الفصل السادس عشر 🩷
لكنها لم تتمكّن من ترجمة ذلك إلى فعلٍ ملموس. والآن فقط أدركتُ حقيقةً كنتُ غافلةً عنها: بينما كنتُ مأخوذةً بروحي في يده، كان فالنتين بدوره يحدّق في يدي بنظراتٍ متفحّصة. لا أعلم ما الذي تعنيه تلك النظرة. لكن ما أعرفه يقينًا هو أنها لم تكن نظرة متفرجٍ عابرٍ بلا هدف.
‘هل يُعقل أنه كان يسخر من يدي الصغيرة الهزيلة؟’
أنا في الثالثة عشرة من عمري، فإن كبرت يداي أكثر من هذا فذلك هو الغريب. شعرتُ أن سحب يدي الآن سيعني هزيمتين متتاليتين، فتظاهرتُ بعدم الاكتراث وسألتُه.
“ما بك؟”
رفع فالنتين رأسه بهدوء، ثم أعاد خفض بصره نحو يدي مرّةً أخرى.
“صاحبة السمو لاريسا.”
لامسَت أطراف أصابعي ببطءٍ شديدٍ ملمسَ الجلد البارد. لمسَني بحركةٍ حذرة، فأمسك بسبابتي بلطفٍ وسحبها قليلًا، ثم أعادها إلى مكانها بعينين تحملان تعبيرًا غامضًا. كان تصرّفه دقيقًا ومُثيرًا للحكة، كما لو كان صانع ساعاتٍ يتفحّص عيبًا في ساعةٍ عتيقة.
“الآن وأنا أراكِ هكذا، أرى كم كبرتِ حقًا.”
ما الذي يقصده؟ هل يتحدّث عن كبري مقارنةً بالشّهر الماضي؟ أم أنه رأى للتو لوحةً رُسِمت لي وأنا في الخامسة؟ أيًّا كان الجواب، كان انطباعًا غير متوقّعٍ على الإطلاق.
“هل أنتَ من ربّاني يا فالنتين؟”
أطلق ضحكةً خافتة.
“في الآونة الأخيرة، بدأتُ أشعر بذلك فعلًا.”
“أنتَ الآن تسخر من صغري، أليس كذلك؟ انتظر وسترى، فبمجرّد أن ترى أُمّي وتاتيانا، ستعلم أنني سأكبر بما فيه الكفاية.”
“إذا فكّرنا في دم نوفاروف الذي يجري في عروقكِ، فتلك ليست ثقةٌ بلا أساس. فصاحب السمو فاسيلي وصاحبة السمو تاتيانا سينموان نصف ذراعٍ إضافي على الأقل في المستقبل.”
قالها بنبرةٍ توحي بأنه رأى ما حدث بنفسه. ربما كان كذلك، نظرًا لقدراته التنبؤيّة.
كدتُ أسأله “إذن، كم سأكبر أنا وإيفان؟” لكنني ترددتُ وأغلقتُ فمي. سواءً كان الأمر يتعلّق بالماضي أو الحاضر، بدا أن فالنتين يُبقيني أنا وإيفان خارج نقاشاته حول المستقبل. كنتُ أشعر بفضولٍ عميقٍ لمعرفة السبب، لكنني ترددتُ في السؤال، خوفًا من أن يُضفي ذلك على تفاصيل تافهة معنىً لا داعي له.
بينما كانت أفكاري تتقلّب في رأسي، ظلّ فالنتين جالسًا في مكانه، محدقًا بيدي دون كلمة، حتى من دون أن يرمش بعينيه.
“فالنتين. هل تغفو وأنتَ جالسٌ هناك؟”
“…هذا هو الشعور الذي عشتُ به لعقودٍ من الزمن الآن.”
“أنتَ بالكاد في السابعة عشرة من عمرك. توقّف عن المبالغة.”
“سماع هذا من شخصٍ يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا فقط أمرٌ غريبٌ بعض الشيء.”
أنت من يجعلني أشعر بالغرابة بتحديقك الدائم في يدي. هززتُ أصابعي بعنفٍ لأعلن احتجاجي. نظر إلي فالنتين بعينين تقولان “هذه أنتِ”، ثم بدأ يفتش في جيب معطفه الداخلي وسأل.
“هل تعجبكِ الآنسة إيما تولستوي؟”
“على عكس شخصٍ ما، هي تُعاملني بلطفٍ، فكيف لا تعجبني؟”
“نعم، تسريحة شعر سموّكِ الرائعة تجعل ذلك واضحًا.”
ما الذي-؟! إنها لطيفةٌ رغم ذلك؟
“لا داعي للقلق بشأنها كثيرًا. لستُ من النوع الذي يتسبّب بفوضى ثم يغادر دون مسؤولية.”
هل يعني أنه سيعقد زفافه قبل أن يغادر للدراسة بالخارج؟ لماذا يشرح شؤونه الخاصة لفتاةٍ في الثالثة عشرة؟ هل هو قلقٌ من أجل إيما؟ أم يتمنّى أن أتوقّف عن الاهتمام بأمورهم؟
أخرج فالنتين من جيب معطفه منديلًا أبيض، قَبِلتُهُ منه دون تفكير. نظرتُ إليه بحيرة، فأشار بعينيه برفقٍ نحو ذراعي. كانت قطرة ماءٍ قد سقطت على كمّي الأيسر، ربما سقطت من كتفه.
مثل هذا يمكنني أن أنفضه بيدي فقط. لكن حين ضممتُ المنديل الأبيض إلى القطرة، انزلقت كالماء الشفاف وذابت في نسيج القماش الناعم.
نظرتُ تارةً إلى كمّي الذي أصبح نظيفًا تمامًا، وتارةً إلى المنديل حيث بقيت آثار القطرة كنقاطٍ رماديةٍ صغيرة، ثم أعدتُ المنديل إلى فالنتين. وبينما لامست قفازاه الجلديّتان الباردتان أطراف أصابعي، شعرتُ بشيءٍ غير ملموسٍ يتلاشى من داخلي، كما لو كان يتبع ذلك الإحساس.
شرب فالنتين نصف كوب الشاي الأحمر الذي أعدّته إيما ثم انصرف. وبعد رحيله، قضيتُ ما لا يقل عن نصف ساعة أترك إيما تلعب بشعري. لسببٍ ما، لم أستطع نسيان تلك اللمسة التي بقيت عالقةً في أطراف أصابعي.
بعد ثلاثة أيّام.
عادت أُمّي إلى المنزل.
كان لقاءً بعد غيابٍ دام شهرًا كاملًا. كل عامين، تغادر أمّي إلى القصر الصيفي في تشيليابينسك لتقضي هناك شهرًا بالضبط ثم تعود. تذهب بعد أن نحتفل بالعام الجديد مع العائلة وأفراد البلاط في ماخاتشكالا، وتعود قبل بدء موسم المناسبات الاجتماعيّة مباشرة.
كانت بحيرة تشيليابينسك، الصافية كالمرآة، نقيةً وهادئة كما لو أنها تشكّلت من ثلجٍ ذائبٍ أبدي، وإلى جنوبها كانت تمتد مروجٌ شاسعةٌ مثاليّةٌ لتجوّل الخيول بحريّة. تذهب والدتي إلى تشيليابينسك في بداية العام لتصوير هذه المناظر الطبيعية على اللوحات.
بفضل هذا، تستضيف قاعة الطابق الثاني من فيلا تشيليابينسك معرضًا متواضعًا على مدار العام، يعرض أعمالًا رسمتها والدتي على مر السنين. لمدة شهرٍ أو شهرين كل عام، تُكرّس والدتي كل طاقتها الفنّية للرسم هناك، وتعود مع حلول الربيع كأولغا يفيموفنا نوفاروف، ملكة أوهالا وأُمّنا.
من بين كل المناظر الخلابة في أوهالا، كان لتشيليابينسك مكانةٌ خاصّةٌ في قلب أمّي لسببٍ واحد: لقد وُلدنا جميعًا، أنا وإخوتي الأربعة بما فيهم فاسيلي، في تشيليابينسك وليس في ماخاتشكالا.
كانت تشيليابينسك مصدر حياةٍ وملاذًا للصحة بالنسبة لوالدينا. ولا سيما بعد سقوط أبي من على حصانه في العاصمة هذا العام، لا بُدّ أن إيمان أمّي بهذا الاعتقاد قد ازداد قوةً.
قيل إن أمي وصلت مع شروق الشمس.
استيقظتُ من نومي، وما إن سمعتُ الخبر حتى أسرعتُ بالاستعداد والذهاب إليها. لكن في غرفة الاستقبال الدافئة، لم أجد سوى تاتيانا جالسةً بهدوءٍ تقرأ كتابًا.
“أين أمّي؟”
“اللقاء الأوّل دائمًا من نصيب فاسيلي.”
“وإيفان ليس هنا أيضًا؟”
“اللقاء الثاني كان دائمًا من نصيبه، تذكرين؟”
إذن، أنا التالية.
كلما عادت أمي من غيابٍ طويلٍ عن القصر، تبدأ بعد الظهر مباشرةً بلقاءاتٍ فرديّةٍ معنا بالترتيب. منذ الصغر، كان اللقاء الأول دائمًا لفاسيلي. لم يكن الترتيب مرتبطًا بالعمر أو بثقل المسؤوليات. لقد أطلقنا عليه سرًا “ترتيب المشاغبين”.
ترتيبُ مَن ترى أمي أنهم بحاجةٍ إلى اهتمامها وحُبّها المستمر. وكان فاسيلي دائمًا في صدارة هذا الترتيب، ولم يتغيّر ذلك حتى بعد أن أصبح راشدًا.
‘أمّي لا تزال تراني طفلةً. هل سيأتي يومٌ يتغيّر فيه هذا؟’
كان فاسيلي أيضًا من يحظى بأطول لقاءٍ بيننا، لكن تلك المدة تقلّصت تدريجيًا على مدى سبع سنوات. في البداية، كان يقضي مع أمّي يومًا كاملًا، أما اليوم فلا يتجاوز الأمر ثلاث ساعات، وهو تقدّمٌ كبيرٌ نسبيًّا.
“تعالي وانتظري دوركِ بصبرٍ يا لارا. هل أكلتِ شيئًا خلسةً الليلة الماضية؟ انظر إلى وجه هرّتي الصغيرة، منتفخٌ كالبالون.”
بعد ساعةٍ من تسليم نفسي لأيدي تاتيانا التي تعبث بوجهي، شعرتُ أن ساعةً كاملةً أطول مما ينبغي. ظلّ الباب المؤدي إلى الغرفة الداخلية موصدًا بإحكامٍ دون أي نيةٍ للانفتاح. وبعد أن درتُ حوله طويلًا، لم أعد أحتمل، ففتحتُ الباب على مصراعيه.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"