شعرتُ أن هذا الانتظار سيكون آخر انتظارٍ لفالنتين. إنّه ذاهبٌ إلى ليبرتان. تذكّرتُ وجوده المنسي، وأدركتُ أن أحد أسباب دفع فالنتين لي بعيدًا كان ليبرتان. في أسوأ الحالات، إذا لم يعد، لم يستطع أن يعدَني بغد.
لم أقرأ رسالة فالنتين ووضعتُها في الدرج.
في اليوم التّالي، جاء إيغور.
تحدّثنا عن مواضيع كثيرةٍ أجّلناها. فاجأني أنه، رغم كونه عضوًا في النّادي الملكي، كان يؤدي مهامًا سرّيةً متعددةً في ماخاتشكالا كجزءٍ من هورغان. مع وجود هورغان في كلّ مكان، بدأتُ أتساءل إن كنتُ الوحيدة التي لم تكن تعرف بوجودهم.
كان وجه إيغور يعكس الفخر وهو يتحدّث عن هورغان. رُبّما كان هذا الاسم يزرع في الشّباب النّبلاء شعورًا بالواجب والحماس لخدمة الوطن. كان بمثابة منارةٍ وفوهة بندقيّة، تربطهم وتراقبهم، تعطيهم شعورًا بالانتماء والمسؤوليّة.
أثار مظهره الجديد والمُثير للاهتمام شعورًا غريبًا بداخلي.
لو اخترتُ إيغور، لكنتُ رأيتُ هذا الجانب منه وغيره من جوانب قيمته. كانت التّخيّلات ممتعةً ومثيرة، لكن تلك الأيّام لن تأتي أبدًا.
على عكس سيرجي، الذي كان صديق طفولتي المُقرَّب، كانت علاقتي بإيغور مبنيةً على الرّومانسيّة والزّواج. عندما تفقد العلاقة أساسها، تفقد معناها. علاقات البشر عابرةٌ حقًا.
كان هذا كلّ ما في حديثنا.
على عكس الزخم والجو الذي كان بيننا اليوم السّابق، لم يذكر إيغور أيّ شيءٍ عن النّظرات أو الأجواء التي كانت بيننا في الماضي.
خمّنتُ السّبب تقريبًا. لم يأتِ إيغور ليكشف عن مشاعره الحقيقيّة. رُبّما أراد أن يرى بعينيه إن كنتُ سأعطيه إشارة. رُبّما كان يتأسّف على فرصةٍ ضائعة، آملًا أن تعود يومًا.
لكن إيغور لم يكن جبانًا دنيئًا مثل فالنتين، فلم يكشف عن مشاعره أو يفرضها. وهكذا، انفصلنا وعدنا بالالتقاء مرّةً أخرى في المرّة القادمة.
اشتقتُ لفالنتين، لكن… لم أفتح الرّسالة.
بعد ثلاثة أيّام، تناولتُ الغداء مع إيلين وابنتها.
لمّحَت الدوقة إيلين إلى رغبتها في استخدامي لصرف أنظار المتمرّدين. وافقتُ بسهولة، ثم ناقشنا الطّريقة لفترةٍ طويلة.
عادةً، كانت أوكسانا تجلس بهدوءٍ كأنها غير موجودةٍ أو تغادر المكان، لكن هذه المرّة شاركَت بحماس. كانت تنظر إليّ أحيانًا بنظراتٍ تحمل رغبةً في الاعتراف لم أرَها من قبل. هل كنتُ أبدو هكذا عندما كنتُ أتعامل مع إخوتي؟ لم أستطع تجاهلها.
بعد فترةٍ وجيزة، ظهر اسمي في زاوية الصّحيفة مُجددًا. كانت الأخبار عن حضوري لحفل افتتاح متحف لاكسيسير، بعد أقلّ من شهرٍ من تهديدٍ باغتيالي.
بما أنني حضرتُ صلاةً علنيّةً بعد تهديدين باغتيال، لم يكن حضوري هذا يُعتبر غريبًا بشكلٍ خاص، بل شجاعة مُضاعفة.
بعد أربعة أيّامٍ من نشر الخبر، عدتُ إلى القصر الإمبراطوري.
كان كلّ شيءٍ في القصر كما هو. فاسيلي، تاتيانا، إيفان، فيدورا، سيرجي، إيما… شعرتُ أن الفترة التي قضيتها محبوسةً في ذلك القصر القاتم كانت حلمًا. التقينا، ضحكنا، واستمتعنا كالمعتاد.
حضرتُ بعض الحفلات لإظهار وجهي، وسخرتُ من الشّائعات السّخيفة. معظم الذين أبدوا اهتمامًا بي تراجعوا بسبب سيرجي. سمعتُ شائعاتٍ عن خطوبةٍ جديدةٍ لإيغور، لكن حتّى إيما لم تؤكّد صحّتها.
اشتقتُ لفالنتين، لكن… لم أفتح الرّسالة.
في الصّيف، مع تفاقم مرض والدي، حَثَّ فاسيلي على الزّواج السّريع. عادةً كان فاسيلي سيضحك ويتجاهل الأمر، لكن هذه المرّة كان مختلفًا. راجعنا بعنايةٍ 28 صورة شخصيّة وصلت إلى القصر، مُستعدّين لاستقبال إمبراطورةٍ جديدةٍ لإمبراطوريّة أوهالا.
خلال ذلك، مَرَّ الوقت بسرعةٍ مذهلة، وجاء الخريف مُجددًا.
لم يعد فالنتين إليّ بعد.
* * *
حفيف-.
كانت ليلةً تمطر فيها أمطارٌ سوداء محمولة على الرّياح.
على الطّين الزلق كالمستنقع، اندفع حصانٌ أبيض يرفرف بذيله الطّويل.
بين الأمطار الغزيرة، ظهرت الأعشاب المنحنية والأشجار المكسورة التي لم تتحمّل الرّيح العاتية. استمرَّ الرجل، الذي كان يتفحّص محيطه باستمرارٍ ويخترق الظّلام بنظره، حتّى توقّفت عيناه على جدار قلعةٍ أسود مخفيّ بظلال اللّيل.
“الآن يُمكنكِ أن تتنفّسي قليلاً، يا جميلتي.”
رفع قبعته السّوداء كالسّماء، فتبدّدت أنفاسه البيضاء كالضّباب في برد أوائل الشّتاء. لم تكن القلعة غريبة، لكنها أشعَرَت بغرابةٍ كما في الشّتاء الماضي. عندما تجاوز الجدار، ظهرت أرضٌ قاحلةٌ ونقطة تفتيش مدمّرة.
دخل داخل القلعة المدمّرة جزئيًّا وربط حصانه بجانب عشرة خيولٍ أخرى تستريح. استحضر ذكرياتٍ متفرّقةٍ ودفع رفّ كتبٍ قريب، فظهر درجٌ حادٌ ومخيفٌ يؤدي إلى الطّابق السّفلي.
بينما كان يسير مُتلمّسًا الجدار بأصابعه، سمع صوتًا.
“مَن أنتَ؟”
“…أنا مرسول. جئتُ لتوصيل أمرٍ إمبراطوري.”
أخرج رسالةً بهدوء، فامتدّت يدٌ كبيرةٌ من الظّلام وانتزعتها.
“حسنًا. ما اسمك؟”
“النمس الأبيض ذو المسدّس.”
فجأة، أضاء المكان، والرّجل الذي أطلق على نفسه لقب النمس أخفى عينيه بحركةٍ مألوفة. قبل أن يفتح عينيه تمامًا، تحدّث الشّخص الغامض الذي سبقه في النزول بصوتٍ معدني.
“البندقيّة على ظهركَ لا تبدو كمسدّس.”
“بندقيّتي ليست مسدّسًا، بل بندقيّة صيد، وأنا لستُ نمسًا، بل إنسان.”
“يبدو أننا أجرينا محادثةً مشابهةً من قبل. ماذا تنتظر؟ تعال.”
أخذ النمس الرّسالة وتوغل في الطّابق السّفلي. إن لم يكن مخطئًا، بدا المكان أوسع مما كان عليه. كان جنود أوهالا بالزي الأخضر الدّاكن أكثر شيوعًا أيضًا. وفي هذه المرحلة…
“…”
غريب. كان من المفترض أن تُسمع صرخاتٌ مروّعة.
غريبٌ جدًا.
هادئٌ بشكلٍ غريب.
ابتلع النمس ريقه.
عند تلقّيه الأمر الإمبراطوري، سمع تقريبًا عن الوضع هنا. تم إكمال جميع المهام المُتعلّقة بالمتمرّدين بنجاحٍ قبل نصف عام، وتم حلّ وحدة هورغان الخاصّة على الفور.
لذلك، كان من المفترض أن يكون الجميع الآن يلعبون الورق أو يغطّون في النّوم بعد التدخين أو الشرب. لكن هذه الأجواء بدت كأنها…
“أخ.”
فجأة، اجتاحته رائحةٌ نتنة، فأمسك النمس بأنفه.
“الرّائحة قويّة، أليس كذلك؟ تحمَّلْ. نحن أيضًا نكاد نموت.”
لا يمكن نسيان هذه الرّائحة القويّة بمجرّد شمّها. استمرَّ في السير، بالكاد يتنفّس من التوتّر، عندما دفعه أحدهم بخفّة.
“القائد.”
ظَهَرَ ظَهرُ رجل. لا شك، كان ظَهرُ الرّجل من ذكرياته. ابتلع النمس ريقه مُجددًا ودخل داخل القضبان الحديديّة التي وصل إليها.
التعليقات لهذا الفصل " 123"