استمتعوا
هو البستاني العجوز الذي كان يسكن سابقًا في السكن المنفصل حيث تقيم إيفنيا ورانلي الآن.
وجهه ما زال غارقًا في التجاعيد، وبشرته قد اسودّت وتصلّبت بفعل الشمس.
كان تسريح شعره وثيابه البالية كما هما لم يتغيّرا منذ سبع سنوات. الأمر الوحيد الذي تغيّر هو شعره، الذي كان ممتزجًا بالخُصل الرمادية، وأصبح الآن أبيض بالكامل.
صرخ في وجه مساعد المطبخ.
“إذا لم يكن هناك خبز كافٍ، فاذهب واخبز المزيد! أتريد أن تترك عجوزًا يموت جوعًا؟”
“ما الذي تقوله؟ لقد انتهيت للتو من الأكل!”
“وماذا أفعل إن لم يكن كافيًا؟”
تمتم مساعد المطبخ وهو يضع سلّة الخبز، متأثرًا بأسلوب البستاني الفظّ.
ثمّ التفت العجوز نحو إيفنيا التي كانت واقفة تراقب بتوتر، وحدّق فيها بنظرات حادّة.
“هل ستقفين هناك طوال اليوم؟ كنتِ أسرع من هذا. ماذا بكِ، هل تحوّلتِ إلى حلزون؟”
أُربكت إيفنيا ورفعت سلّة الخبز بسرعة، وكأنّها دُفعت بفعل صوته.
لم يُتح لها فرصة للتردّد، بل استمر في دفعها إلى الأمام.
“ألا يمكنكِ التحرّك قبل أن يفقد هذا العجوز أعصابه؟ تشه.”
تحت ضغطه، لم تتمكن إيفنيا حتى من النظر إلى مساعد المطبخ وهي تملأ الصينية.
كان الجبن، والنقانق، وشرائح لحم الخنزير الرقيقة، والسلوى المشوية، والخرشوف المطبوخ، والبازلاء مرتبة بعناية على الصينية.
رمق مساعد المطبخ المشهد بنظرات غير راضية، لكنه لم يجرؤ على التدخّل في أمر البستاني الذي خدم في القصر أطول من أيّ شخص آخر.
“شكرًا لك.” همست إيفنيا للبستاني.
تنهّد العجوز وأخرج منديلًا، وبدأ يلفّ الخبز واللحم ليضعهما في جيبه.
انحنت إيفنيا خلفه بإيماءة امتنان، رغم أنه لم يرها، ثم غادرت المطبخ.
وأثناء عودتها إلى مقرّها، مسحت بصمت الدموع التي كانت تسيل على وجهها.
كانت خائفة ومرهقة.
يدها ما زالت ترتجف.
عادت إليها ذكريات الألم التي حاولت نسيانها، فهاجمتها كالكابوس.
قبل سبع سنوات، عانت العذاب ذاته، ثم لجأت أخيرًا إلى الدوق السابق طلبًا للمساعدة.
لكنّه لم يساعدها.
المبلغ الذي تلقّته إيفنيا لم يكن مساعدة، بل مقابل مساهمتها في أبحاثه.
ولكي تُفصح عن الحقيقة، كان عليها أن تكشف مرض ابنه الذي ظلّ سرًا.
ربّما كان خائفًا من ذلك – هذا ما حاولت إيفنيا إقناع نفسها به.
لكنها، مهما حاولت، لم تتمكن من الفهم الكامل.
ألم يكن بمقدوره أن يجد ذريعة لتبرئتها دون فضح الحقيقة؟
لو أراد، من كان سيتجرّأ على مساءلته؟
رغم أن كلّ ذلك أصبح ماضيًا، لم تستطع منع شعور الاستياء من التغلغل في قلبها.
لماذا سمح لتلك الشائعات بأن تنتشر؟
لو لم يحدث ذلك، لما تعرّضت لهذا الاحتقار.
كان الأمر مفجعًا ومؤلمًا.
لقد ظُلمت كثيرًا.
لكنّ الأصعب من كلّ ذلك لم يكن موقف الدوق السابق، ولا تنمّر الخدم.
– “أرجوك، استمع إليّ، آراد!”
– “لا، لا تقولي شيئًا إيفنيا.”
كانت نظرات الرجل الذي أحبّته، المملوءة بالعتب، هي الأكثر قسوة.
– “لا أريد أن أسمع.”
ورحل.
تلك اللحظة التي انهارت فيها حبّها، كانت الأشدّ ألمًا.
‘كنتُ أظن أنّ حبي مختلف. يا لغبائي.’
وبينما كانت إيفنيا تسترجع ذلك الماضي، شحب وجهها.
وجفّت دموعها بسرعة مذهلة.
على عكس ما قبل لحظات، حين أطلقت العنان لمشاعرها وبكت، ها هي الآن تكبت الألم الذي ينهض داخلها.
فقد كان من المؤلم مواجهته، فاختارت تجاهله.
وملأت بدلاً من ذلك فراغها بلوم الذات.
‘كنتُ حمقاء. كنتُ ساذجة. لقد أعمى الحبّ بصيرتي.’
كانت رانلي طفلتها الغالية والمحبوبة، ولكنّها أيضًا الثمن الذي دفعته إيفنيا مقابل حماقتها.
ومع كل خطوة، كانت تترك خلفها أثرًا مرهقًا في الأرض.
وعندما وصلت إلى فناء السكن المنفصل، كان وجهها خاليًا من التعبير.
لكنّها ما إن فتحت الباب، حتى أزهرت ابتسامة مشرقة على وجهها، وكأنّ شيئًا لم يكن.
“رانلي.”
“ماما!”
ركضت رانلي نحوها بابتسامة بريئة، كانت تلهو بقطعة قماش قديمة عثرت عليها في مكان ما.
أجابت إفنيا بنبرة مرحة وهي تريها الصينية المليئة بالطعام.
“انظري إلى هذا الطعام اللذيذ!”
“واو! رائحته طيّبة!”
“هل نضعه على الطاولة ونتناوله؟”
“نعم!”
ابتسمت إيفنيا برفق.
“يا ملاكي الصغير… أنتِ أجمل هدية يمكن أن تحصل عليها أمّكِ.”
“وأنتِ أيضًا أجمل هدية لرانلي!”
“شكرًا لأنّكِ قلتِ ذلك.”
“هيهي.”
***
استقبل آراد الصباح بعد ليلة لم يذق فيها طعم النوم.
كان صدره مثقلًا، ومرهقًا، لكنه لا يشعر بالإعياء.
لم يكن لديه شهية، ومع ذلك نزل إلى غرفة الطعام ليعبث بطعامه بالشوكة.
‘إيفنيا.’
لم تغادر عيناها البنفسجيتان الأنيقتان ذهنه طوال الليل.
كان يظن أن ذكرياته قبل سبع سنوات قد تكون مشوّهة، وأن مشاعره حينها ربّما بالغ فيها عقله لاحقًا.
لكنّ ابتسامتها اللطيفة التي كانت تبعث فيه الطمأنينة، وضحكتها التي كانت ترفع معنوياته بمجرد سماعها، وعطرها الذي لطالما هدّأه…
‘ظننتُ أنّ كلّ ذلك مجرّد ذاكرة مبالغ فيها.’
لكن عندما رآها مجددًا بالأمس، أدرك آراد أنّ تلك الذكريات لم تكن مبالغًا فيها، بل تلاشت فقط.
‘أيتها القاسية.’
لقد خانته. ومع ذلك، أرادها بجانبه.
لكنّها اختفت دون كلمة، وبنت حياة جديدة مع رجل آخر في مكان لا يعرفه.
كان ذلك يغضبه… ومع ذلك، كمغفّل، شعر بالفرح لرؤيتها مجددًا.
حاول آراد استعادة رباطة جأشه.
‘ما الذي يفرحك؟ لقد رحلت دون أن تنبس ببنت شفة، والآن عادت دون خجل، وكأنها نسيت كل شيء.’
حاول أن يستثير الغضب في نفسه تجاهها، لكنّه لم ينجح.
وبينما هو شارد، لم يلمس طعامه، بل مزّقه حتى لم يعُد يُعرف.
وفي النهاية، نهض فجأة.
“إلى أين تذهب، سيدي؟”
سأله هامبتون، كبير الخدم.
“أحتاج إلى كرسي.”
“كرسي؟”
نظر هامبتون حوله. الكراسي في كل مكان، فعمّ يبحث السيّد؟
“لو أخبرتني بما تحتاجه، أتيت به لك.”
لكنّ آراد تجاهله وغادر.
“يُفترض أن هناك كراسي صالحة للاستعمال في السكن المنفصل. سأذهب بنفسي. لا حاجة لأن تتبعني.”
***
‘المكان بعيد جدًا.’
تمتم آراد وهو يمشي نحو السكن المنفصل حيث تقيم إيفنيا.
لكن عندما اقترب منه، بدأ يبطئ خطواته.
‘بل هو قريب جدًا.’
ما زال لا يعلم كيف سيواجه إيفنيا مرة أخرى، ومع ذلك، ها هو هنا.
بقي أمام فناء السكن فترة طويلة.
كان المبنى أكثر تدهورًا ممّا تصوّره.
في داخله، شعر بدهشة خفيّة. لم يكن يعلم أنه بهذه الحالة السيئة.
‘ومع ذلك، لم تأتِ إليّ.’
يا لها من امرأة عنيدة.
اقترب من الباب بتوتّر ممزوج بانزعاج.
وقبل أن يطرقه، سمع صوت طفلة يملأ المكان فرحًا، وضحكة ناعمة لإيفنيا من الداخل.
تجمّدت يده في الهواء، وبدأ يصغي لا إراديًا.
“رانلي، ألم تقل لكِ ماما ألّا تكوني انتقائيّة؟”
“همف. لكنّ البازلاء مقرفة… يقولوا إنّك لو أكلتِ كثيرًا منها، وجهك سيصبح أخضر!”
“ومن قال هذا؟”
“هانس! قال إنّ أخته اصبحت خضراء واضطرت لغسل وجهها عشر مرات!”
“حقًّا؟ هذا ليس ما سمعته ماما.”
“لا؟”
“لا. ماما أكلت الكثير من البازلاء، ولهذا السبب أصبحت طويلة!”
“واو! أريد أن أصبح طويلة مثل ماما!”
أرخى آراد قبضته، ووضع أطراف أصابعه على الباب.
كانت حرارة الداخل تنفذ إلى جسده، لكن في أعماقه، تسلّل إليه برد لم يشعر به من قبل.
شعور غريب بعدم الارتياح بدأ ينهض داخله.
منزعجًا، طرق الباب بقوة.
“افتحي الباب، إيفنيا.”
دَوّى وقع أقدام سريعة من الداخل، ثمّ فتحت إيفنيا الباب بحذر، وعلى وجهها علامات الدهشة.
“الـ… الدوق؟”
دفع آراد الباب ودخل.
راح يتأمل المكان المزدحم، حيث تتكدّس الأغراض حتى السقف، وارتسمت على وجهه علامات الاشمئزاز.
“هل كنتِ تعيشين في مكان كهذا؟”
أخفضت إيفنيا نظرها وردّت بهدوء.
“بفضل عنايتك، سيّدي…”
“عناية؟ هل تعتبرينني قمامة؟”
“هاه؟”
“لو قلتِ لي إنّ الوضع بهذا السوء، لكنتُ علمتُ.”
لو أنها جاءت إليه وشرحت له الأمر، لما سمح لها وللطفلة بأن تعيشا في مثل هذا المكان.
شعر آراد بالغليان في دمه.
لماذا هو من يشعر بالقلق الآن؟
كان يعضّ على أسنانه، بينما كانت إيفنيا تختار كلماتها بحذر، قبل أن تصمت.
أراد أن يسمع صوتها، أن تتحدث أمامه بحريّة كما اعتادت.
فقط حينها، كان سيشعر بالراحة.
“أليس لديكِ ما تقولينه؟”
“…أنا آسفة.”
لكن اعتذارها زاد من شعوره بالضيق بدلًا من أن يريحه.
كان غارقًا في مشاعر لا يفهمها، فألقى بها على عاتق إيفنيا.
“أنتِ مزعجة كما كنتِ دائمًا.”
“أنا آسفة.”
“توقفي عن قول ‘آسفة’.”
“أشعر بالخجل.”
“هاه.”
نظر إلى رأسها المنحني.
طوال الليل، كان قلبه على وشك الانفجار لمجرّد علمه بأنها قريبة…
لكنّ الآن، يكاد ينفجر من الغضب الذي لا يستطيع وصفه.
كان يريد أن يقول شيئًا جارحًا، لكنه تراجع، فقد لمح رانلي مختبئة في الزاوية تراقب بخوف.
“…سأطلب من كبير الخدم تنظيف هذا المكان. استعدّي لذلك.”
وغادر المكان فجأة.
حين وقف وحده خارج السكن المنفصل، أدرك أخيرًا مشاعره.
كان غاضبًا لرؤيته إيفنيا سعيدة مع رانلي.
إنّه غضب تافه… على سعادتها في مكان لم يكن فيه.
بينما هو يعيش على ذكراها، بدا أنّها محته تمامًا من حياتها.
استرجع صوت إيفنيا وهي تتحدث مع الطفلة بمودة.
السنوات التي لم يكن فيها جزءًا من حياتها جعلتها تبدو بعيدة جدًا عنه.
إنها إيفنيا، ولكن ليست إيفنيا التي عرفها.
كان قلبه في اضطراب.
كأنها صارت سرابًا لا يمكن لمسه مهما مدّ يده.
عاد إلى القصر، ووبّخ هامبتون بغضب.
“السكن المنفصل مليء بالخردة. لماذا لم تخبرني عن حالته؟”
أليس من واجب كبير الخدم أن يبلّغ عن أدقّ التفاصيل؟
لكن هامبتون، وقد شعر بمزاج آراد السيّئ، اكتفى بالانحناء.
“أعتذر، سيدي.”
“لا أريد رؤية هذا الخراب. تخلّص من كلّ النفايات، ونظّف المكان كما ينبغي.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 5"