تمنّى أن تكون هذه الحياة هي الأخيرة، لكنّه دائمًا ما فكَّرَ في التّالية. إذا فشل حتّى في الرّابعة، كيف سيتحمّل الخامسة؟ هل سيكون للتّالية معنى؟
في دائرةٍ لا نهائيّةٍ لا تنتهي، وجود شخصٍ أغلى من نفسه هو لعنةٌ بحدّ ذاتها.
لكن كيف يُمكن لإنسانٍ تافهٍ أن يتحرّر من لعنة؟ كانت السّماء دائمًا غير مباليةٍ بفالنتين.
كلّما دفعها بعيدًا، اقتربت يدٌ بيضاءٌ أكثر. مهما أدار رأسه بلا مبالاة، كانت تقترب وتبتسم بنقاء.
أعترِفُ. أُريدكِ بشدّة.
لا، لا يجب أن أعترف.
لم يستطع إحضار لاريسا إلى واقعه. هذا لم يكن صحيحًا. أميرتي، لاريسا. هذا مُستحيل، مُستحيل تمامًا…
[أنا مَن يقرر مَن يُناسبني. أُريدكَ أنتَ. ألا تفعل كذلك؟]
فجأة.
[أنتَ الآن مِلكِي، يا فالنتين. يجب أن تنظر إليّ وحدي، تُحبّني وحدي، وتفعل كلّ شيءٍ معي وحدي…]
نما صدعٌ من القاع. همس الصّدع لفالنتين بصوتٍ ساحرٍ للغاية.
اسحَبْها إلى الأسفل، يا فالنتين. إذا لم تستطع الرّفض، امسِك قدميها واسقِطها إلى هذا القاع. قَبِّلْها، احتضِنها، واجعِلها مِلككَ. لا داعي لإضاعة الوقت في التّفكير.
كانت القبلة مُذهلة. شَعَرَ كأنّ جسده يحترق تحت أشعة الشّمس. اختفى الشّعور بالذّنب بسرعةٍ في نشوة البهجة، تاركًا فقط مشاعر فاسدة مثل الطّمع، الهوس، والغيرة.
أُريد لاريسا. أُريدها. أشتاق إليها بشدّة، لكنني أخشى أن تنفر منّي وتُدير ظهرها. لهذا أخاف منها. أردتُ جسدها وعقلها وحُبّها، ولم يكن ذلك كافيًا، أردتُ أن أمتلك شفقتها وغضبها بالكامل.
أحببتُ نظرات الشّفقة التي كانت ترمقني بها، شعرتُ بالقشعريرة من تعاطفها الدّافئ، وشعرتُ بالنشوة من صوتها الذي يقول إنها لا تستطيع فعل شيء. نعم، أنا جبانٌ حقير. أرجوكِ اشفِقِي عليّ أكثر. مدِّي يدكِ إليّ. مدّيها، واحتضِنيني إلى الأبد، يا لاريسا…
نعم.
هكذا كان الأمر.
“القائد.”
دوامة تلك المشاعر الدنيئة والأنانية، أليست هي عالم فالنتين؟ على أيّ حال، كان غَدُ فالنتين أحد خيارين. إما أن يعود من جديد، أو يبقى هنا.
“…الجثّة؟”
“بدأت عملية التّخلّص منها.”
“اوقِف ذلك واحضِر منشارًا.”
أغلق فالنتين الدرج.
عادت خطواته إلى الطّريق الذي جاء منه. ‘منشار، منشار…’ كرّر تشينكو الأمر بنظرةٍ ذات مغزى، ثم توقّف أمام القفص وسأل.
“هل يُمكنني سؤالكَ عن الغرض؟”
لأوّل مرّة، شَعَرَ بلمحةٍ من اليقين أن العودة إلى البداية لن تكون سيئة. إذا واجه البداية مجددًا، ألا يُمكنه الاقتراب من لاريسا بطريقةٍ مختلفةٍ قليلاً؟ هذه المرّة، ألا يُمكنه حبسها في دفيئةٍ دافئةٍ وتربيتها كملاكه الخاص؟
لذلك، لا يُهمّ أيّ شمسٍ ستشرق غدًا.
“سآخذه كهديةٍ لحبيبتي.”
كانت هذه التّوقّعات هي سبب حياة فالنتين.
* * *
تلقّيتُ أخبار عودة فالنتين في ليلةٍ متأخّرةٍ تقترب من منتصف اللّيل.
بما أنه كان معروفًا خارجيًّا أنه انطلق في رحلةٍ دراسيّةٍ قصيرة، فإن وصوله غدًا ليس بصفته الكونت ناريان، بل بصفته قائد هورغان، للإبلاغ عن إتمام مهمة القضاء على المتمرّدين، التي تُعتبر جوهر وجود وحدة هورغان.
هذا يعني أنه سيلتقي بوالدي وإيفان، لكنّه لا يستطيع مقابلتي. ونتيجةً لذلك، أصبح مزاجي مُتعكّرًا للغاية.
قال لي أن أنتظر، لكنّه لم يُخبرني بأيّ شيءٍ حتّى تم ترتيب هذا الجدول.
كنتُ أنتظر فالنتين بصمتٍ لمدة نصف عام. قد يعتقد البعض أن نصف عامٍ ليس بالأمر الكبير، لكنني لم أنسَ فالنتين ولو ليومٍ واحدٍ منذ افتراقنا.
كلّ صباح، كنتُ أستيقظ وأُفكّر في وجهه. كلّ ليلة، كنتُ أُغلق عينَي مُتمنّيةً سلامته. كنتُ أتحقّق من حياته من خلال فاسيلي أو إيفان أحيانًا، لكنني لم أُحاول التّواصل معه مباشرة.
‘هل فالنتين بخير؟’ كنتُ أسأل أسئلةً تافهةً كهذه، وأتلقّى إجاباتٍ غير مباليةٍ مثل ‘هو بخير’. لم أُعبّر يومًا عن مشاعري الحقيقيّة مثل ‘ما الذي يفعله ذلك الرّجل حتّى لا يتواصل معي حتّى الآن ويعيش كما يحلو له؟’ على الأقل، كان يجب أن يخبرني أنه بخيرٍ قبل أن أسأل! ألم يأسر ليبرتان ذلك الأحمق ويتعامل مع بقاياهم بسهولة؟ هل يعتقد أنني سأنتظره إلى الأبد؟ لا تمزح، أنا أميرة أوهالا. الرّجال الذين يُريدونني يمكنهم أن يصطفوا حول ماخاتشكالا ويفيضوا! إذا أردتُ، يمكنني إقامة حفل خطوبةٍ غدًا!
تحمّلتُ الغضب الذي يتصاعد إلى رأسي واتّجهتُ إلى السّرير. في مثل هذه الأوقات، بدلاً من إطلاق الغضب بعنف، كنتُ أحاول تهدئة نفسي بالتّنفّس العميق ودفن وجهي في الوسادة، ثم أنظر إلى نفسي من بعيد، لأشعر أن كلّ شيءٍ تافه… لكن بحق خالق الجحيم، أنا غاضبة!
نقر إيفان، الذي كان يقف عند الباب يُراقب ردّ فعلي، بلسانه.
“أنتِ وفالنتين. متشابهان، متشابهان.”
“لا تُعاملني مثل ذلك الأحمق!”
على الرّغم من غضبي، لم أتجاهل كلماته الأخيرة.
“…ما الذي تقصد بمتشابهان؟”
“ما الذي قد يكون؟ أنكما تنتظران وتتحمّلان بغباء، هذا ما أعنيه.”
“…فالنتين كان ينتظرني؟ لا! لا تُجب. لا يُهمني.”
حتّى لو انتظر، هل كان انتظاره مثل انتظاري؟ لو كان يشتاق إليّ حقًا، لما مرَّ نصف عامٍ بدون رسالةٍ واحدة.
اندفعتُ إلى السّرير مُتجاهِلةً إيفان ودفنتُ وجهي في الوسادة. الخطوة التّالية هي التّنفّس العميق. ثمّ الاعتراض.
كان فالنتين يتواصل على الأقل مرّةً في كلّ موسم. أن يُغلق فمه ويتجاهلني يعني أن قلبه ابتعد خلال هذا النصف عام.
‘في البداية، رُبّما بدوتُ له جذّابةً وجميلة، لكن عندما تأكَّدَت مشاعره، فقد اهتمامه. تصرُّفهُ كجبانٍ كان لأنه أراد اللعب بي فقط، لكنه لم يُرد وعدًا بالأبديّة. كانت أوكسانا مُحقّة. فالنتين كان خلية نحل.’
وأخيرًا، أعود خطوةً إلى الوراء.
آه.
‘أنا غبيّةٌ حقًا…’
أنا غبيّةٌ جدًا. ماذا أفعل محبوسةً في هذه الغرفة لأيّام؟
“اخبِر فالنتين، يا إيفان. قُل له أن يواجهني غدًا لـنُنهي الأمر.”
“ننهي الأمر؟ لا أعرف ما هي الحماقة التي تُخطّطين لها، لكن فالنتين يُريد مقابلتكِ، فلا داعي للتّشبّث بي. مُزعِجة.”
“…مقابلتي هي هدفه؟”
“نعم.”
“ألم تقل إنه جاء لتقديم تقريرٍ عن إتمام المهمة لوالدي؟”
“حسنًا، هذا السّبب الظّاهري، أليس كذلك؟”
“…”
“سعيدة؟ بالطّبع. لا تعرفين شيئًا، لذا تشعرين بالسّعادة فقط. حسنًا، استمتعِي الآن. لن تتخيّلي ما الذي ستواجهينه غدًا…”
“ما الذي تتحدّث عنه؟”
تنهَّدَ إيفان، لوَّحَ بيده، واستدار.
“كفى. أُحذّركِ، تمسَّكِي بعقلكِ جيّدًا. كوني حذرة، مهما تخيّلتِ، سيكون أكثر من ذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 126"