كان ليبرتان مُحتجزًا في هذا المكان لما يقرب من نصف عام. في الشّهرين الأخيرين، كان يبكي كطفلٍ صغيرٍ في كلّ مرّةٍ يفتح فيها عينيه، مُتمنّيًا الموت.
مع مرور الوقت، يفقد النّاس حتّى كراهيّتهم وغضبهم تجاه أعدائهم ويشعرون بالشّفقة. حتّى أوائل الصيف، كان أعضاء وحدة هورغان يستمتعون بمعاناة ليبرتان وصرخاته، لكنهم بدأوا تدريجيًّا في تجنّب قفصه. حتّى تشينكو القاسي كان يحثّ أحيانًا على إنهاء حياته.
لكن فالنتين لم يقتل ليبرتان.
كان ينتظر بهدوء. اللحظة التي سينهض فيها ليبرتان.
انتظر فالنتين بلا توقّف. اللحظة التي ستبدأ فيها حياته الخامسة.
انتظر وانتظر، لكن حتّى هذا اليوم، حيث بدأت أمطار الخريف الغزيرة، لم يتغيّر شيء. لم ينهض ليبرتان مجددًا، ولم تبدأ حياة فالنتين الخامسة.
لا يزال فالنتين موجودًا في هذا العالم.
لا يزال، في هذا المكان.
“تشينكو، استدعِ فرقة التّنظيف. سنتخلّص من جثّة زعيم المتمرّدين.”
عند هذه الكلمات، انتفض تشينكو، الذي كان واقفًا بملامحٍ خاليةٍ من الرّوح، مصدومًا.
سُمِعَت أصوات خطواتٍ مُتسارعة. استدار فالنتين بعيدًا عن ليبرتان ونظر إلى النمس، الذي كان يمسح عرقه البارِد بعيدًا عن القفص بعد تسليمه الأمر الإمبراطوري.
تذكّر عطرًا ينبض بالقلب، وشعر بعطشٍ يحرِق حلقه. بدأت جميع حواسه المُغلقة تصبح واضحة. خطّ يدٍ أنيقٍ ورفيعٍ لم يره منذ زمن طويل. كيف رحّبت به أميرته؟ ما الذي كانت تُفكّر فيه وهي تنتظره؟ عندما تخيّل رسالةً لمستها يد لاريسا، شَعَرَ بألمٍ في قلبه.
لكن توقّعات فالنتين هذه سقطت إلى الأرض في لحظة.
“إذا كنتَ تتحدّث عن تلك الرّسالة التي سلّمتها سابقًا، فلم أتلقَّ شيئًا هذه المرّة.”
“…لا شيء؟”
“نعم؟ نعم.”
“لا شيء على الإطلاق؟”
“نعم… هل كان من المفترض أن يكون هناك شيء؟”
مُستحيل.
وفقًا لذكرياته، لا يوجد رسالةٌ متّفقٌ عليها. نعم، بالتّأكيد لم يكن هناك…
لكنّه قلق. عندما أدرك هذا، استعاد العالم، الذي كان مشوّهًا ومظلمًا بدون ضوءٍ لمدة نصف عام، شكله الحقيقي في لحظة. بدا وكأن عطرًا لا يمكن أن يُشم في أنفه، الذي فقد وظيفته بسبب رائحة الجثّة المتعفّنة، يدور في ذهنه كحلم.
لِمَ لَم يكن هناك أيّ تواصلٍ خلال النصف عام الماضي؟
عبس فالنتين بعدم ارتياحٍ ووصل إلى مكتبٍ يُستخدم في هذا الطّابق السّفلي المتعفّن. كانت هناك أكوامٌ من الصّحف المُصدرة من الرّبيع حتّى الآن بجانب المكتب، وبعضها موضوعٌ على المكتب. كانت صُحفًا ذُكر فيها اسم لاريسا.
عندما فتح الدرج، رأى رسائل وصلت بشكلٍ دوري من القصر الإمبراطوري. كالعادة، كما لو كان ذلك روتينًا يوميًّا، كان يتلقّى تقارير عن كلّ حركةٍ من لاريسا. خلال النصف عام، لم تُظهر لاريسا أيّ تحرّكاتٍ خاصّة.
بدا أنها هادئة، وكأنّها تكيّفت بشكلٍ رائعٍ مع الوقت بدون فالنتين. شَعَرَ بالفخر بها، لكنّه في الوقت نفسه شعر بالاستياء. على الرّغم من اعتياده على مراقبتها من بعيد، كان ينزعج من أنها لم تبحث عنه، بل وقفت بمفردها، وحضرت حفلات عائلة نيكيتين وبطولات التنس التي يُنظّمها القصر الإمبراطوري بلا خوف.
يبدو أن لديكِ الوقت للّعب، لكن لا وقت لديكِ لتفتقدينني.
كانت الرّسائل تصل دائمًا ورقةً واحدةً فقط. المُرسِل إما إيفان أو فاسيلي، لا غير. لا لاريسا. على الرّغم من أنها كانت تستطيع الإرسال في أيّ وقت، وعلى الرّغم من أنها تعلم أنه ليس بعيدًا، لم تُرسل شيئًا حتّى النّهاية.
يا لها من أنانيّةٍ مُقزّزة.
على الرّغم من علمه بأن هذا الانتظار مُقزّز، طفوليّ، مٌثيرٌ للشّفقة، وغبي، استمرّ فالنتين في انتظار لاريسا. كلّما اشتاق إلى عطر لاريسا بشكلٍ لا يُطاق، أمسك القلم وكتب ‘إلى أميرتي الحبيبة لاريسا’ ثم تخلّى عن ذلك. أراد أن يركض إليها ويبتلع شفتيها الرقيقتين، لكنه لم يستطع تحويل ذلك إلى فعل.
كان فالنتين محبوسًا هنا.
هذا المكان هو قبره.
على الرّغم من تمنّيه طوال حياته أن تنتهي اللعنة، لم يستطع التّحرّر منها. كان ينتظر فقط أن يختفي ليبرتان من هذا العالم… تمنّى أن ينتهي الكابوس ويبقى كلّ شيءٍ كما هو… لكنّه أيضًا انتظر العودة إلى البداية بعد انتهاء كلّ شيء… سقف غرفة النّوم الذي نظر إليه بعمر خمس سنواتٍ سيجلب اليأس والرّاحة معًا… لقد اعتاد فالنتين بالفعل على هذا التّكرار اللانهائي…
لكن، يا لاريسا، إذا مددتِ يدكِ إليّ.
إذا لامس وجودكِ وجودي.
كما في السّابق، إذا استسلمتُ لجذبكِ، سأتمكّن من الوقوف بجانبكِ بهدوءٍ كما لو أن شيئًا لم يحدث.
ستفقد اللعنة قوّتها. أنتِ نفسكِ الدليل. كنتِ أنتِ، يا لاريسا، المثال الذي أظهر لي أن حتّى جبانًا ضعيفًا يُمكنه المضي قدمًا.
“القائد.”
“…”
“هل نُنظّف هذا المكان أيضًا؟”
لم يخرج جواب ‘نعم’ بالطّبع. أمسك فالنتين جبهته النّابضة وهو يُنظّم أنفاسه بصمت.
ثم لفت انتباهه ظرفٌ مزخرفٌ عالقٌ بين عشرات الرّسائل. كانت أوّل رسالةٍ وصلت من لاريسا، البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا، مفعمةً بالحيويّة والجمال كمهرةٍ وُلِدَت للتو.
كيف وصلتني هذه؟
[رجاءً، اخفِني هنا.]
تذكَّرَ.
لا تزال صدمة تلك اللحظة واضحةً في ذهن فالنتين.
كأن قدوةً بعيدةً كان يتبعها طوال حياته سقطت إلى الأرض. لم يستطع فالنتين قول أيّ شيءٍ وهو يواجه قدوته. رُبّما تمتم بشيء، أو رُبّما حدّق بذهول. صوت لاريسا، الذي سمعه عن قرب، بدا كجوقةٍ ملائكيّةٍ تنبع من سماء الهاوية.
كان ذلك ساحرًا إلى هذا الحدّ.
ولهذا كان مُخيفًا.
[اختبأتْ عندما تقاطعنا. هنا بالضبط.]
كان الهروب غريزيًّا.
في عالمٍ بدأ يدور حوله بشكلٍ طبيعي، لم يكن هناك مستقبلٌ يلتقي فيه هو ولاريسا. لا، لم يكن يجب أن يكون هناك.
تمنّى فالنتين أن تكون حياته الرّابعة هي الأخيرة، لكنه دائمًا ما كان يُفكّر في النّهاية السيّئة. كان أسوأها، بلا شك، موت لاريسا، لذا اكتفى بمراقبتها من بعيد.
رسم أحلامًا لا حصر لها بإمساك يد لاريسا، مُشارَكة الدفء، وهمس البَركات، لكنه لم يُفكّر أبدًا في تحقيق ذلك في الواقع.
إذا تجاوز خطّ الغرباء معها، التي تكتمل بوجودها وحده، وشارك مشاعرهما وأفكارهما، فسيسحقه الخوف والهلع. كان الخوف من مستقبلٍ يُسيطر فيه على عالمها ويتحكّم به، مدفوعًا بهوس عدم القدرة على فقدان لاريسا، يُسيطر عليه.
التعليقات لهذا الفصل " 125"