍ في منتصف العمر بشعرٍ ممزوجٍ بالشيب.
كلما تحدّث، تجمّع حوله السادة من مختلف الأعمار، يصغون إليه بعناية. لم تكن الأجواء متوترةً بأي حال. فالنتين، وسط هؤلاء البالغين، بدا بالغًا حقًا.
“يبدو مشغولاً الآن. هل أمركِ عاجل؟”
بالطبع عاجل! لكنني لو اقتحمتُ تلك المجموعة وسحبتُ فالنتين بالقوّة، سأتلقّى لاحقًا تأنيبًا شديدًا من والدتي وفاسيلي. طريقةٌ لتجنّب التوبيخ… لا حاجة للتفكير في ذلك.
التقَطَتْ عيناي عينيه.
نظر إليّ للحظة، كأنه يخترقني بعينيه، ثم استأذن السادة من حوله وتقدّم نحوي بخطواتٍ بطيئة. كان فالنتين قد سرّح شعره الفضي، الذي يغطّي جبهته عادةً، إلى الخلف بعنايةٍ فائقة.
كان يرتدي بدلةً سوداء أنيقة تلمع بلمساتٍ زرقاء خفيفة، يبدو فيها كأنّه أميرٌ من قصص الخيال، حلم كل الأميرات. اقترب مني بخطواتٍ واثقة، ثم ابتسم ابتسامةً خفيفة… لكن للكونت بوشكين، وليس لي.
“هل هناك مشكلة؟”
“جيّدٌ أنك هنا، الكونت فالنتين. يبدو أن صاحبة السمو الأميرة لاريسا لديها أمرٌ تريد مناقشته معك.”
التعليقات لهذا الفصل " 22"