كانت نظرةً مُتصلّبةً ومتوتّرة، كأنّه أدرك على الفور أن حالتي ليست جيّدة. رغم إدراكي لقلقه عليّ، كنتُ مُنزعِجةً من أن فالنتين وأوكسانا لم يتبادلا ولو نظرةً واحدة.
هل لأنني الأميرة، فلا يجرؤان على إظهار أيّ قُربٍ أمامي؟
‘يبدو أن عليّ مغادرة المكان.’
شعورٌ بالهزيمة، لكن ماذا أفعل؟ لا شيء ينتهك كرامة الأميرة أكثر من تدخّلها بحسدٍ بين رجلٍ وامرأة.
“أريد أن أرتاح الآن. هل هذا ممكن؟”
“بالطبع، سموّكِ. سترافقكِ أوكسانا.”
عندما نهضتُ، نهض فالنتين خلفي وقال.
“سأزوركِ هذا المساء.”
هل فالنتين حقًّا لا يفهم مشاعر النّساء؟ ماذا لو أساءت أوكسانا فهم كلامه؟
“لـتُساعدني في العلاج، أليس كذلك؟ حسنًا.”
تذكّرتُ إيما قبل أربع سنوات.
لا بُدّ أنّه تصرَّفَ بلا مبالاةٍ أمامها أيضًا. لهذا لم تتوقّع الحُبّ منه، وشعرتُ أن عدم وجوده أكثر راحة.
‘أفهم مشاعرها الآن.’
فالنتين، الذي يبدو غير مُهتمٍّ بكلّ الكائنات العاقلة، يجعلني أشعر بالأمان، لكنّه في الوقت ذاته يُثير شعورًا بالفراغ. أشعر أنني لن أُحبّ أبدًا. أعرف أن يوم تبادل مشاعر خاصّة تتجاوز حُبّ العائلة لن يأتي أبدًا. (بلوفي: جايك هاليوم بعد ست فصول يا قلبي)
رافقتني أوكسانا إلى غرفة النّوم، ووقفَت عند الباب بوجهٍ يبدو أن لديها ما تقوله.
“أ… أ…”
“هل لديكِ شيءٌ تُريدين قوله؟”
“لا، ليس هذا… إذا احتجتِ إلى شيء، ناديني فقط. إذن…”
بعد مغادرة أوكسانا، تأوّهتُ من ألم كتفي، ثم غفوتُ دون أن أدرك.
عندما فتحتُ عينَي مجددًا، كان الظلام يعمّ الغرفة كالعالم الخارجي، باستثناء مصباحٍ خافتٍ يُضيء بجانب السّرير. كأن وحشًا قد يظهر.
وجلس فالنتين بجانب السّرير. تحدّثتُ بصوتٍ جافٍ ومتشقّق.
“منذ متى وأنتَ هنا؟”
بعد صمتٍ طويل، نهض وقال.
“منذ أن فقدتِ وعيكِ، سموّكِ.”
“…فقدتُ وعيي؟”
“بدا وجهكِ شاحبًا، فعندما تتّبعتكِ، وجدتكِ منهارةً على الكرسي.”
حملني فالنتين بسهولةٍ وسقاني الماء. إذن، لم أكن نائمة، بل كنتُ فاقدةً للوعي.
بما أن ألم كتفي خَفَّ كثيرًا، يبدو أنه أعطاني مُسكّنًا. بذلتُ جهدًا كبيرًا لأبتسم رغم إرهاقي.
“آسفة، فالنتين. أضعتَ وقتكَ بسببي مجددًا.”
شعرتُ بعدم الرّاحة لأنني أُعطّل شخصًا مشغولًا بالتّأكيد. لكن تعبير فالنتين كان أكثر قتامةً مني، أنا التي تسبّبتُ بالإزعاج. مسح كتفي بحزنٍ لا يطاق، ثم عانقني بقوّة. في خضم التّشوّش، شعرتُ بقلبينا، اللذين كانا ينبضان بشكلٍ غير متزامن، يبدآن بالتدريج في الانسجام.
“في كلّ مرّةٍ تتصرّفين فيها كناضجة، أشعر أن عالمي يُصبح بائسًا مُجددًا. لِمَ تُصبحين بالغةً بهذه السّرعة وتجعلينني عاجزًا؟”
“أنا آسفةٌ على هذا أيضًا…”
“لا تعتذرِي.”
رسم فالنتين خطًّا حاسمًا، ثم أفلتَ عناقه وأمسك خديّ. ظهرت ابتسامةٌ مريرةٌ على وجهه الأبيض، الذي كان الضّوء والظّلال يُبرزان تفاصيله.
“تذكَّرِي، سموّكِ. إذا اعتذرتِ لي مرّةً أخرى، مهما حدث…”
“…؟”
“سأُصبح وقحًا وأُقبّلكِ.”
اختفى دفئه كأنّه وهمٌ عابر.
‘ماذا؟’
يُقبّلني. يُقبّلني. رُبّما بسبب تشوّش ذهني، لكن كلامه لم يصبح ضبابيًّا، بل جعلني أنتفض.
‘هل غفوتُ للحظة؟’
كنتُ سأسأل، للتّأكّد إن كان وهمًا، أين سيُقبّلني، لكن فالنتين سقاني الماء مجددًا.
في تلك اللحظة، تقابلَت عيناي مع وحشٍ مختبئٍ في الظّلال خلف فالنتين.
كانت أوكسانا.
“بف!”
مسحتُ الماء من فمي، وانحنيتُ قليلًا تحيّةً للمرأة في الظّلام، التي احمرَّت خدودها، ونظرتُ إليها بذهول.
“أوكسانا… هناك أوكسانا…”
أجاب فالنتين، وهو ينفض الماء من الفراش، بنبرةٍ جافّة.
“نعم، أعلم. هل رأيتِها الآن؟”
“الآن؟”
أدركتُ لأوّل مرّةٍ أن اليقظة مرّتين متتاليتين تجعل العقل يعود إلى التشوّش والضبابية. رأيتها الآن؟ إذن… أمام امرأةٍ ستكون زوجته في المستقبل… لقد قال لي…
“للتّوضيح، الآنسة أوكسانا هي مَن تبعتني بمحضّ إرادتها.”
“…؟”
“كنتُ أُريد القدوم وحدي.”
هل يجوز قول هذا أمام أوكسانا؟
نظرتُ إلى أوكسانا بعدم ارتياح، لكنها كانت تُحدّق بفالنتين بعيونٍ فضولية. كما شعرتُ منذ لقائنا الأول، إنها شخصٌ يصعب فهم أفكاره.
والأصعب فهمًا هو فالنتين نفسه.
أنا عاجزةٌ عن سرد الجوانب التي لا أفهمها فيه. هل يتصرّف فالنتين هكذا مع أخته الصّغرى؟ هل لا يراني كامرأةٍ حقًا، لذا يقول ويفعل هذه الأشياء؟
‘لا يُمكن أن يكون كذلك.’
فالنتين شخصٌ عقلاني. الشّخص العقلاني لا يقول إنه سيُقبّل امرأةً لا يُحبّها، أليس كذلك؟ مَن يجيبني؟ أُريد ردًّا، سواء يُعارِض منطقي أو يؤيده…
نظرتُ بقلقٍ إلى يد فالنتين، التي أمسكتني مُجددًا بشكلٍ طبيعيٍ بعد نفض الماء ومسح بشرتي المُبلّلة. رأيتُ أظافري تبرز بين إبهامه وسبابته، وأدركتُ، كما قال فالنتين، أنني أصبحتُ بالغةً حقًا.
“هل تؤلمكِ أصابعكِ؟”
“…ماذا؟ لا. كنتُ مندهشةً من فرق حجم أيدينا.”
“يدكِ صغيرةٌ بالفعل.”
“صغيرة؟ أنا مندهشةٌ لأن يدي أصبحت أكبر. ألا تتذكّر قبل أربع سنوات؟ مقارنةً بذلك الوقت، لا يوجد فرقٌ كبيرٌ الآن. سابقًا، كُنّا مثل ابنة أخ وعم…”
انظروا. استمعوا إليّ. هل بدأ فالنتين يراني كامرأةٍ فعلًا؟ أم أنه مُجرّد مزاحٍ بعد أن أدرك مشاعري؟
لكن السّماء كانت قاسية، فالشّخص الثّالث في هذه الغرفة، غيري وغير فالنتين، كان أوكسانا. مع وجود الحياء، لم أستطع حتّى التّعبير عن تساؤلاتي، ناهيك عن الحصول على إجابات.
عندما أدركتُ وجودها مجددًا، تنهّدتُ وأفلتُّ يدي. نظر فالنتين إليّ، رفع حاجبًا، ثم استدار إلى الخلف.
“ألن تُغادري، آنسة أوكسانا؟”
“ماذا؟ لِمَ أغادر؟”
رمشَت أوكسانا بعيونٍ مُرتبِكة.
“أنا… جئتُ لأنام مع سموّها. إذا كان أحدٌ سيغادر، فهو أنتَ، سيدي الكونت.”
هل طلبتُ منها ذلك؟ فكّرتُ مليًا، لكنني لم أتذكّر شيئًا. نظر فالنتين إلى أوكسانا بشكّ.
“هل أمرتكِ الدوقة إيلين بذلك؟”
“لا. أنا فقط… أردتُ البقاء بجانب سموّها…”
ما الذي تُفكّر فيه؟
‘حقًا، من الصّعب فهم أفكارها.’
لم أُصادِق من النّساء سوى إيما وفيدورا. هل من الشّائع بين بنات العائلات النبيلة النّوم في سريرٍ واحد؟ لم أسمع بذلك من قبل.
مهما كان السّبب، أثار موقف أوكسانا الجريء فضولي. طردتُ فالنتين، الذي كان يستجوبها (بل رُبّما طمأنتُـه لفترةٍ طويلةٍ حتّى غادر)، ونقرتُ على السّرير بجانبي.
“تعالي إلى هنا، آنسة أوكسانا.”
جلسَت أوكسانا بجانبي، مُبتسِمةً لأوّل مرّة، رغم خجلها الدّائم. لاحظتُ أن ملابسها تُشير إلى أنّها جاءت مستعدة. أليس من الغريب أنها لا تهتم بوجود فالنتين؟
التعليقات لهذا الفصل " 109"