أدرك فالنتين وجود دخانٍ أسودٍ يتسرّب من شقوق أبواب القصر أثناء عودته من لعبة حربٍ طويلةٍ مع تانيا وفاسيلي (أو بالأحرى، مرافقتهما) قبل النّوم لزيارة وجه الأميرة لاريسا.
حريق. اندلع حريقٌ في غرفة نوم الطّفلة.
لم يكن هناك وقتٌ للتّردّد. حمل فالنتين الأميرة لاريسا من المهد فورًا وهَزَّ الخادمة لإيقاظها. صرخَت الخادمة عند رؤية اللهب الأحمر الذي التهم الستائر، وصاحت بصوتٍ عالٍ.
“حريق! اندلع حريقٌ في غرفة نوم صاحبة السمو الأميرة!”
على الرّغم من ارتعاشها من القَلق، لَم تنسَ الخادمة واجبها كبالغة، وطمأنت فالنتين.
“سيّدي الدوق الصغير، من الجيّد أنّكَ بخير. سيتم إخماد الحريق قريبًا، فلا تقلق. سأعتني بصاحبة السمو الأميرة…”
لكن فالنتين تجاهل يدها الممدودة وأحكم قبضته على الأميرة لاريسا في حضنه. على الرّغم من بكاء الرّضيعة بسبب الضجّة المُفاجِئة، لم يسمح فالنتين أبدًا، لأيّ شخص، بأخذها.
في الحقيقة، كان فالنتين يعتبر الأميرة لاريسا كائنًا يتحدّى القدر.
لكن كان ذلك وهمًا. لا يزال العالم قاسيًا على الأميرة لاريسا. ألم يُحاول حادثٌ قاسٍ أن ينتزع هذه الطفلة منه في لحظة غفلة؟
“…ما كان يجب أن تولدي أبدًا.”
لكن، بما أنّها وُلِدَت، لن يسمح أبدًا بأن تُسلب.
سواء كان ذلك من حادثٍ أو أيّ شخصٍ آخر.
لم يترك فالنتين الطفلة من حضنه حتّى بعد رفضه إشارات الحرّاس، إلى أن هرع الإمبراطور والإمبراطورة إليه.
“لارا! يا إلهي، صغيرتي!”
تلقّت الإمبراطورة، بعيونٍ دامعة، الأميرة لاريسا، وبعد سماع القصّة، عانقت ظهر فالنتين بقوّة.
“شكرًا لك، فالنتين. لقد أنقذتَ لارا. أنتَ بطل لارا!”
رُبّما بسبب رائحة والدتها، هدأت الأميرة لاريسا بسرعة. نظرت عيناها البنفسجيّتان الصّافيتان إلى فالنتين. عند رؤية شفتيها تتحرّكان كالمعتاد، شَعَرَ بألمٍ في أنفه.
هل مصير الأميرة لاريسا هو الموت؟
‘لا، هذا… هذا لا يُمكنني قبوله.’
كانت الأميرة لاريسا أوّل ثمرةٍ حقّقها فالنتين في هذا الجحيم.
يجب أن يمتلك القوّة. يجب القضاء على جميع العوامل التي تُهدّد الأميرة لاريسا. الخادمة المُهمِلة، الحرّاس غير الأكفّاء، أسراب النّحل التي تنجذب إلى الرّائحة الحلوة. و…
‘ليبرتان.’
فجأة، أشعل الغضب تجاه العدو المنسي شرارةً جديدة. لا يوجد قانونٌ يمنع الشّيطان الذي قتل الأميرة لاريسا ثلاث مرّاتٍ من قتلها في الرّابعة.
في ذلك اليوم، رفع فالنتين إرادته التي وضعها جانبًا مرّةً أخرى. بعزمٍ حازمٍ لحماية الأميرة لاريسا بأيّ ثمن.
هذه المرّة، لم يتعجّل.
لكبح ليبرتان وحماية الأميرة لاريسا، يجب أن يجعل العائلة الإمبراطوريّة حليفةً له.
أصبحت الإمبراطورة، التي كانت ممتنّةً جدًا لفالنتين لإنقاذه لاريسا، داعمته القويّة.
“يا إلهي، فالنتين… هل نسيتَ محادثاتنا الممتعة؟ كنتُ أعلم أنّكَ لست مثل الأطفال العاديين. أن تكون تلك البصيرة المذهلة نابعةٌ من قوّة الوحي… الآن أفهم قليلاً.”
أمسك فالنتين بيد الإمبراطورة ووقف أمام الإمبراطور، كاشفًا عن وفيات الإمبراطورة التي رآها، والطريقة التي نقل بها ذلك إلى والده لمنعها، بالإضافة إلى معلوماتٍ تافهةٍ أخرى رآها.
“وفقًا لادعائكَ، هناك خائنٌ يتجوّل بلا خوفٍ في قصري. هل يمكنكَ تحمّل وطأة هذا الادعاء؟ مَن هو ذلك الخائن الذي رأيتَهُ في حلمكَ؟”
“حتّى لو أخبرتكَ الآن، جلالتك لن تُصدّق بالتّأكيد. إذا منحتني وقتًا، سأثبت ذلك خطوةً بخطوة.”
“…بالتّأكيد لا يبدو أنني أتحدّث مع طفل. فاسيلي نضج مبكرًا، لكنّكَ تفوقه، فالنتين.”
كان اختيار الذّهاب إلى الإمبراطور بدلاً من القاعة المقدّسة قرارًا ممتازًا. لم يثق الإمبراطور تمامًا بقوّة فالنتين بعد، لكنه بدا مهتمًا بطريقته.
“إذن، ماذا تُريد أن تطلب مني؟ إذا قلتَ شيئًا سخيفًا…”
“في صيف العام القادم، سيكون هناك فيضانٌ عظيمٌ في مملكة تشيرينسكو. ساعِدني في نشر هذا الخبر للعالم، جلالتكَ.”
نظر الإمبراطور إلى فالنتين بعيونٍ مشكّكة.
“هل هذا كلّ شيء؟”
“هل يُمكنني طلب المزيد؟”
“سأستمع ثم أُقرّر.”
“إذن، زِد وقت زيارتي للأميرة لاريسا أسبوعيًّا. دون علم الأمراء والأميرات الآخرين.”
“…ليس مستحيلاً. لكن لِمَ تريد إبقاء ذلك سرًّا؟”
“لأنهم يثرثرون كثيرًا ومزعجون.”
بفضل رحمة الإمبراطور الكريمة، أصبح بإمكان فالنتين قضاء ساعةٍ إضافيّةٍ أسبوعيًا مع الأميرة لاريسا! كان وقتٌ شفاءٍ يُهدّئ القلب بحدّ ذاته.
ابتداءً من صيف العام التّالي، بدأت شهرة فالنتين كمرسولٍ تتجاوز إمبراطوريّة أوهالا لتصل إلى أنحاء القارة.
بدعمٍ من سلطة العائلة الإمبراطوريّة وعائلة دميتريف، وتأييد الشعب، لم تكن الصّراعات الداخليّة في الكاتدرائية مشكلةً بالنّسبة لفالنتين.
في سنّ التّاسعة، مُنِحَ فالنتين الحزام الذّهبي. كان أصغر مرسولٍ في تاريخ ديانة غافريل.
احتفل الإمبراطور بولادة المرسول بتبرّعٍ سخيٍ للقاعة المقدّسة، ودعا فالنتين إلى عشاءٍ خاص.
“حسنًا، فالنتين. لا… يجب أن أُناديكَ الآن الكونت ناريان. متى سيكون موعد خطوبتكَ؟”
“موعد الخطوبة… آه، هل تقصد خطوبة صاحب السمو ولي العهد…”
“أتحدّث عنكَ وعن لارا.”
تفاجأ فالنتين واضطر إلى ضرب صدره لفترةٍ ليُخرج حبّة عنبٍ علقت في حلقه.
“أنا… سعال، كيف أجرؤ على الارتباط بها؟”
“بشخصيتكَ، سيكون من الصّعب التعامل مع تانيا. والأهم، ألا تعامل لارا… يبدو هذا سخيفًا لقوله، لكن ألا تُحبّها أكثر مما أُحبّها أنا؟ عند التفكير في الثّروة والشّرف التي ستحصل عليها بعد عقود، سيكون من الأسهل ربط العائلة الإمبراطوريّة بكَ مُبكّرًا.”
لم يكن هذا ضمن خططه أبدًا. هَزَّ فالنتين رأسه، شَعَرَ بالخوف أكثر من الحيرة.
“الأميرة لاريسا ليست هذا النّوع من الأشخاص بالنّسبة لي.”
“ليست هذا النّوع؟ إذن، ما هي بالنّسبة لكَ؟ هل ستقول هراءً مثل أنّها كأختكَ لذا لا يمكنكما الارتباط؟”
“…”
“من تعبيركَ، يظنّ المرء أنكَ في السبعين وليس التّاسعة. حسنًا، فالنتين. تناول بعض التوت المُجفَّف واذهَب لرؤية لاريسا. التعامل معكَ لفترةٍ طويلةٍ يجعلني أفقد إحساسي بالواقع، وهذا ليس شعورًا ممتعًا.”
في تلك الليلة، لم يَزُر فالنتين الأميرة لاريسا.
ولا في الأسبوع التّالي، ولا الذي يليه. بدلاً من ذلك، توجّه إلى غرفة نوم فاسيلي. وبّخه فاسيلي، الذي لم يعد يُطيق ذلك، قائلاً.
“كنتَ تُطارد لاريسا طوال اليوم. لِمَ تُعذّبني فجأة، أنا الذي لم تكترث به؟ هل سئمتَ منها؟”
سئمت؟ كبح فالنتين ضحكةً ساخرة. لَم يسأم من الأميرة لاريسا.
لقد أصبح خائفًا.
خاف أن يُبقيها قريبةً منه فيستخدمها كوسيلة.
خاف أن ينسى قيمتها الثّمينة.
كانت الأميرة لاريسا دليلاً على أن حياته الجحيميّة تتغيّر. وفي الوقت نفسه، كان فالنتين مُستعدًا للنزول إلى أدنى المستويات لإنهاء ليبرتان، لذا، لحماية لاريسا، كان عليه أن يُبقي مسافةً بينهما. لم يكن لديه نيّةٌ لإشراكها مع ليبرتان.
‘أحمق. لم أُدرك حتّى وضعي، فقط كنتُ أنظر إليها وأشعر بالرضا.’
بعد ذلك، لم يظهر فالنتين أمام لاريسا ولو مرّةً واحدة.
مَرَّ الوقت بسرعة، وحان وقت التّحرّك بشكل أكثر نشاطًا.
يجب جمع الأدلة لاستنتاج تحرّكات ليبرتان وعرضها أمام الإمبراطور. لكن الطّريقة لإثبات ذلك…
‘كثيرة.’
نعم، كثيرة. كثيرةٌ جدًا! ألا تكون آثار الموت التي مَرَّ بها فالنتين هي الدليل على الخيانة؟
أولاً، وضع جواسيس في جميع دور الأيتام في ماخاتشكالا. لم تكن فيدورا قد دخلت إلى دار أيتام باتي بعد، لذا كان الحذر أقل. لكن، في أقلّ من نصف عام، تم القبض على تاجرٍ يوزّع المُخلّص.
“المُخلِّص… هذا مسحوقٌ فاخرٌ جدًا. تأثيره وآثاره الجانبيّة كبيرة. يُباع بسعرٍ رخيصٍ في البداية، لكن للأطفال المدمنين، يُباع بأسعارٍ خياليّة. إذا انتشر هذا في ماخاتشكالا بأكملها، ستكون أوهالا نفسها في خطر.”
“إذا كانوا ينشرون مسحوقًا بمكوناتٍ باهظة الثمن على أطفال دور الأيتام فقط، ويبقى مديرو الدور صامتين، همم. رُبّما هناك رأس مالٍ وشبكة علاقاتٍ أكبر مما نعتقد.”
بعد الاستماع إلى آراءٍ مختلفة، شَكَّلَ الإمبراطور مُنظّمةً خاصّةً تُدعى هورغان لتتبع توزيع المُخلّص.
كما تم اختيار شخصٍ للتّسلّل بين التجار، وفي تلك اللحظة، وقعت عين فالنتين على وجهٍ مناسب.
“أمم… تقصدني؟ اسمي تشينكو. حسنًا، إذا أبقيتني على قيد الحياة، سأعمل بجدٍّ كجاسوسٍ مزدوجٍ أو أيّ شيء. لكن مَن يكون هذا الطفل ليأمرني هكذا؟”
مَن يكون؟ لو قلتُ إنني الرّجل الذي قتلته مرّتين، هل ستفهم؟
التعليقات لهذا الفصل " 102"