الفصل السابع عشر 🩷
في وسط فضاءٍ هادئٍ كغرفة الاستقبال، كان يجلس أخواي وأمي. التفتت نحوي عينان بلون الزمرّد الدافئ، الوحيدتان في عائلتنا بهذا اللون النادر. اندفعتُ إلى حضن أمي قبل أن تبدأ موجة التوبيخ.
“لارا؟”
“المحاضرات طويلةٌ جدًا! مللتُ من الانتظار.”
“يا إلهي، هل مرّ الوقت بهذه السرعة؟”
دفنتُ وجهي في فخذ أمي، وهمستُ لإيفان الجالس على الكرسي المقابل.
“أنت مدينٌ لي.”
لولاي لكنتَ لا تزال تستمع إلى التوبيخ إلى الآن. هزّ إيفان كتفيه وردّ بهمسٍ مماثل.
“هذه المرّة، سأعترف بذلك.”
“لاريسا، إيفان، كونوا مؤدبين أمام أمّي.”
ما إن انتهى فاسيلي من توبيخنا بصوته الجاد حتى أزاحت تاتيانا جسدها لتتوسط بين فاسيلي وإيفان.
“يبدو أنكِ شعرتِ بالملل كثيرًا، يا تانيا.”
“لا، كنتُ أنتظر بصبر. فقط تبعتُ لارا لأرى وجهكِ يا أمّي في أقرب وقت.”
“حسنًا، حسنًا.”
كانت تاتيانا الأخت التي تثق بها أمّي أكثر من أيٍّ منا. فهي الوحيدة التي لا تحتاج إلى لقاءاتٍ دوريّةٍ أو توبيخاتٍ متكرّرةٍ كعادة. سألتُها يومًا عن سرّها، فأجابت: “ليس سرًا. مقارنةً بكم الثلاثة، أنا الأكثر بساطةً وعقلانيّةً، والأقلّ إثارةً للمشاكل. سرعة بديهتي ميزةٌ إضافيّة. ببساطة، أتجنّب إعطاء أيّ شخصٍ سببًا لتوبيخني.”
ألستُ كذلك أيضًا؟ لا أرى الفرق حقًا.
بينما أحدّق في عينيها الزمرديتين الجميلتين عن قرب، شعرتُ بقلبي يهدأ وهمومي تذوب كالغبار في الهواء. أجلستني أمّي بشكلٍ مستقيم، ثم طبعَت قبلةً طويلةً على جبهتي وسألتني.
“صغيرتي، هل كنتِ بخيرٍ في غياب أمّك؟”
“بالطبع.”
“يبدو أنكِ تودّين قول شيءٍ لأمّك، وجهكِ يكاد يرقص من الحماس.”
“كيف عرفتِ؟”
“جميعنا نعرف كيف تتصرّفين عندما يكون لديكِ أمرٌ تريدين مناقشته، إلا أنتِ.”
حقًا؟ لكن تعابير إخوتي الثلاثة لم تبدُ متفاجئةً على الإطلاق.
“إذن… ما الذي كانت صغيرتي تكتمه طوال هذا الشهر؟”
أصدرتُ سعالًا خفيفًا -أحم- لأصفي حنجرتي. خلال الأيام الماضية، كنتُ أفكّر مليًا في “كيفيّة جذب اهتمام فالنتين”، لكن مهما حاولتُ لم أجد جوابًا شافيًا.
في الماضي، كنتُ سأجرّب أي فكرةٍ دون تردّد، لكن هذه المرّة لم أتمكّن حتّى من رسم خطةٍ واضحةٍ في ذهني. لماذا؟ هل لأن فالنتين ليس بالخصم السهل؟ أم لأنه خطيب إيما التي أُحبّها؟
“هناك شخصٌ أتبعه مؤخرًا كثيرًا، لكنّه لا يكترث بي. وأنا أريد جذب انتباهه بشدّة. كيف أفعل ذلك؟”
ساد الصمت للحظة.
عبس إيفان بشدّة، وتجمّدت تعابير تاتيانا كمن خسرت رهانًا كبيرًا مع عدوٍّ لدود. أما فاسيلي فقد حدّق بي دون أن يتظاهر بالدهشة، ربما لأن سؤالي بدا أكثر نضجًا من عمري.
نظرت أمّي إلى تاتيانا بذهول.
“هل يعقل أن تكون قد وقعت في الحُب؟”
الحُب؟ هل جُننتِ يا أمّي؟
“سنكتشف ذلك الآن. لارا، هل تريدين الزّواج منه؟”
الزّواج؟ ما هذا الهراء؟ هل سأتنازع مع إيما على حُبّه؟ لكنّه سؤالٌ يستحقّ التفكير فعلًا.
‘ما نوع الرغبة التي تدفع للزواج؟’
كنتُ أدرك منذ البداية أن الحُب والزواج شيئان مختلفان. أنا لستُ طفلةً في الثالثة عشرة تعيش في قصص الخيال.
ثم إن فالنتين ليس خيارًا سيئًا كزوج، أليس كذلك؟ إذا تذكّرتُ ما قالته إيما نفسها… بينما أؤجل الإجابة، أمسكت تاتيانا وجهي وسحبته نحوها، فركت خديّ بقوّةٍ وقالت.
“هكذا. هل تودين فرك خدّيكِ بخدّيه؟”
“مستحيل، لا أفكّر في ذلك أبدًا.”
أبعدت تاتيانا يدها بوجهٍ أكثر ارتياحًا.
“همم. إذن، ما الذي يعجبكِ فيه لتتبعيه؟”
ما الذي يعجبني؟ لا شيء مُحدد يخطر ببالي.
“لا أجد شيئًا بعينه يُعجبني.”
“حسنًا، فهل هناك ميزةٌ فيه تودين تقليدها؟”
“أظنّ أن مزاياي أكثر من مزاياه.”
ربما يكون ذلك صحيحًا.
“صغيرتي، أتمنّى ألا يكون قد ارتكب خطأً كبيرًا بحقكِ، أليس كذلك؟”
“لا، الأمر تافهٌ جدًا. إذا حسبناها، فأنا أزعجته لمدة نصف شهر، لذا نحن متعادلان. لقد أرسلتُ له تسع دعوات في تلك الفترة.”
“تسع مرات؟ يا للعجب.”
مع تلك الكلمة، بدأ التوتّر في الغرفة يذوب رويدًا. هل أدركوا مَن هو الشخص الذي أسعى لجذب اهتمامه؟ أطلق إيفان تنهيدةً مرتخية وهو يوبخني.
“على الأقل لديكِ بعض الضمير.”
“أمّكِ لا تفهم يا لارا. إن لم يكن يعجبكِ ولم يكن هناك ضغينة، فلماذا تتبعينه؟”
لو بدأتُ بسرد لقائي الأول معه، لأصبحت القصة طويلة بلا داعٍ. ولو كشفتُ عن خطتي “أجذب اهتمامه لأتخلّص من اهتمامي به”، لعاملوني كطفلةٍ طائشة. لذا قررتُ الدخول في صلب الموضوع.
“فالنتين يقول إنني مزعجة.”
“فالنتين؟ يا إلهي، مّن كان يظنه؟ لم أتوقّع هذا الاسم أبدًا.”
“لكنه قال إنه لا يكرهني، فقط يجدني مزعجة. سمعتُها من فمه مباشرة، لذا أنا متأكّدة.”
“ها! كيف يتجرّأ؟ مَن يُزعج مَن؟”
كانت تاتيانا من ردّت بنبرةٍ غاضبة. ارتشفت كوب الشاي البارد الذي كان من نصيب أمي، وهي تحدّق بي بعينين مليئتين بالتحدّي تطالبني بالجواب. من غيره؟ فالنتين بالطبع.
“هو أوّل من عاملني هكذا. لا أريد أن أكون بالنسبة له شخصًا مزعجًا أو متعبًا. كيف أفعل ذلك؟”
“هل هذا سبب مطاردتكِ للكونت فالنتين؟ يبدو أن صغيرتي تريد أن تصبح صديقةً له.”
صديقة؟ تلك الكلمة البسيطة فتحت أفقًا جديدًا في ذهني بشكلٍ مفاجئ.
يا إلهي، أليس ذلك منطقيًّا جدًا؟ إنني أجد نفسي أنظر إليه دائمًا (على مضض، لكنّها الحقيقة)، وأرغب في جذب اهتمامه. إذا كان السبب هو رغبتي في أن أصبح صديقته، فهذا يبدو مقنعًا تمامًا.
“فكّري في حصانكِ لارا. هل تريدين ترويض فالنتين دميتريف مثلما فعلتِ مع لارا؟”
“اختاري كلماتكِ بعنايةٍ يا تانيا. فالنتين دميتريف ليس حصانًا، بل إنسان. مَن يروّض مَن؟”
حصاني لارا. تلك التي تخلّت عن مبادئها وارتمت في أحضان فالنتين…
“لا تعترض على تفاصيلٍ تافهةٍ يا إيفان. لا يهمك أن يتجاهل ذلك الرجل أختكَ كحصاةٍ على الطريق، لكنك تتضايق من فكرة معاملته كما يستحق؟ أخوتك نحن أم هو؟”
“اهدئي يا تانيا. نحن هنا لمساعدة لارا في همومها، لا للنزاع بيننا.”
“حسنًا، سأهدأ. التهدئة دائمًا تخصّصي.”
الترويض. إذا روّضته، سيصبح مطيعًا. فالنتين مطيع؟ ليس سيئًا. بل أكثر من ذلك، إنه رائع.
تخيّلتُ وجهه المتعجرف وهو يركع قائلًا: “صاحبة السمو الإمبراطوري، اؤمريني بأي شيء، سأطيع دون تردد.” شعرتُ بدفءٍ يملأ قلبي وإحساسٍ بالرضا يتسلّل إليّ.
نظرتُ إلى تاتيانا وأومأتُ برأسي.
“شيءٌ من هذا القبيل.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"