في داخل حديقةٍ تنضج باللون الأحمر المائل إلى الأصفر، دخلت عربةٌ خشنةٌ لا تتناسب مع القصر الإمبراطوري بصوت صرير.
فور تأكيد وصول العربة القديمة الصّاخبة، أمسكت بحقيبة الأمتعة الأخف واندفعت خارج الغرفة. صرخت فيدورا من الخلف ‘لا تركضِي، سموّكِ، ستتعثّرين!’ لكن خطواتي لم تبطئ، بل تسارعت أكثر.
“ها، ها.”
وقفتُ أمام العربة وأنا أتنفّس بصعوبة، فُتح الباب.
ضحكَ فالنتين، الذي كان على وشك النّزول، كما لو كان لا يستطيع إيقافي.
“يبدو أنكِ مُتحمّسةٌ جدًا.”
“صحيح.”
“يبدو أنّكِ لم تنامي جيّدًا، عينيكِ غائرتين.”
“بالضّبط!”
“لقد أخبرتكِ بوضوحٍ أن تُحافظي على طاقتكِ لرحلةٍ طويلة…”
“لا أعرف ذلك. فيدورا! انزلي بسرعةٍ وتحقّقي من نقل الأمتعة!”
بعد فترةٍ وجيزة، نزل الخدم الواحد تلو الآخر وحملوا الحقائب إلى مؤخرة العربة. خمسة، ستة، سبعة… كم كان العدد؟ بينما كنتُ أحسب مع فيدورا، لاحظتُ حقيبةً واحدةً منعزلةً بين أكوام أمتعتي.
“…فالنتين.”
“نعم.”
“لا تقل لي إن هذه هي حقيبتكَ الوحيدة؟”
“هذا صحيح.”
كانت صدمةً كبيرة.
كيف يُمكن؟ حقيبةٌ واحدةٌ فقط لحل مشكلة الإقامة والطعام خلال تلك الفترة الطّويلة؟
لا أُصدّق. لكن فالنتين كان أكثر الأشخاص الذين أعرفهم تجربةً في أراضٍ شاسعة، لذا إن لم أثق به، فـمَن أثق به؟
بعد تفكيرٍ عميق، أمرتُ الخدم.
“كفى! انزلوا كلّ شيء. كلّه. أنا أيضًا واحدة… لا، واحدةٌ قليلةٌ جدًا… اثنتان! سأحمل حقيبتين فقط!”
تنهَّدَ فالنتين بهدوءٍ وهو يُراقِبني.
“لا داعي للمبالغة، يا سموّكِ. لقد قلّلتِ كثيرًا بالفعل. عادةً، يجب أن تتبعنا أربع عربات، لكنكِ نظّمتِ كلّ شيءٍ بعشر حقائب.”
“لا، اثنتان مناسبتان. فكّرتُ في الأمر، وفي أسوأ الحالات، يجب أن أتمكّن من حمل حقيبةٍ في كلّ يد. قد نحتاج للهروب في منتصف الرحلة، أليس كذلك؟”
“لن يحدث ذلك. أنا بالطّبع، وسائق هذه العربة، سنحميكِ بحياتنا.”
تدخّل تشينكو، الجالس في مقعد السّائق، بصوتٍ متثاقل.
“نعم… بالطّبع. القتل هوايتي وتخصّصي.”
حدّقتُ في الحقيبتين الأخيرتين اللتان اخترتُهما بعد إقناع فالنتين.
“إذن…”
“…”
“لنجعلهم ثلاثة. يدكَ الثّانية فارغة، أليس كذلك؟”
ضحك فالنتين وهزَّ رأسه.
في تلك اللحظة، سمعتُ نداءً مألوفًا من الخلف.
“لارا.”
عرفتُ صاحب الصّوت، ففتحتُ ذراعي وقفزتُ إلى أحضانه. ربَّتَ على ظهري بضحكةٍ لطيفة، ثم أطلق تنهيدةً مليئةً بالقلق.
“لا أُصدّق. أن تنضجي هكذا وتتركي أخاكِ الأكبر لتذهبي في رحلة.”
“نعم، أنا أيضًا…”
“ومع الكونت فالنتين من بين كلّ النّاس.”
“صحيح، أنا أيضًا لا أُصدّق.”
“أعرف حُبّكِ لفالنتين، لكن لا تثقِي به كثيرًا.”
“حسنًا.”
“تذكَّرِي دائمًا كلام تانيا. هناك الكثير من الرّجال في العالم من أجلكِ.”
“سأتذكّر.”
“تقول هذا أمام الشّخص المعني مباشرة.”
بعد تقبيل خدّ فاسيلي بحرارة، أمسكتُ يد فالنتين. ساعدني على صعود العربة بسهولةٍ وسأل بهدوء.
“أعرف أن جلالتهما غادرا للنقاهة مؤقّتًا. لكن سمو الأميرة تاتيانا والأمير إيفان…”
“إيفان ظلَّ يتذمّر طوال الفجر في غرفتي عن أنها مجرّد رحلة، ثم نام، وتانيا وصلَت بالفعل.”
“وصلَت؟”
“إلى وجهتنا الأولى. يبدو أنها قلقةٌ جدًا وتحتاج إلى رؤية وجهي بين الحين والآخر لتهدأ.”
عزيتُ فالنتين الذي بدا مُتعَبًا.
“أليس من الأفضل أنها لا تتبعنا؟”
“هذا صحيح.”
أُغلق الباب، وبدأ الحصانان الأسودان اللذان سيقوداننا في التّقدّم ببطء.
فتحتُ النّافذة، فتسلّل نسيم الخريف البارِد إلى صدري. أخرجتُ جسدي من النّافذة ولوّحتُ بيدي بقوّة.
“سأعود، يا فاسيلي! اعتنِ بصحّتكَ، فيدورا أيضًا! سأرسل بطاقةً بريديّةً فور وصولي. لا تنسوا قراءتها! اخبروا إيما وأوكسانا أيضًا!”
كان شعور تلك اللحظة يصعب وصفه بالكلمات. إذا وُصف بالألوان، فقد يكون كسماءٍ رماديّةٍ باهتةٍ أو سطح ماءِ شفافِ يُذكّر المرء بنهر الصّيف. كان مليئًا بالحنين والتّردّد، لكنه مُثيرٌ ومُمتعٌ أيضًا.
“كوني حذرة، يا سموّكِ. سنغادر القصر الآن.”
أغلقتُ النّافذة عند هذه الكلمات.
اتّكأتُ على المقعد، وفتحتُ حقيبتي، وأخرجتُ إحدى البطاقات البريديّة التي كنتُ أحتفظ بها بعناية.
بطاقةٌ بريديّةٌ تُظهر شارع زهور التفّاح في أوبلونسكي.
كانت هذه أيضًا وجهتنا النّهائيّة التي سنصل إليها الرّبيع القادم. في يوم بلوغي سنّ الرّشد، بدت ساحة أوبلونسكي المُزدحمة بالباعة الذين يبيعون زهور التفّاح مُفعمةً بالحيويّة والصّخب. أن أذهب إلى هذا المكان الذي أرسله فالنتين مع رسالة…
“فالنتين.”
رفع رأسه بهدوءٍ وهو ينظر إلى البطاقة معي. قابلتُ عينيه الفيروزيّتين الجميلتين وعاتبتُه بتعبيرٍ جاد.
“كُن صادقًا.”
“في ماذا؟”
“رأس ليبرتان. ألم تكن تنوي إحضاره حقًّا؟”
سؤالٌ ظلَّ يُراوِدني خلال الأيّام القليلة الماضية.
هل كانت تلك الشّائعة الغريبة عن رأس ليبرتان مُجرّد هراء؟
كان إيفان دائمًا مُبالغًا، لكن تاتيانا ليست كذلك. بالطّبع، تتحمّس تاتيانا أحيانًا، لكن فاسيلي استثناء. كان فاسيلي دائمًا عقلانيًّا للغاية ولا يعتمد على الحدس. كان هناك بالتّأكيد دليلٌ جعله قَلِقًا بما يكفي لزيارتي.
و…
“هل حقًّا لم تكن هناك رسالةٌ من إيغور؟”
مرّةً أخرى، يبدو غريبًا مهما فكّرتُ.
على الرّغم من أنني لم أعرف إيغور لوقتٍ طويل، كان من الواضح أنّه هادئٌ وحسّاسٌ مثل فاسيلي. لا معنى أن يرفضني ومع ذلك يتوقّع شيئًا منّي أو يأمل في شيء.
أغلق فالنتين عينيه واتّكأ على كتفي. طوى جسده الكبير في العربة الصّغيرة وأجاب بصوتٍ مريحٍ للغاية.
“في كلّ مرّةٍ أرى فيها هذا الجانب منكِ، أشعر براحةٍ كبيرةٍ لأنني عاقل.”
“أنتَ عاقلٌ دائمًا، يا فالنتين.”
“نعم، لو لم أكن عاقلًا، لكنتُ سلّمتُ الرّسالة والرأس إليكِ وقد أعجباكِ.”
ما هذا؟ إذن، كلّ شكوكي كانت صحيحة؟
“أيها الوقح…”
“لقد أدركتِ الآن، لكن بعد فوات الأوان. سموّكِ محكومٌ عليها الآن بأن تأخذي الكونت فالنتين الوقح والدنيء زوجًا. إذا غضبتِ، انظرِي إلى وجهي واغفري لي.”
“مهما كان، كان أَخذُ الرّسالة مُبالغة. هذا ليس احترامًا لإيغور، يا فالنتين. ألم تكن أنتَ مَن علّمني آداب تبادل الرّسائل؟”
“أخذتُها لأنّي لم أنسَ. كان من الواضح أنها ستطول بلا داعٍ، أليس كذلك؟”
نفختُ شفتَي ونظرتُ من النّافذة. لكن يا فالنتين، لو كنتُ مكانكَ، لما استخدمتُ خدعةً رخيصةً كهذه. كنتُ سأُقدّم رأس ليبرتان كهديّةٍ كما خطّطتُ… لا، أعني، كنتُ سأُسلّم رسالة إيغور ثم أُحاول جاهدةً تغيير قلبي.
لكن ما فائدة التّذمّر الآن؟ حقيقة أن فالنتين جبانٌ رخيصٌ لن تتغيّر.
“عندما نُغادر أوهالا، سأشتري الكثير من البطاقات البريديّة أينما وصلنا.”
“حسنًا.”
“في اللّيل، أُريد تجربة التّخييم. إن أمكن، في مكانٍ لا تظهر فيه الدببة.”
“وماذا بعد؟”
“هذا لاحقًا، لكن سأصنع أكبر عددٍ ممكنٍ من الأصدقاء وأدعوهم إلى حفل زفافنا الرّبيع القادم.”
“أيّ نوعٍ من الأصدقاء تُريدين صنعه؟”
“صديقاتٌ مثل إيما وأوكسانا. عشرة، لا، مئة صديقة، وأجمع الصّديقات فقط لالتقاط صورةٍ تذكاريّةٍ أو رسم…”
أسندتُ رأسي على رأس فالنتين، وبدأتُ أُردّد الأمنيات التي دوّنتُها في دفتري خلال الليالي القليلة الماضية.
تستمرّ عجلات العربة في الدوران. منذ وقتٍ ما، أصبح هذا الصّوت أكثر إثارةً من صوت عقرب الثّواني. أصبحنا بوصلةً لبعضنا البعض، نقف على طريقٍ لا يُمكن أن يُخطئ أبدًا.
الآن فقط، أدركتُ الأمر.
أخيرًا، أمسكتُ يد فالنتين ومضينا نحو المستقبل.
إلى مكانٍ لا يستطيع القدر العثور علينا فيه.
إلى النّعيم الأبعد عن الجحيم.
بعيدًا، بعيدًا جدًا…
النّــهاية.
شكرًا جزيلًا، شكرًا بصدقٍ لكلّ من خاض في قراءة الرواية وتقاسم هذه الرحلة الجميلة معي… ممتنّة للأبد لكلّ قارئٍ لطيفٍ مَرَّ من الرواية وترك فيها أثرًا بتعليقٍ أو غيره، نهاية الرواية غير مرضيةٍ بحقٍّ! بعد أن عانينا من الأبطال ومكابراتهم على بعضهم طيلة الـ 114 فصل وانتظرنا ربيعهم، ضحك المؤلف علينا وأنهى ربيعهم قبل أن يبدأ.
لكن على أيّ حال، نقول الحقّ أن الرواية تركت بداخلنا دفئًا وحُبًّا… وأن العنوان (أتمنّى لو أنّكَ أحببتني) قد تحقّق فعلًا، بل إنه كان متحقّقًا قبل بدء الرواية، أتتخيّلون؟
يصعب عليّ كتابة هذه الكلمات، أشعر أنني سأبكي… لم يكونوا شخصيّات خياليّة، بل إنني عشتُ معهم جميع اللحظات، منذ أوّل فصل حتّى الأخير.
ومن المؤسف حقًا افتقاد الرواية لفصول جانبيّةٍ أو إضافيّة أو بعض القصص الخاصّة، إن هذا المؤلف قد استحقّ الضرب بجدارة! أؤيد أن نرسل تشينكو كي يُهدّده بكتابة بعض الفصول الأخرى أو كتابة روايةٍ لأطفال الأبطال حتّىヾ(≧ ▽ ≦)ゝ
ممتنّة مرّةً أخرى لحسن مروركم وقراءتكم، بأصدق حُبٍّ أكننتُه لروايةٍ يومًا أشكركم وأتمنّى أن تبقوا في حفظ الرّحمن دائمًا وأبدًا، مُترجِمتكم العزيزة بلوفياس🤍
التعليقات لهذا الفصل " 131"