رموش فالنتين، التي كنتُ أراقبها من الأسفل، كانت رفيعةً وكثيفة، مثل ريش ذيل طائر.
“كنتُ أتساءل عن نوع الرّجل الذي يعجب سموّكِ.”
نظرتُ إلى أنفه المستقيم وهو يسأل بهدوء، وتنهّدتُ داخليًّا.
الرّجل الذي يُعجِبني هو أنتَ.
وأتعلم؟ عندما تُظهر أنتَ، من بين كلّ النّاس، فضولًا تجاه زوجي المستقبلي، من بين كلّ النّاس، فإن ذلك يجعلني أتوقّع أشياء.
بالطّبع، أنتَ لا تعرف مشاعري. ولهذا يُمكنكَ قول هذه الأشياء بسهولة. كلّ كلمة، كلّ سؤال تطرحه، يُولّد عشرات التّخيّلات التي تعصف بعقلي وتجعلني أتلعثم، على عكسكَ…
الشّعور بالحزن من إدراك الفجوة بين مشاعرنا جعل قلبي ثقيلًا.
“أشعر بالرّاحة عندما أكون معه. لا يوجد شيءٌ مُزعجٌ أو مُحرج… وأحبّ أيضًا أنه أخو إيما. من المُمتع البحث عن أوجه التّشابه بينهما رغم اختلافاتهما الواضحة.”
حاولتُ أن أبدو مَرِحَةً عن قصدٍ لأنسى أفكاري الحزينة.
“على سبيل المثال، إيغور وإيما يمشيان ببطءٍ شديد. يتحدّثان ببطء، ويضحكان ببطء. أنا سريعة المزاج نوعًا ما، لذا عندما أكون معهما، أشعر أن الوقت يمرّ ببطءٍ وسلاسة، ممّا يجعلني سعيدة.”
كان فالنتين، الذي يستند برأسه إلى المقعد وينظر إلى النّافذة، يبدو وكأن حديثي مُمِلٌّ للغاية. كان غير مُبالٍ لدرجة أن صوته الذي تلا بدا وكأنه يقول أيّ شيءٍ من باب المجاملة.
“مُريحٌ ويجعلكِ سعيدة؟ حسنًا… إيغور من عائلة تولستوي مُرشّحٌ جيّدٌ للزّواج.”
أنتَ أفضل.
“يبدو أن جلالة الإمبراطور يُشارككِ الرّأي.”
حقًّا؟
“بالنّسبة لي، إنّه أمرٌ مؤسف. كنتُ أتمنّى قضاء وقتٍ أطول مع سموّكِ.”
مهلًا لحظة.
“ماذا تقصد؟ فالنتين، هل ستغادر إلى مكانٍ ما؟ لِـكَم من الوقت؟ إلى أين؟ مِن أجل العمل اللعين مع هورغان مرّةً أخرى؟”
ضغطت يده، التي كانت تُحيط بي، برفقٍ على جسدي وأنا أُحاول النّهوض. استدار أخيرًا من نافذة ماخاتشكالا ونظر إليّ، بوجهٍ يحمل ابتسامةً عميقةً مختلفةً عن السّابق.
“لا. إذا تزوّجتِ من الكونت الصغير إيغور، لن نتمكّن من قضاء الوقت معًا كما الآن.”
وضع يده على يديّ اللتين كنتُ قد وضعتُهما على بطني. تسلّل الدّفء البارِد بين أصابعي، وكأن صاعقةً ضربت عقلي.
“مثل إمساك يديكِ هكذا… أو جعل ركبتي وسادةً لكِ.”
كان في عينيه، وهو يهمس، شعورٌ بالأسف واضح. جعل قلبي يؤلِمني وأنا أنظر إليه.
“رُبّما لن نتمكّن من تبادل الرّسائل أيضًا. ولن أستطيع حملكِ عندما تكونين مريضةً كما الآن.”
لا يُمكننا تبادل الرّسائل؟
“لا تقل سخافات. الرّسائل يُمكن أن…”
“كنتُ أنوي أن أُكرّس حياتي لكِ.”
هل سمعتُ خطأ؟ من الصّدمة، كادت ذراعي اليمنى أن تسقط من المقعد. لو لم يمسك فالنتين يدي بقوّة، لكنتُ سقطتُ بالتّأكيد.
“لماذا؟”
صلّيتُ ألّا يرتجف صوتي من التوتّر، وسألتُه بهدوء. توقُّعٌ لم أشعر به من قبل، مرتفعٌ كالبالون، تضخَّمَ داخلي وكأنّه سينفجر.
“لِمَ تُكرّس حياتكَ لي؟”
“لأنكِ أنقذتِني.”
آه، فهمتُ.
‘بسبب إصابتي، يشعر فالنتين بمسؤوليةٍ كبيرةٍ تجاهي. رغم أنني فعلتُ ذلك بمحضّ إرادتي. لذا…’
فشش. تقلَّصَت توقّعاتي المنتفخة وكأنها بالونٌ يفقد الهواء. لم أُرد أن يكتشف فالنتين، الذي كان يتفحّصني، شعوري بالإحباط، فاستدرتُ إلى الجهة الأخرى.
“هل هذا يُزعجكِ؟”
لِمَ يضحك؟
“هل أُكرّسها لامرأةٍ أخرى؟”
لمَ يلمس رأس الأميرة لاريسا دون إذن؟
هززتُ رأسي. ربَّتَ فالنتين على ظهري كأنني أحسنتُ، وبدأ يعبث بشعري مًُجددًا.
‘إذا لم يتزوّج فالنتين حقًا وكرَّسَ نفسه لي… هل سيُصبح عشيقي؟’
لكن العشيق يعني علاقةً عميقةً وحميمة. لا يبدو أنني وفالنتين سنصل إلى هذا.
“ومع ذلك، يجب أن تتزوّج، فالنتين. قالت تاتيانا إن مَن يمتلك جسدًا وعقلًا رائعين يجب أن يُنجب الكثير من الأبناء ليُساهم في تقدّم البشريّة.”
وكان من واجبنا كعائلةٍ إمبراطوريّةٍ ضمان استمراريّة عائلةٍ عريقةٍ مثل دميتريف.
غطَّت يده الباردة عينيّ بشكلٍ مريح.
“يبدو أنني أزعجتُ سموّكِ كثيرًا. اغمضِي عينيكِ وارتاحِي. الطّريق لا يزال طويلًا.”
كانت نبرته وكأنّه لم يسمع كلامي. شعرتُ بالرّاحة بلا سببٍ وأغمضتُ عينيّ كما قال.
* * *
فيلا إيلين في شخارانسك.
كانت الفيلا، التي تُطلّ على غروب الشّمس الأحمر، تتمتّع بهيبة قلعةٍ قديمة، لكن انطباعي الأول عنها كان أنها كئيبة.
في وسط جدارٍ حجريٍ مُرتفعٍ كالقلعة، كان الباب الضخم، الذي يبدو أنّه يحتاج إلى عدة قذائف مدفعٍ لكسره، هو المدخل الوحيد للفيلا. الحديقة الدّاخليّة، رغم صغرها، كانت ساحرة، لكن الجدران الحجريّة الرماديّة الخشنة جعلتها تبدو خانقة.
‘هذه فيلا؟ ذوقٌ غريبٌ كما تقول الشّائعات.’
خرجت الدوقة إيلين لاستقبالنا بزيٍّ فاخرٍ لا يقلّ عن زي الحفلات.
“كنتُ في انتظاركِ، صاحبة السمو الأميرة لاريسا. لا بُدّ أن الرّحلة كانت شاقّةً على جسدكِ المصاب. كان ذلك لتجنّب أعين المتمرّدين، فأرجو تفهّمكِ.”
كان الدّاخل أقل قتامةً من الخارج، لكنه بالتّأكيد عتيق. النوافذ ليست كبيرة، وفي الليل، مع إغلاق السّتائر، قد يبدو المكان كأنه قبوٌ مظلم.
أدركتُ حينها مُجددًا.
هذه الفيلا الشّبيهة بالقلعة هي المكان المثاليّ لإخفائي.
“كم مِن الوقت يجب أن أبقى هنا؟”
ابتسمت الدوقة إيلين، التي كانت تصبّ الحليب في الشّاي الساخن، بابتسامةٍ ماكرة.
“كما توقّعتُ، أنتِ حكيمة. الكونت فالنتين، كم ستظلّ سموّها في هذه الفيلا؟”
“أسبوعين. سأزوركِ كلّ ثلاثة أيّام، فلا تقلقي.”
أسبوعين.
‘يُخطّط لاقتلاع جذور المتمرّدين خلال أسبوعين.’
للتّهرّب من مراقبة ليبرتان، نقلني في عربةٍ قديمةٍ فور استيقاظي. لسببٍ ما، يبدو أن ليبرتان يُكنّ لي ضغينةً خاصّة.
كتفي، التي كانت تؤلمني بالفعل، أصبحت مُتيبّسةً من الرّحلة الطويلة. أحتاج إلى مُسكّن. مسحتُ العرق البارد واستدرتُ بثبات.
أومأت الفتاة ذات الشّعر البنّي الصّغيرة الجالسة بجانب الدوقة برأسها.
“نعم، أنا أوكسانا من عائلة إيلين. إنه شرفٌ لي أن أخدمكِ، سموّكِ…”
صوتها، الذي كان يرتجف بخفّة، كان هادئًا تمامًا، على عكس شقيقتها تيريز.
سمعتُ أن خطوبتها أُلغيت قبل بلوغها سنّ الرّشد. رُبّما هناك ظروفٌ لا أعرفها.
‘هل تقدَّمَ فالنتين بالفعل لخطبتها وأنا نائمة؟’
تلك المرأة التي عذّبتني خلال الأسابيع الماضية. الشّخص الذي أثار فضولي، بل وحتّى الغيرة والحسد. أعلن أنه سيُكرّس حياته لي، لكنّه سيُشارك الزّواج والحُبّ مع هذه المرأة…
التعليقات لهذا الفصل " 108"