أولاً، كان جميع النّبلاء الذين نزلوا من العربات يرتدون ملابسًا عاديّة، لا ملابس حداد. لم تكن هناك زنابق التّعزية، ولا تعابيرٌ كئيبة.
“…لماذا؟”
التفت والده إلى فالنتين بوجهٍ متفاجئ بينما كان يتبادل التّحيات الخفيفة مع السيّدات النّبيلات.
“ماذا قلتَ للتّو؟”
“لماذا يبتسم النّاس؟”
ضحكَت سيّدةٌ نبيلةٌ مُتفاجِئة، مُغطّيةً فمها.
“لأن حدثًا عظيمًا وقع في عائلة نوفاروف الإمبراطوريّة! لقد وُلدت الأميرة المُنتظَرة، لذا تجمّع كلّ نبلاء ماخاتشكالا للاحتفال…”
لم تصل الكلمات التّالية إلى أُذنيه. تنفَّسَ فالنتين ببطءٍ بوجهٍ مذهول. رُبّما بسبب دقّات قلبه السّريعة لأوّل مرّةٍ منذ أشهر، شَعَرَ بدوار.
‘مُستحيل. الأميرة لاريسا وُلِدَت؟ لا، لا يُمكن. هذا… هذا كذب.’
لا بُدّ أن الجميع يُحوّلون وفاة الإمبراطورة إلى مسرحية تسمى ‘ولادة الأميرة لاريسا’. نفى فالنتين الواقع بلا توقّفٍ كمن يصرخ أمام الموت، مُنتظِرًا فتح غرفة نوم الإمبراطورة.
ثم رأى الإمبراطورة.
“لقد نحفتَ كثيرًا، فالنتين. هل تتذكّرني؟”
كانت، حقًّا، على قيد الحياة.
“…جلالة الإمبراطورة.”
“أجل، تتذكّرني. سمعتُ عنكَ كثيرًا من دوق دميتريف. قال إنكَ كثيرًا ما تتخطّى وجباتكَ. لا يجب أن تفعل ذلك.”
نظرتها المُحيّية، ابتسامتها اللطيفة، تعبيرها النّابض بالحياة رغم شحوبها. كلّ شيءٍ كان يؤكّد أنّها الإمبراطورة. أدار فالنتين رأسه مذهولًا. رأى مهدًا أبيض. إذا لم تخنه عيناه، كان هناك شيءٌ يتحرّك داخل المهد ملفوفًا ببطانيةٍ بيضاء.
بدت الإمبراطورة مُتفاجِئة، لكنها سرعان ما ابتسمَت بلطفها المعتاد.
“تعال إلى هنا، يا صغيرِي.”
رفعت الإمبراطورة فالنتين، ثم انحنت ببطء، ووضعت أطراف أصابعه بلطفٍ على شيءٍ صغيرٍ كورقة القيقب.
“كيف هي؟”
تحرَّكَ. أمسك ذلك الشّيء النّاعم والهش بشكلٍ لا يُصدّق بإصبعه السبابة ثم أفلت.
“هل تبدو حيّةً؟”
“…نعم.”
كذب.
لا، ليس كذبًا. مثل الإمبراطورة، كانت الطفلة حيّةً تمامًا. على الرغم من أن عينيها مُغلقتان وهي نائمة، كان يعرف. كتلة اللحم الصّغيرة التي أمسكت بإصبعه كانت تحمل دفءًا واضحًا.
حياةٌ لم ترَ يومًا واحدًا من النّور خلال ثلاث حيوات.
لم يكن سوى واجبٍ أدنى، لم يراقبها بحسّ مسؤوليةٍ عظيم، لكن…
“فالنتين؟ يا إلهي… هل تبكي؟”
ضمّته الإمبراطورة المذعورة إلى صدرها. لم يعرف منذ متى لم يبكِ، لكن بعد بضع شهقات، استنفدت طاقته. أصبحتُ ضعيفًا إلى هذا الحدّ. غفا فالنتين نصف نائمٍ على ظهر والده وهو عائد.
في ذلك اليوم، حَدَثَ تغييرٌ كبيرٌ في قلب فالنتين، دون أن يعرف شكله بالضبط.
بجسدٍ ذابل، تحمَّلَ الفجر وهو يُفكّر طوال اليوم في الأميرة الصّغيرة. ذلك الإحساس المذهل الذي لَفَّ أطراف أصابعه.
في المساء التّالي، جلس فالنتين لأوّل مرّةٍ منذ استيقاظه في هذه الحياة على مائدة الطّعام مع والده. عندما رأى وجه والده المفعم بالحماس دون الحاجة إلى كلمات، شَعَرَ بمرارةٍ في فمه.
“أبي، متى قلتَ إن الأسقف بارفن سيأتي؟”
“سيصل بعد يومين عند الظّهر. لمَ تسأل؟”
“لأنّه سيكون مُعلِّمي، أريد استقباله بكلّ احترام.”
لمَ هذا الحماس المفاجئ؟ ألن تكون النّهاية هي نفسها؟ مصيرٌ يُسلم رقبته إلى ليبرتان، كما في السّابق.
لكن، إذن… ماذا عن الأميرة لاريسا؟
مصير تلك الحياة الصّغيرة التي تتلوّى كاليرقة بعيونٍ لم تفتح بعد؟ ما هو مصيرها؟ إذا كانت لن تولد أبدًا، فـلِمَ ظهرت أمامه الآن؟
دفعَتـهُ تلك التساؤلات إلى الخروج من السّرير.
لأوّل مرّةٍ منذ عقود، راقب فالنتين حياةً بقلبٍ نقي، دون جهدٍ أو نضالٍ أو استسلام.
بمعنى آخر، كان يزور القصر الإمبراطوري كلّما سنحت الفرصة.
“لقد جئتَ، فالنتين. اخبرني بقصّةٍ ممتعةٍ اليوم أيضًا.”
كان يقضي النّصف ساعة الأولى في محادثاتٍ خفيفةٍ مع الإمبراطورة التي تُعامله كعائلة، والنّصف ساعة التّالية يُحدّق بلا توقّفٍ في الطّفلة داخل المهد.
“صاحبة السمو الأميرة لاريسا.”
بعد شهرين، لاحظ شيئًا جديدًا. الطّفلة التي كانت تبكي أحيانًا، أو تُحدّق في السّقف، أو تمصّ يدها، كانت تحرك شفتيها قليلاً عندما يُناديها فالنتين. صفقت الإمبراطورة فرحًا، قائلةً إن أصغر أميراتها تعرّفَت عليه. شعورٌ غريب.
في أحد الأيّام، التقى بالأميرة لاريسا بمفرده مع المُربّية الإمبراطوريّة. كان التّحديق في عينيها البنفسجيّتين اللامعتين كالجواهر يكفي لتمرير الوقت بسرعة. لم يشعر بالملل أبدًا.
إنّها لطيفة. رموشها طويلةٌ جدًا. متى سينمو شعرها؟ متى ستقف؟ هل سيأتي يومٌ تُنادي فيه اسمي؟
بينما كان يطرح أسئلةً مختلفةً على المُربّية، سمع فجأةً خطوات متسرّعة غير لائقةٍ عند الباب.
دخل إيفان مبتسمًا، وعندما رأى فالنتين متعلّقًا بالمهد، عبس فورًا.
“مّن أنتَ لتلمس خدّي لارا بحُريّة؟ هل تريد الموت؟”
نظرَت تاتيانا، التي تبعَتـهُ، إلى إيفان وهي تصفر.
“أيها الأحمق، إنه فالنتين من دميتريف. ألا تستطيع التّعرّف على النّاس؟”
“ماذا؟ ذلك الرّجل؟ لا… ألم يكن فالنتين أقلّ نحافةً من هذا؟”
سرعان ما انضمّ الاثنان اللذان كانا يُهدّدان فالنتين إليه عند المهد، يتفحّصان الأميرة لاريسا.
“إنها لطيفةٌ جدًا.”
“لمَ رموش هذه الصّغيرة طويلةٌ هكذا؟”
“متى سينمو شعر لارا مثل شعري؟”
“ستنادي اسمي أولاً بالتّأكيد. إيفان هو الأسهل والأقصر، أليس كذلك؟”
أثناء الاستماع إلى حوارٍ يبدو مألوفًا، تذكَّرَ فالنتين ذكرى نسيها تمامًا.
‘كان إيفان دائمًا بهذه الحيوية.’
تذكَّرَ إيفان واقفًا بجانب ليبرتان، وأدرك أنه لم يره يبتسم أبدًا بجواره.
هل كان إيفان أيضًا غير مرتاحٍ مع ليبرتان؟ عند التّفكير في أفعاله القاسية والوحشيّة، لم يبدُ أنه كان لطيفًا مع أبنائه.
أصبح الوقت الذي يقضيه فالنتين في القصر الإمبراطوري أطول.
ليس لتحقيق هدفٍ مُحدّدٍ كما في السّابق، بل كان يتجمّع بشكلٍ طبيعيٍّ حول الأميرة لاريسا، يتفاعل مع الآخرين، ثم يفترق، ويعود للتّجمّع مرّةً أخرى.
التعليقات لهذا الفصل " 101"