1
توجد أشياءُ مخفيّة عن أعين الجميع،
لا يراها إلّا مَن يعرف تمامًا أين ينظر.
إنْ تطلَّعتَ من نافذتك في ساعات الشَّفَق الأولى، حين يكون العالم غارقًا في سُباته، قد تلمحُ كرةً من النّور تتهادى بين أوراق أواخر الصّيف، فتكتسي كلّ ورقةٍ تمرّ بها حمرةَ الخجل في أثرها.
وربّما ترى خيوطًا ذهبيّةً واهنةً تومض في الهواء، تتلألأ فوق زهورِ الياقوتيّة التي تشقُّ الأرضَ بعد ذوبان الجليد.
ولعلّك، إنْ كنتَ حادَّ الملاحظة حقًّا، تُبصر آثارَ الإزميل على نقوشِ كلّ بلّورةٍ في شتاء الثّلج المنسوج كالدّانتيل.
آهٍ، لكنّ القليلين هم كذلك.
ولذا، فقلّةٌ قليلة هي التي اختبرت روعة الدّهشة الحقّة.
قلّةٌ فقط هي التي تدرك أنّ أبسط الأشياء — كخُفوت القمر، وجريان المدّ، وعودة القلادة الضّائعة مصادفةً تحت مائدتك —
تحمل في جوفها سحرًا خفيًّا.
كلّ ذلك، بطبيعة الحال، هو من صنع
جنيّات نيفر.
هُنّ مَن يُنسّقن تغيّر الفصول في ليلةٍ واحدة، قبل أن يعدن إلى ديارهنّ.
ويُقال إنّك إنْ حلّقتَ متجاوزًا النّجم الثاني إلى اليمين، ومضيتَ قُدُمًا حتّى الصّباح، فستصل إلى هناك أيضًا: مملكة بيكسي هولو.
من الأعالي، تبدو بيكسي هولو ككعكةٍ قُطّعت إلى أربع شرائحَ سخية.
في قلبها يقف شجرة غبار الجنيّات، متلألئةً ذهبيّةً كشمعةٍ تُبدّد العتمة.
في الشّرق تمتدّ وادي الرّبيع، حيث الأزهار في تفتّحٍ دائمٍ لا يذبل.
وفي الجنوب: مرج الصّيف، حيث تمتدّ الأيّام طويلةً وهادئة كقطةٍ ناعسة.
وفي الغرب: غابة الخريف، باردةٌ نقيّةٌ ومتّقدةُ الألوان.
ثمّ في الشّمال، هناك غابات الشّتاء.
إنّ سكّان الفصول الدّافئة يبذلون جهدهم ليمحوا ذكر غابات الشّتاء من عقولهم.
لكن، حين تلوح لهم من بعيدٍ تحت ظلّ الجبل العظيم، لا يسعهم إلّا أن يتذكّروا أشجارها الهزيلة كالهياكل العظميّة، أو كتل الجليد المتدلّية كأنّها أنيابٌ مفضوحة في ضوء القمر، أو أولئك الذين يسكنون موطنًا رماديًّا بلا حياة.
الجنيّات الدّافئة يرينَ أنَّ جنيّات الشّتاء خيرٌ لهنّ أن يبقين في عُزلتهنّ الثّلجيّة.
لقد أحسنّ التصرّف في شؤونهنّ قرونًا طويلة.
ثمّ إنّ البرد هناك قاسٍ حدَّ الوحشيّة، قادرٌ على أن يُحطّم أجنحةَ الجنيّة الدّافئة في لحظة.
لا خير يُرجى من عبور حدوده.
ومع ذلك، فإنّ أكثر مخاوفهم ليست سوى خرافاتٍ جوفاء.
لكن، من غير علمهم، تسكن قوى مظلمة فعلًا أعماق غابات الشّتاء.
فهناك، في موضعٍ تنحني فيه الأشجار إلى الخلف وكأنّها تهربُ من بحيرةٍ متجمّدةٍ تمتدّ تحتها، يخيّم هواءٌ ثقيلٌ مُشبَعٌ بشيءٍ خاطئ، كعرق الحُمّى.
لا أحد يزور ذلك المكان.
لا أحد عاقل، على الأقلّ،
سوى الحارس الشّاب لغابات الشّتاء.
لكن لو كنتَ شجاعًا بما يكفي، أو أحمقَ بالقدر ذاته، لخطوتَ فوق الجليد.
وهناك، لما وجدتَ ماءً تحته، بل ظلامًا عميقًا يلتفّ ويتموّج.
ولو احتملتَ الرّعب الذي يُثيره أكثر من لحظة، لما استطعتَ مع ذلك فهمَه.
فالظلال لا تنتظم إلّا نادرًا في أشكالٍ يمكن تمييزها.
هنا سنٌّ، وهناك عينٌ…
أو مخلب.
لا، قلّةٌ قليلة فقط ستعرف مثلَ هذا الرّعب.
لكن لو حدث، ووجدتَ نفسك تتجوّل قرب البحيرة في ليلةٍ قارسةٍ بلا قمر —
كما فعل حارس غابات الشّتاء —
لرأيت ما رآه:
تلك اللحظة التي انشقّ فيها سطح الجليد بشقٍّ واحدٍ رفيع.
ولسمعتَ صوت التّكسر يهزّ أغصانَ الأشجار، فتتساقط منها الثلوج.
ولشعرتَ بالغابات بأكملها ترتجف في توقّعٍ غامض.
ثمّ…
شيءٌ ما —
لم يكن أكثر من خيطِ ظلٍّ باهت —
تصاعد من بين الجليد المكسور كالدّخان.
تململَ، ثمّ اتّخذ هيئةً تذكّرها من الكابوس الذي أنجبها.
في العتمة، كان من العسير رؤيتُه، لكنّ أثر خطواته كان ثقيلًا على الأرض.
وبدافعٍ من غريزةٍ قديمةٍ رهيبة، بدأ يزحف نحو أراضي الفصول الدّافئة.
Chapters
Comments
- 1 - المُقدمة. منذ 9 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"