“لقد قضيتُ سبعةً وأربعين عاماً في خدمة هذا المكان، ولم يكن يوماً يلزمني من يوجّهني إلى ما ينبغي أن أقوم به، بل كنتُ أستبق الحاجة فأؤدي عملي على أتم وجه! فلا تشغل بالك بأمر الحديقة، فليس ثَمَّ ما يُقلق! دعني والطفلة نمر بسلام.”
كان صوته المتحدّي يقطر سخرية، فانعقد حاجبا آراد، وحدّق بهارتلاند بحدّة. لم يسبق له أن رأى في عيني شابٍ لم يتجاوز عمره عقوداً معدودة مثل تلك النظرة القاهرة. لكن الرجل العجوز ، وإن تقوّس ظهره بثقل السنين، لم يعرف الانحناء قط. فبادل نظرة الازدراء بأخرى لا تقلّ احتقاراً.
‘فليقتلني إن شاء.’
لقد ودّع زوجته بيديه، وواراها التراب، فما عاد في الحياة ما يعلّقه بها. كان يؤمن إيماناً صارماً بأن الرجل الذي يتنصّل من مسؤوليته تجاه المرأة التي تحمل منه، ليس سوى نفاية بشرية لا قيمة لها. الفقر ليس عاراً، ولا الأصل الوضيع، ولا النكبات التي تداهم المرء. إنما العار أن يُهمل الإنسان واجباً وجب عليه أداؤه. لم يكن دفاعه عن إيفنيا بدافع الحنان، بل لأنّ نفسه ضاقت بكون سيّده الجديد رجلاً فاقد القيمة.
‘تبا! أن يكون مثل هذا التافه وارثاً لهذه الدار!’
غيلينزيك… لقد نذر لها عُمره، غرس فيها عرقه ودمه، وتوهّم أنّه سيموت وهو فيها. فيها تزوّج، وفيها رزق بالبنين، وفيها دفن زوجته. لقد عاش فيها أطول مما عاش فيها هذا الفتى المدعو سيّداً. وكان يزهو بأن يكون خادماً لهذا القصر، فإذا بهذا الزهو مهدّد بالانهيار على يد ذلك الشاب الضحل. لم يحتمل قلبه المرارة، فاستمر في سخريته اللاذعة.
“إن أنتَ أظهرتَ اهتماماً أكبر بإيفنيا وهذه الطفلة، فلن يتركها الناس وشأنها.”
قال آراد، متكئاً ببرودٍ وهو يشبك ذراعيه.
“فليتقدّموا إليّ بشكاواهم إذن.”
كلمة أطلقها بسهولةٍ فاقت كل حدّ. ابتسم هارتلاند ابتسامة ساخرة تفيض مقتاً. ظنّ للوهلة الأولى أنّه يمزح، لكن شرارة الجدّ في عينيه ما تركت مجالاً للشك. يا لغرابة هذا النبيل الذي لم يذق طعم الازدراء ولا مرارة القيل والقال!
‘كيف له أن يعرف معنى الإذلال وهو لم يعش إلا مدلّلاً؟’
قال هارتلاند ببرودٍ قاطع.
“إن لم تكن تنوي أن تتحمّل مسؤولية هذه الطفلة، فكفَّ عن تعقيد الأمور. شؤون الخدم شأننا نحن، فلا تعبث بها بدافع فضولك الأجوف.”
وكانت كلمات الرجل العجوز قد وقعت في مسمع الخادم هامبتون الذي كان يمرّ صدفة. فشهق الرجل ووقف جامداً مذهولاً.
‘أجنَّ الرجل العجوز؟’
طالما اعتاد أن يتفادى وجه النبلاء وأسياد القصر، فإذا به اليوم يخاصم الوريث علناً!
‘لقد خرف لا محالة.’
ويبدو أنّ الفكرة ذاتها خطرت ببال آراد، فحين أبصر هامبتون أشار إليه برأسه.
“يبدو أنّ الرجل العجوز فقد صوابه. خذه إلى حجرته ليستريح، هامبتون.”
“أمرك، سموك.”
أدرك الخادم أنّ هذا منتهى التسامح من سيده. فلولا طول خدمة هارتلاند، لما تهاون معه آراد هذه المرة. فأسرع إلى الرجل العجوز يمسك بذراعه ليسوقه بعيداً. لكن هارتلاند نفض يده بعناد، وحاول أن يمسك رانلي.
“ألا تُفلِت يدي؟”
“ما بك يا هارتلاند! أرجوك اهدأ واخرج الآن!”
“سأخرج، نعم، لكن الطفلة ستخرج معي!”
لكنّ آراد تجاهله، ثم مال والتقط رانلي بين ذراعيه.
“جدي…!”
ارتجّ صوت رانلي بالذهول، فاستشاط هارتلاند غضباً.
“ماذا تفعل بالطفلة! أعدها إليّ حالاً!”
قطّب آراد بملل، وقال بازدراء.
“من يراك يظنها حفيدتك! أما وأنت لديك ما يشغلك، فسأتولى أنا أمرها. ألستَ بوصيها ولا مربّيها؟”
صرخ هارتلاند وقد استبدّ به القلق.
“لكنك لست والدها أيضاً!”
“والدها؟”
ارتسمت على شفتي آراد ابتسامة غامضة.
“ومن يدري؟”
وبدا كأن قلب الرجل العجوز هبط في قاع جوفه. جحظت عيناه وهو يحاول أن يقرأ ما وراء تلك الابتسامة المريبة، وقد شحب وجهه كالجصّ.
“ماذا… ماذا تعني بذلك؟”
لكن آراد رفع كتفيه باستخفاف وقال.
“لا تقلق، أنا من سيتكفّل بالطفلة ويعيدها إلى إيفنيا. فلا تجعل الخوف يستهلكك.”
ثم مضى وهو يحمل رانلي، مخترقاً الممرات حتى غاب.
أما الرجل العجوز، فرغم قوته الجسدية، فما كان لسبعيني أن يصدّ اندفاع شبابٍ في العشرين.
***
في تلك الأثناء، كانت يدا إيفنيا، الغارقتان بالماء حتى تجعّدتا كأوراقٍ ذابلة، لا تكفّان عن الدعك والغسل، كأنها دمية مسلوبة الروح تتحرك بآلية باردة. وقد أفرغت قلبها من كل إحساس، خوفاً من أن يطيح بها الغضب فتهدم كل شيء. لا تدري كم مرّ من الوقت وهي على تلك الحال، إلى أن انتفضت فجأة وكأنها صحَت من كابوس، وهتفت مرتاعة.
“رانلي!”
أسرعت إلى الباب، فرأت الظلّ ممدوداً وقد طال النهار.
ارتجف قلبها. لقد تركت ابنتها وحيدة زمناً طويلاً.
‘لابد أنها جائعة الآن.’
نظرت خلفها، فإذا الغسيل ما زال مكدّساً كجبل. لكنها لم تحتمل الانتظار. مسحت يديها في مئزرها، فبادرتها فتاة صغيرة كانت قد حاولت أن تلقي ببعض عملها على كاهلها.
“إلى أين؟ ستذهبين؟”
“سأطمئن سريعاً على ابنتي فقط…”
“ألم تسمعي ما قالته الآنسة أوليفيا؟ إن تركت عملك قبل أن يُنجز ستلقين جزاءً شديداً.”
لكن في عينيها لم يكن الحقد، بل شيء من الذنب والحرج. قالت متلعثمة.
“لم أكن أعلم أن لك طفلة… لقد كان مجرد تقليد نمزح به مع الخدم الجدد…”
غير أنّ إيفنيا لم تلقِ لها بالاً. لم يكن في قلبها سوى خوف واحد. رانلي.
“أخبري الآنسة أوليفيا حين تأتي أنني سأعود حالاً. أريد فقط أن أطمئن أن ابنتي بخير.”
ثم انطلقت راكضة. لم تطرق باب المطبخ، ولم تبحث عن الطعام، كان شوقها إلى الاطمئنان يفوق كل جوع. هرولت حتى لهثت أنفاسها، بلغت الإسطبل، قلّبت المكان، فلم تر رانلي. أطبقت يدها على صدرها في فزع، ثم أسرعت إلى المبنى الجانبي. هناك أبصرت هارتلاند فوق سلّم، يدقّ السقف بمطرقته.
“هارتلاند؟”
ارتجّ العجوز، والتفت بوجهٍ مبهوت. نزل مترنحاً وقال متلعثماً.
“تذكرت أنّ السقف قد تسرّب في آخر مرة كنت هنا مع زوجتي… أما الطفلة، فلا وجود لها هنا.”
شهقت إيفينيا.
“رانلي ليست هنا؟! أين هي إذاً؟”
ارتبك الرجل العجوز، حكّ رأسه وأجاب بجمود.
“كانت تتضوّر جوعاً عند الإسطبل، فأطعمتها وأردت أن أعيدها إليك. لكن فجأة جاء السيّد الجديد وأصرّ أن يأخذها معه.”
“السيّد…؟”
وخارت ركبتاها.
لماذا يأخذ آراد رانلي؟! هرعت بها الظنون السوداء.
‘هل كشف سرّها؟ هل سيلحق بها الأذى؟ ربما يلقي بها في ميتم مجهول… يا رباه!’
لم تسمع نداء الرجل العجوز وهو يصرّ أن آراد وعد بإعادتها إليها. ركضت بجنون نحو القصر. اجتازت الطوابق كالعاصفة، وصعدت إلى الطابق الرابع حيث يظنّ أن آراد يستقرّ. الخدم الذين صادفتهم لم يحاولوا اعتراضها، ذاهلين من اندفاعها.
رأت هامبتون عند باب مكتب الدوق الراحل، فعرفت أن آراد استقرّ فيه.
“إيفنيا؟!”
صُدم الخادم حين رآها، شعرها أشعث ووجهها مبلّل بالعرق، شاحب كالموت. لم تعد تشبه الخادمة الهادئة التي يعرفها.
“رانلي! رانلي!”
اندفعت تدفعه بوحشية لم يعهدها منها. فشدّ عليها بكل قوته وهو يصيح.
“اهدي يا إيفنيا!”
“أتركني!”
وهي تقاوم في جنون، فبهت الخادم. لم يتصور أن عينيها الرصينتين يمكن أن تشتعلا بهذا اللهيب.
“ليس لك أن تدخلي! سأعيد لك الطفلة، ثقي بي! حرّاس! ماذا تنتظرون؟!”
فاندفع ثلاثة رجال وأمسكوها. لكن قبضتهم لم تزدها إلا جزعاً.
‘إن كشف آراد حقيقتها سيقتل رانلي!’
صرخت بأعلى صوتها.
“رانلي!!”
كان صراخها مفزعاً حتى أن الحرس أنفسهم ارتبكوا. وتراخت قبضاتهم لحظة، فاندفعت بكل ما تملك من قوة نحو الباب المغلق. وفي اللحظة نفسها، انفتح الباب.
“ما هذا الضجيج؟”
“آه!”
ارتطمت به بلا وعي، اصطدمت بصدره القوي وارتدت لتتهاوى، لكن يده أمسكت بها قبل أن تسقط. نظر إليها من علٍ بعينيه المتعجرفتين، وابتسامة ساخرة على فمه.
“كأنك فراشة لا تعرف إلا أن تُلقي بنفسها في النار.”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"