منذ ذلك اليوم، كانت تصل رسائلٌ من فيدورا من حينٍ لآخر، تسأل عن حال فالنتين وأمان الأطفال.
أرسل فالنتين ردًّا واحدًا ‘الأكياس التي تلقّاها الأطفال تُسبّب مرضًا خطيرًا، ويجب علاجها لفترةٍ طويلةٍ تحت إشراف مُتخصّص. سأتواصل بعد الشّفاء.’ ثم تجاهل جميع الرّسائل التّالية.
بالطّبع، كان كلّ ذلك كذبًا. لم يكن بإمكان فالنتين الجبان، الذي يخشى مُعارَضة ليبرتان، فعل أيّ شيء. كلّ ما استطاعه هو إبقاء فيدورا محصورةً في قاعةٍ مقدّسةٍ بمدينةٍ بعيدة.
منذ ذلك اليوم، أصبح فالنتين ينتظر بلا هوادةٍ اليوم الذي سيغادر فيه إلى الكاتدرائيّة.
هذه المدينة…
ماخاتشكالا في أوهالا، أرضٌ فظيعةٌ وقذرةٌ إلى حدٍّ لا يطاق.
كأن صرخات وآهات الضحايا العديدين الذين دمّرهم ليبرتان تخنق عنقه. شَعَرَ وكأن أظافر الأطفال المهجورين والمدمرين تخترق دماغه وقلبه. مهما قدَّمَ من أعذار، لم يستطع الهروب من هذا الشّعور بالذّنب والإثم.
لهذا، رُبّما، عندما مرّت السّنوات الثلاث أخيرًا، وغادر ماخاتشكالا ليرتدي الحزام الذّهبي، شَعَرَ بشعورٍ سيّءٍ بشكلٍ خاص.
كأن صرخات المدينة تُمسك بجسده وتجذبه، تسأله إلى أين يذهب تاركًا إيّاهم، وتُطالبه بعدم المغادرة…
إحساس الشؤم المصقول بالموت مُخيفٌ إلى هذا الحدّ.
في اللحظة التي يعصيه، يدفع ثمنه فورًا.
غارقًا في مثل هذه الأفكار الحزينة… نظر فالنتين بهدوءٍ إلى الدّم الأحمر الذي بلّل كتفه، ثم رفع رأسه.
كانت العربة المُتجهة إلى الكاتدرائيّة مقلوبة بشكلٍ مروّع. الكهنة المرافقون، الخدم، والحرّاس، جميعهم ذُبحوا. كانت أساليب القتل مألوفة.
وَجهُ الرّجل الذي يحمل البندقيّة كان مألوفًا جدًا لفالنتين.
الرّجل الذي جرّه كقطعة أمتعةٍ في ذلك الزقاق القذر في حياته الثّانية.
مرّةً أخرى، كان هو.
“…هل هو ليبرتان؟”
“كيف عرفتَ؟”
تمتم مُردّدًا بضحكةٍ جافّة.
“هذه المرّة… كيف انتهى به الأمر بملاحقتي؟”
“تتحدّث بغرابة. همم… إذن، تسأل لِمَ يجب أن تموت؟”
“…”
“حسنًا، وأنتّ على وشك الموت، لا بأس بإخباركَ. هل تتذكّر ابنة عائلة بيسك، أيها الكاهن؟”
بالطبع يتذكّرها. ألكسندرا من بيسك. كان الرّجل يتحدّث عن المرأة التي أخفاها فالنتين مع طفلتها المولودة حديثًا في قريةٍ نائية.
“تلك المرأة عادت فجأةً إلى سيّدي. وحاولت طعنه بسكّين. واو… كانت امرأةً مُذهلة. لم أرَ عينين مليئتين بهذا السُّم من قبل.”
مُستحيل.
كانت تلك المرأة مليئةً بحُبّ الأمومة.
وفقًا للمعلومات النّادرة التي تلقّاها، تخلّت عن عائلتها وهربت إلى أرضٍ بعيدة، تعمل في أعمالٍ وضيعةٍ لكسب المال وإطعام عائلتها.
كيف يُمكن لمثل هذه المرأة…
“…هل قتلتَها؟”
“ماذا؟”
“هل ذهبتَ إليها وقتلتَ عائلتها…؟”
هَزَّ الرّجل كتفيه بملامحٍ غير مبالية.
“آه… الفتاة؟ بالطّبع قتلتُها. استغرق العثور عليها 12 عامًا. كانت الخامسة، أليس كذلك؟ سيّدي لديه نساءٌ كثيرات وأطفالٌ كثيرون، لكنهم غالبًا يموتون. إنّهم يُعيقون مشروعه العظيم.”
هل بسبب فقدان الدّم؟ شَعَرَ فالنتين بدوارٍ مفاجئ.
“سمعتُ أنهم أشفقوا على الأُم وقطعوا لسانها فقط وتركوها حيّة، لكنها عادت بنفسها إلى هنا. بعد ذلك، من خلال عملياتٍ مختلفة، سمعنا اسمكَ، ثم حدث هذا وذاك…”
هاهاهاها. ضحك الرّجل بشكلٍ غير طبيعيٍ دون تقلّباتٍ في النبرة، ورفع البندقيّة مرّةً أخرى بعيونٍ خاليةٍ من أيّ رحمة.
“أيها الكاهن المسكين. لمَ عشتَ تتدخّل في حياة الآخرين؟ هل ظننتَ أننا لن نعرف؟ القاعة المقدّسة مليئةٌ بالعيون والآذان.”
في تلك اللحظة، توقَّفَ فالنتين عن الاستماع.
أغلق عينيه.
لم يعد يُريد النّضال، ولم يعد يُريد معرفة أيّ شيء. أراد فقط أن يرقد هكذا، يُوقِف آلاف الأفكار التي تُعذّبه، وينام إلى الأبد.
كُلُّ شيءٍ فشل.
وفي النّهاية، تَعِبَ.
نعم… فالنتين مُتعَب.
“لا تُعاني، لديكَ رفيقٌ هنا. هذه المهمة ستكتمل بموتي، الشّاهد الأخير. هيا… اغمِض عينيكَ. سأعدّ إلى ثلاثة، ثم نموت معًا.”
ما هو الموت؟
“واحد.”
على أيّ حال، عندما يفتح عينيه، سيكون على سريره مرّةً أخرى.
“اثنان.”
لم يكن هناك ثلاثة.
عاد وقت فالنتين إلى الوراء مرّةً أخرى.
* * *
“فالنتين.”
تبع نداءٌ هادئٌ فتح ستائرٍ معتمة.
رفع فالنتين يده ليُغطّي وجهه من الضّوء الذي اخترق جفنيه.
“لقد تجاوز وقت الظّهر بالفعل. هل ما زلتَ تشعر بالتّوعّك؟”
على الرغم من السّؤال اللّطيف المُشبّع بالقلق، لم يؤكّد فالنتين ولم ينف، بل انزلق أعمق داخل الفراش. حاول والده توبيخه وتهدئته، لكن لم ينجح أيّ كلامٍ في استثارته.
“ها.”
كما في الأيّام القليلة الماضية، كان الخاسر في جدال الأب وابنه اليوم هو الأب مرّةً أخرى. بينما كان يُغلق الستائر المعتمة ويُغادر الغرفة، سمع صوت ابنه الصّغير من خلفه.
“…غدًا في الصّيد، ستقع الإمبراطورة من حصانها. هناك مسمارٌ في حافر الحصان الأمامي الأيمن، فـتَحقَّقْ مِنه.”
توقَّفَ الأب للحظة، ثم أجاب باختصارٍ أنه سيفعل وأغلق الباب. بعد التّأكّد من تلاشي الأصوات، غرق فالنتين في نومٍ طويلٍ مرّةً أخرى.
في اليوم التّالي.
واليوم الذي يليه.
واليوم الذي يليه… ظَلَّ فالنتين البالغ من العمر خمس سنواتٍ في غرفته كطائرٍ صغيرٍ خرج لتوّه من العش.
من حينٍ لآخر، كان يحسب التّواريخ، يُحذّر من الكوارث التي ستُصيب الإمبراطورة، ويُنبّه إلى الأحداث أو الأشخاص الذين قد يؤثرون سلبًا على عائلته أو والده.
لم يكن لديه نيّةٌ أو طموحٌ عظيم. كانت مجرّد تصرّفاتٍ قريبةٍ من العادة. حتّى لو تخلّى عن كلّ شيء، بالنّسبة للمرأة التي لديها طفلٌ وعائلتها… أراد على الأقل أن يؤدّي الحدّ الأدنى من الواجب.
بعد مرور موسمين، لم يعد والده قادرًا على تحمّل رؤية فالنتين يذبل تدريجيًّا، فـزار القاعة المقدّسة.
افترض والده أن الخمول المُفاجئ الذي أصاب ابنه البالغ من العمر خمس سنواتٍ مُرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بقوّة التنبؤ التي ظهرت فجأة.
لم يكن مُخطِئًا.
كان فالنتين مُتعَبًا.
لم يعد يُريد النّضال، ولا المُحاوَلة، ولا تحمّل الألم. لم يعد يهتم بما يُريده الإله منه، واعتبره مجرّد لعنة.
إذا كان الموت هو مصيره، فسيقبله بتواضع. لم يعرف كم مرّةً يجب أن يُكرّر هذا الجحيم، لكن إذا كانت هناك وجهةٌ نهائيّةٌ يُمكن الوصول إليها، ففي يومٍ من الأيام…
بعد تغيّر المواسم مرّتين أو ثلاث.
“انهَض، فالنتين. اليوم مُناسبةٌ كبيرة، لذا لا يمكنني التّغاضي عن حالتكَ. يجب أن نذهب إلى القصر الإمبراطوري بسرعة. أيتها المُربّية، اعتني بالطفل.”
“نعم، سيّدي الدوق.”
أشعة الشّمس السّاطعة مرّةً أخرى.
غطّى فالنتين جبهته بيده. أيّ يومٍ هو اليوم؟ بينما كان يحسب التّواريخ ببطء، اقتربت مُربّيته وغطست منشفةً في ماءٍ دافئ.
الإمبراطورة؟ حَسَبَ فالنتين التّواريخ في ذهنه المشوّش.
مهما حَسَبَ، لم يكن من المُفترَض أن تكون الإمبراطورة في هذا الوقت على قيد الحياة. في حياته الثّالثة، توفّيت الإمبراطورة في نفس اليوم كما في حياته الثّانية، وكان مصيرها ألّا تتجاوز هذا العمر.
‘هل عاشت شهرًا إضافيًّا أكثر مما توقّعتُ؟’
إذن، اليوم سيكون الموت الرّابع للإمبراطورة الذي يواجهه فالنتين.
أربع وفيات. شَعَرَ فالنتين لأوّل مرّةٍ بتضامنٍ مع الإمبراطورة. كلاهما عالقٌ في مصيرٍ لا يمكنهما الهروب منه من خلال الموت المُتكرّر، مما يجعلهما، بطريقةٍ ما، رفاقًا.
لكن عندما وصل إلى القصر الإمبراطوري، لم تكن الأجواء كما توقَّع.
التعليقات لهذا الفصل " 100"