ورُبّما، منذ لحظة تخلّصي من الألم والنّعاس، كنتُ سأندم على قولها بتهور.
لكن في لحظة الاعتراف، لا.
“أُحبّكَ.”
صِدقُ مشاعري تجاه فالنتين، هذا الشّعور الذي يتضخّم مع كلّ لحظةٍ أنطق فيها.
“أُحبّكَ كثيرًا، فالنتين…”
إذا كانت مشاعر لن أشعر بها مُجددًا، فلا أُريد تفويتها اليوم.
رُبّما لن تدفعني بعيدًا. سـتُعانقني أعمق، كما لو كنتَ مُمتنًّا أو كأن كلامي كافٍ. نعم، تمامًا كما الآن.
شعرتُ بدفءٍ أعمق مِن فالنتين.
لم يعد حضنه يحمل برودة الفجر. مُحاطة بدفءٍ ربيعيٍّ مُريح، التقى قلبينا. احتضنّا بعضنا بكامل أجسادنا. لأوّل مرّة، اختفى الفارق بيني وبينه تمامًا.
ابتلع فالنتين نفسًا عميقًا، ثم قبَّلَ جبهتي.
“نعم، أعلم.”
“تعلم أنني أُحبّكَ؟”
“نعم.”
“هذا ليس شعور طفلة.”
“أعلم هذا أيضًا.”
“هل هذا كلّ شيء؟”
فتحتُ عينَي ورفعتُ رأسي للاحتجاج. تسرَّبَ ضوءٌ خافتٌ من نافذة القلعة الصّغيرة، مُضيئًا وجه فالنتين. تحدّثت عيناه المُظلّلة باللون الأزرق.
“هل تحتاجين إلى ردّي؟”
رَدٌّ قاسٍ.
قبل وقتٍ قريب، كنتُ سأشعر بالحزن. كنتُ سأظنّ أن هذا رفضٌ تام، وأنني خاسرةٌ غبيّةٌ استسلمَت لشجاعةٍ حمقاء.
لكنّني الآن أعلم.
أنتَ تُحبّني.
لا أعرف إن كان بنفس قوّة حُبّي له، لكن هذا الرّجل يحملني في قلبه.
لستُ عمياء أو صمّاء. حتّى لو لم أرَ قلبه، فـعندما أرى تعابير فالنتين، وأسمع صوته وكلماته، أتأكّد في النّهاية، حتّى لو ضللتُ طويلاً. لا أعرف لِمَ يتردّد، لكنّني لا أستطيع إلّا أن أكون واثقة.
أنتَ تُحبّني، فالنتين.
وإلّا، لما استطعتَ أن تبدو هكذا.
“إذا أغمضتُ عينَي، قَبِّلني.”
توقّعتُ تردّدًا منه.
لكن كلّ ذلك كان وهمًا. ضغط ثقله عليّ بينما كان العالم يغرق في الظّلام.
كان الإحساس الأوّل هو طرف أنفه. أنفه المُستقيم، غير النّاعم، لامس أنفي. ثم جاءت أنفاسه. لم تكن صريحةً أو ساخنة، بل توقّفت قُربي للحظة.
رغم أنه أمسك رقبتي بقوّة، كأنّه يجذبني من ياقتي… في تلك اللحظة، كان فالنتين مُتصلّبًا، كأنّه يُقاوِم لآخر مرّة.
كان الصّمت طويلاً كالأبديّة.
وأخيرًا، قَبَّلني فالنتين.
بقينا متلاصقين بشفتينا لفترةٍ طويلة. هو، الذي كان بارعًا في التّعامل مع النّساء، توقَّفَ عن التّنفّس كفتى مبتدئ لا يعرف ماذا يفعل. ثم، ببطء، اتّسعت الفجوة. دخل نفس فالنتين إليّ. كان إحساسًا واضحًا بسبب عينَي المغلقة.
التّقبيل كان مُختلفًا تمامًا عن خيالاتي الغامضة.
كان من الصّعب مواصلة التّنفّس، وأكثر إرباكًا، وأكثر حلاوةً وتشوّشًا مما توقّعتُ.
كلّما فتحتُ عيني، تقابلتُ مع جوهرةٍ زرقاء خضراء رائعة. الحرارة والجشع في عينيه جعلتا بطني تتشنّج بحرارة. فالنتين يُريدني بهذا اليأس. هذه حقيقةٌ لا يُمكن أن تحتويها كلمة ‘أُحبّك’. وإلّا…
“لا.”
رغم توبيخي، لم تتوقّف يده عن التّسلّل تحت ذراعي.
“توقف…”
أمسك يدي التي تدفعه بقوّة، وهبطت شفتاه السّاخنة أكثر.
“هل ستُصبح عشيقي هكذا، فالنتين؟”
عندما ناديتُ اسمه أخيرًا، عاد التّركيز إلى عينيه، كـمَن استعاد وعيه متأخّرًا.
نظر إليّ بهدوء. لم يُظهر ذلك، لكنني شعرتُ براحةٍ كبيرةٍ وأنا أنظر إلى وجه فالنتين الهادئ. لم يظهر على وجهه البارد أيّ ندمٍ أو عدم ثقةٍ بعد نهمنا لأنفاس بعضنا.
“…عشيق؟”
بدلاً مِن ذلك، ظهرَت تعابير عدم تصديق. بل، رُبّما تعابير عدم قبول.
مددتُ يدي ولمستُ شعره الفضّي المُبعثَر. أغلق عينيه ببطءٍ وهو ينظر إليّ بمشاعرٍ شديدة، كأنّه يُطالب بـردٍ. مالت يدي بثقله. استسلام فالنتين للمسي أعطاني رضاً لم أشعر به من قبل.
“قلتَ إن لديكَ سببًا لخطبة أوكسانا.”
مسحتُ زاوية عينيه بصوتٍ مليءٍ بالأسف، مُتظاهِرة باللامبالاة.
“لذا، ستتزوّجها قبل نهاية العام. وأنا، إذا لم تتعطّل خططي، سأتزوّج إيغور…”
“إيغور؟”
“نعم. لكنني أُحبّكَ، لذا… إذا سمحتَ، أُريد أن أعطيكَ قلبي.”
“…”
“أنتَ وعدتَني بأن تُكرّس جسدكَ لي، أليس كذلك، فالنتين؟”
تضخَّم صدر فالنتين. فرك وجهه كأنّ لديه شيئًا ليقوله، ثم ابتعد وجلس على السّرير. كان مظهره المُبعثَر يجعل قلبي يرتجف، لكنني بذلتُ جهدًا للتّظاهر بعدم المبالاة.
“إيغور من تولستوي سيرفضكِ. ألا تعلمين هذا، أنتِ التي لم تتلقَّ ردًّا؟”
“إذا لم يُعجبني ذلك الرّجل، فلا بأس. لكن الحُبّ والزّواج مختلفان. كيف تجرؤ عائلة تولستوي على رفض أمرٍ إمبراطوري؟”
استدار فالنتين إليّ.
كان وجهه يقول ‘لا يُمكن’ بحزم، لكنه توقَّف عند التّعبير. اقتربَت يده ببطءٍ وأصلحت ياقتي المنزلقة.
“فالنتين، أشعر بألمٍ في كتفِي مُجددًا.”
حملني بسهولة، وأجلسني على الأريكة، وأشعل النّار في المِدفأة، ثم عاد بوجهٍ هادئٍ كالعادة، كأنّه نسي محادثتنا للتو.
هل فالنتين غير مُبالٍ حقًّا؟ مُستحيل. الآن أرى. ليس أنّه غير مبالٍ، بل يبذل كلّ جهده ليبدو كذلك. جهدٌ لا طائل منه.
‘ما مشكلتكَ؟ فقط قُل لي أن أختاركَ.’
لكنّني لم أستطع تعذيبه أكثر. عقله مشوّشٌ ومُرهَقٌ بما فيه الكفاية بسبب ليبرتان. الصّراخ ‘قُل إنّكَ تُحبّني! اعتَرِفْ!’ أمرٌ يتجنّبه حتّى الأطفال.
أشعل فالنتين مصباحًا بجانب السّرير وعاد.
جلس يُعانق كتفي، وأخذ كومةً من الأوراق المُكدّسة على الطّاولة وقلبها بسرعة. رأيتُ شيئًا مُشابهًا في مكتب الدوقة إيلين.
‘هل له علاقةٌ بليبرتان؟’
قال إنّه سيُنهي كلّ شيءٍ بحلول الرّبيع. هذا يعني إعدام ليبرتان، أو بعبارةٍ أخرى، أن الوضع صعب الحل حاليًا.
إذا كانت هذه الصّعوبة تتعلّق بفحص هذه المُخطّطات المُعقّدة…
التعليقات لهذا الفصل " 115"