إنّه الآن مشغولٌ للغاية، لا وقت لديه ليهرع إلى هذا القصر لمقابلتكِ. اختار الرّسالة بدلاً من اللقاء وجهًا لوجه. أتريدين أن تشعري بالإهانة بشكلٍ طفوليٍ رغم معرفتكِ بهذه الحقيقة البديهيّة؟
‘ليس هذا! لو لم يكن هناك أيّ تواصل، لما شعرتُ بهذا الشّعور أصلاً. المشكلة هي أنه أرسل رسالة. المشكلة هي أنني…’
هَمَسَ القلق المدفون في أعماق قلبي.
أنتِ تعرفين. أنتِ خائفةٌ من أن تحمل هذه الرّسالة رفضه، أليس كذلك؟
أنتِ لستِ خائفةً من الرّسالة، بل من فالنتين نفسه.
أنتِ تخافين من السّبب الذي يجعله، رغم تعبيره عن الحُبّ بكلّ جسده، غير قادرٍ على إعطائكِ تأكيدًا بالكلمات. تخافين أن يكون هذا السّبب هو عدم قدرته على اختياركِ…
‘لمَ لا يستطيع فالنتين اختياري؟’
أعرف أن ليبرتان هو المشكلة. لكنّه يُمكن أن يطلب مني الانتظار. الانتظار هو ما أُجيده أكثر من أيّ شيء.
تخيّلتُ نفسي مرّاتٍ لا تحصى وأنا أتلقّى رفض فالنتين. كان ألم تلك اللحظة لا يطاق، فـلَم أتمكّن من فتح الرسالة وهربتُ من غرفة نومي.
لكن مهما تجوّلتُ في الحديقة الضيّقة، لم يتحسّن مزاجي المُعكّر.
عندما أُفكّر ببرود، أعلم أن فالنتين لن يستخدم رسالةً واحدةً لرفضي. لكن رغم معرفتي، لم يتوقّف القلق والاكتئاب. هل يُمكن أن يكون هناك شخصٌ أحمق أكثر منّي في هذا العالم؟
‘هذا الشّعور هو الأسوأ.’
أغمضتُ عينَي وأنا أستقبل نسيم الرّبيع البارد في نهاية الموسم.
لا أفهم. ما الذي ينقصني حتّى أعاني بسبب شخصٍ واحد؟
كان الأمر أفضل عندما أُصيب كتفي. أشعر بالشّفقة على نفسي وأنا أغرق في الاكتئاب بمفردي. أردتُ الهروب من هذا التّيه العقيم فورًا.
في النّهاية، هناك طريقٌ واحدٌ فقط.
“حسنًا، سأجعله مِلكِي ببساطة.”
سواء رفضني فالنتين أم لا، سأجعله رَجُلِي. سأتوسّل إلى والدي لإصدار أمرٍ إمبراطوري أن الكونت ناريان يجب أن يتزوّج الأميرة لاريسا!
يا إلهي، كم يُشعرني هذا بالرّاحة.
عندما أدركتُ أنني أستطيع جعله مِلكِي بالقوّة باستخدام مكانتي، صفا ذهني. استدرتُ براحةٍ أكبر، لكنني اصطدمتُ فجأةً بجدارٍ ضخم.
“ماذا ستملكين، يا سموّكِ؟ إيغور تولستوي؟”
تجمَّدَت قدمي عند رؤية وهجٍ أخضرٍ مزرقٍ في الظّلام.
هل هو وهم؟ مددتُ يدي وأنا أشعر كأنني أتجوّل في حلم.
“فالنتين، كيف أنتَ هنا…”
“هل كنتِ تتحدّثين عن إيغور تولستوي؟”
لمسَت أصابعي خدّه. شعرتُ ببرودة ملمسه، فأدركتُ أن هذا ليس حلمًا بل واقعًا. في الوقت نفسه، تذكّرتُ سبب عدم قدرة فالنتين على الوقوف هنا.
“ألم تكن مشغولاً؟ أليس دار الأيتام؟ هل أخطأتُ في إيجاد الإجابة؟ هل هناك مشكلة؟”
“سموّكِ لاريسا.”
بنداءٍ هادئ، أجبتُ بهدوءٍ أيضًا.
“نعم.”
أمسك فالنتين بيدي.
سحبَ يدي التي كانت تلمس وجهه وقبَّلَ ظهر يدي الباردة بعمق. بعد لحظات، استنشق بعمق، كأنّه يبتلع رائحتي. ارتفع صدره قليلاً، كأنّه بدأ يتنفّس بعد صبرٍ طويل، وصوتٌ مُشبّعٌ بالارتياح امتدحني.
“لم تُخطئي، يا سموّكِ. لقد أكملتِ المهمة ببراعة، وبفضلكِ، رأينا جميعًا الأمل الذي كاد ينطفئ. كل هذا بفضلكِ، سموّكِ لاريسا.”
فالنتين يُحبّني. يغار من إيغور بوضوح، لكنّه لا يعترف بمشاعره أبدًا. هذا غير عادل.
“ماذا لو كان إيغور؟”
تصلَّبَ تعبيره وهو ينظر إليّ. حاولتُ سحب يدي، لكن قبضته كانت صلبةً كالصّخر، لا تتحرّك. كلّما حاولتُ، زادت قوّة إمساكه.
“هل قرأتِ الرّسالة التي أرسلتُها؟”
“لا، ليس بعد.”
“هذا جيّد. احرقِيها ببساطة.”
ماذا؟
“أُحرقها؟ لِمَ؟ أليست رسالتكَ؟”
“صحيحٌ أنني أرسلتُها، لكن… لا قيمة لقراءتها. أدركتُ ذلك، فجئتُ بنفسي لرؤيتكِ، يا سموّكِ.”
ما الذي يتحدّث عنه؟ قادني فالنتين، مُرتبِكة، إلى داخل القصر.
“هل نذهب لحرق الرّسالة أولاً؟”
لكنني ثبّتُّ قدمَي بكلّ قوّتي.
“لا.”
“سموّكِ.”
“لا، لن أُحرقها. لِمَ أُحرقها؟ لقد احتفظتُ بكلّ رسائلكَ بعنايةٍ دون أن أفقد واحدة. سأحتفظ بهذه أيضًا. لن أجعلها وقودًا أبدًا.”
لم أكتفِ بجمعهم، بل قرأتُهم عشرات المرّات حتّى أثّرت عليهم آثار يدي. أتذكّر محتوى كلّ رسالةٍ وتاريخ استلامها. عندما أُفكّر الآن، حتّى تلك اللحظات كانت ذكريات. أن تحرق ذكرياتي وحُبّي بحريّة؟ هذا حلمٌ بعيد المنال.
نظر إليّ فالنتين بعينين لا تُعبّران عن الضحك أو البكاء، بل شيءٌ بينهما.
“ما الذي يجعل قطعة ورقٍ تافهةٍ كهذه ثمينةً لتحتفظي بها بعناية؟”
“وما الذي جعلكَ تهرع لمقابلتي بهذه العجلة؟ لحرق الرّسالة؟ الرّسالة التي أرسلتَها بمساعدة إيغور؟”
لم يأتِ فالنتين لمقابلة الدوقة إيلين.
“أنتَ جبان، يا فالنتين.”
لم يُنكر فالنتين. هدوؤه الثّابت أشعل غضبي.
“وفي تلك الرّسالة، لا بُدّ أنكَ كتبتَ مدى جبنكَ. حسنًا! بما أننا تطرقنا للأمر، سأقرأها الآن. أُريد أن أعرف ما القصّة العظيمة التي جعلتكَ تأتي بنفسكَ…”
هبّت ريحٌ متأخّرةٌ فجأة. أوّل ما شعرتُ به كان رائحته، ثم الجذب الرّقيق لكن القوي. في عناقه الشّديد الذي كاد يوقِف قلبي، أغلقتُ فمي.
احتضنني فالنتين بقوّةٍ كأنّه سيسحق خصري. كانت حركاته مُراعية لعدم إجهاد كتفي، ممّا جعل أجسادنا تتلامس أكثر.
“أنتِ محقّة، يا سموّكِ. أنا دائمًا خائف.”
كانت أنفاسه تسقط على رقبتي، وكلّما لامسَت شفتاه أُذني، انتابتني قشعريرةٌ قويّةٌ لا يُمكن تحمّلها.
“لذلك، في كلّ لحظةٍ أراكِ فيها… أشعر براحةٍ كبيرةٍ لأنكِ على قيد الحياة وتتنفّسين. ثم أرتجف من القلق، خائفًا من أن أفقدكِ بسبب هذا الاطمئنان.”
شعرتُ وكأنني أفهم معناه، وفي الوقت نفسه لا أفهمه. إذا كُنّا نشعر بنفس الشّيء، فـلِمَ هذه الفجوة بيننا؟ هل لأن العالمين اللذين عشناهما مختلفان إلى هذا الحدّ؟
لكن هناك شيءٌ واحدٌ يُمكنني أن أشعر به بعمق، القلق النّاتج عن الحُبّ.
التعليقات لهذا الفصل " 121"