لم يستطع آراد أن يُمسك بزمام غضبه، فاندفع بيده إلى الأمام قابضًا على مقدمه ثوب هيسار، ثمّ رماه بعنفٍ نحو هامبتون.
“آآااخ!”
صرخ هيسار صرخةً مكتومة وهو يتدحرج على الأرض، وقد ارتسم على وجهه ذهولٌ جليّ.
ذلك الرجل الذي كان يُعرف بين الخدم بصلابته وهيبته وبنيته القويّة، أُطيح به بهذه السهولة المخيفة على يد آراد.
غشاه شحوب الموت، فيما هو يواجه بأسًا لا يُقاوَم، وسقط قفّاز آراد الأسود على محيّاه، بينما رمقه الأخير بنظرة اشمئزازٍ مقزّزة.
“أبعدوه.”
أمّا إيفنيا، التي كانت تتابع المشهد بجمود، فقد اضطربت أفكارها.
‘سيشي هيسار إلى الخادم بأنني كنت مختبئة في المكتبة…’
تردّد القلق في نفسها، فالتفتت بحذرٍ إلى هامبتون تستقرئ نظراته، فإذا به ينظر إليها كما نظر إلى هيسار آنفًا.
حينها أيقنت.
‘إنّه يعتزم طردي معه…’
ففي نظر هامبتون لم تكن ضحية، بل مجرد خادمة مشاغبة أضافت إلى الفوضى.
وفوق ذلك، كان في سجلّها سابقة شغب في مكتب آراد.
‘إن بقيتُ صامتة، فسأُطرد لا محالة…’
لقد كانت هذه الخدمة ثمرة صفقةٍ مُرّة. تنازلت عن إرثها مقابل البقاء.
أما الآن، وقد جلبت المتاعب، فلن يرحمها كبير الخدم.
‘لا بد أن أستجدي عفو آراد أمام الجميع، كي لا يتمكّن هامبتون من طردي في الخفاء…’
فإن سقط هيسار، فسوف تُحمل هي على وزره بالمسؤولية المشتركة. وما أكثر ما ابتُلِيَ الخدم بالطرد جماعاتٍ إثر حادثٍ واحد.
لذا، على مضض، قررت أن تتحمّل وزر هيسار أيضًا.
“أرجوك سامحني.”
قالتها وهي تنحني بعمقٍ أمام آراد.
“لم يكن سوى سوء فهمٍ يسير. أعتذر عن الفوضى التي سبّبتها. أرجو منكَ، سموك، أن تتفضّل عليّ برحمتك وغفرانك.”
لكنّ ملامح آراد ازدادت تشنّجًا واشمئزازًا.
“سوء فهم؟! أما تعلمين ما كان ذاك الحقير يوشك أن يفعل بك؟”
“إنّما أراد فقط أن يعرف ماذا كنتُ أفعل. لقد كنّا صديقين منذ الطفولة. نعم، عبّر بخشونة، لكنّه كان مزاحًا من فرط فرحه بلقائي.”
“مزاح؟”
قهقه آراد ساخرًا، وارتسمت على شفتيه ابتسامة محتقرة.
“منذ متى أصبح الاعتداء باليد علامةَ فرح؟”
لكن إيفنيا تماسكت، وأصرّت بصوتٍ ثابت.
“أمثالنا، نحن الجهلة، اعتادوا على لسانٍ خشن وألفاظٍ سيئة. لم تكن في كلامي نيّة سوء. إن تفضّل سموك، ذو البصيرة الواسعة، ومنحني عفوه…….”
نظر إليها آراد مذهولًا، وقد أخرسته وقاحتها الممزوجة بالخضوع.
“لقد سمعتُ بأذني ذاك الوغد وهو يستهزئ بك يا إيفنيا. فكيف، بعد سماعك لمثل هذا، تطلبين مني أن أعفو عنه؟”
“لأنّها كلمات لا تعني لي شيئًا.”
“لا تعني شيئًا؟”
“إنه مجرد كلامٍ اعتدتُ سماعه لا أكثر. نحن… هكذا نحن. هذا أسلوبنا في العيش. أمرٌ يتكرر دائمًا.”
جفّت عينا إيفنيا وبدت قاحلةً خاوية. أجل، عبارات كـ ‘ساحرة’ أو ‘امرأة حقيرة’، والإهانات التي قالها هيسار، لم تكن جديدة عليها.
قبل أن تغادر هذا المكان كانت تسمعها، وبعد عودتها ظلّت تسمعها. أمرٌ معتاد. ذلك لا يعني أنّها لم تتألم، غير أنّها، في سبيل رانلي، كانت قادرة على أن تنحني بدلًا من هيسار بلا تردّد.
فما الفارق بين خضوعها لذاك الذي جعلها ألعوبة بين يديه، أراد، وبين طلبها الصفح باسم هيسار الذي لم يكن في قلبها تجاهه سوى البغض؟
اشتدّت عضلة فكّ إيفنيا وهي تعضّ على أسنانها، وارتجفت ملامح وجهها بعنف.
“الخدم مثلي لا بد أن يعيشوا في صمت، دون أن يزعجوا أعين أسيادهم…”
“كفى! اخرسي!”
رأت في طرف نظرها قبضته تنغلق غضبًا. كان صوته أشبه ببركانٍ يكظم ناره. ثم صاح بهامبتون، الذي ظلّ صامتًا يراقب.
“ألم تسمعني؟ أخرج هذا الحقير من أمامي!”
“أمرك، سموك.”
اقتاد هامبتون هيسار إلى الخارج، فيما الأخير يتأمل المشهد بعينٍ ماكرة، ثم انحنى بخبثٍ وغادر.
بقيت إيفنيا وحدها مع آراد، فتنفّس قليلًا وهدأ صوته.
“ارفعي رأسك إيفنيا.”
“سموك…”
“قلتُ. ارفعي رأسك.”
فعلت على مضض، لكن عينيها ظلّتا إلى الأرض.
“أنظري إليّ.”
“…”
“لماذا لا تنظرين؟”
كان يتوسّل بنظراته، لكنّها لم ترفع بصرها إليه. زفر بحرقةٍ يطفئ لهيب صدره، ثم قال بصوتٍ أهدأ ما استطاع.
“أعيدي عليّ… هل كان كلّ ما جرى مزاحًا بينكما؟ وهل كنتُ أنا من قطع عليكما اللعب؟”
“أعتذر عن الفوضى التي تسبّبت بها.”
“أنا لا أطلب اعتذارًا! أُجيبيني. هل كنتُ أنا المذنب؟”
“…”
مدّ يده بعصبية إلى شعره، يمرّره بين خصلاته.
“لقد همّ بضربك! ألم أرى ذلك بعيني؟”
“كان لعبًا، لا أكثر.”
“إيفنيا!”
ارتفع صوت آراد قليلًا، وكان أقرب إلى صرخة يملؤها القلق والعجز عن السيطرة منه إلى الغضب. ومع ذلك، لم تحرك إيفنيا ساكنًا.
“هاه……”
ابتسم آراد ابتسامة خالية من القوة، ثم تمتم بصوت ضعيف.
“اذهبي… حسنًا، اذهبي بعيدًا.”
***
ظلّ آراد يحدّق في ظهرها وهي تغادر، حتى غابت عن بصره.
ثم مرّر يده بعنفٍ في شعره، وترنّح جسده وكاد يسقط.
أسند جبهته إلى راحة يده، وعيناه تلتمعان بحمرةٍ غريبة.
‘إيفنيا…….’
أظلمت الرؤية أمام عينيه، ثم هزّ رأسه كمن ينفض عن نفسه وساوس ثقيلة. ما لبث أن استعاد بصره تركيزه، لكن لم يكد يمر وقت قصير حتى عادت الصورة تتلاشى وتغيم من جديد.
‘هل أقبض عليها وأحتجزها؟’
‘أحبسها فلا تنظر إلا إليّ.’
‘أجعلها أسيرة لا تتركني أبدًا.’
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة، راضية بما تخيل.
‘أقيّدها فأجبرها على أن تظل محدقة إليّ.’
‘ألا تدع عينيها تنفلتان منّي لحظة.’
لمجرّد الخيال، اضطرب صدره بنشوة آثمة، واشتعل أنفاسه، وانفرجت شفتاه في قوس مشبع بالرضا، فكشف عن أسنان تلمع بابتسامة مرعبة. لكن سرعان ما انتبه إلى نفسه، فهزّ رأسه بعنف، كأنما ليطرد تلك الأفكار.
‘تماسك يا أراد.’
تلألأت في عينيه ومضات صفراء تختلط بحمراء، تكشف عن جنونٍ كامن يترصّد اللحظة لينقضّ عليه ويبتلعه. حاول جاهدًا أن يحافظ على سكينته، غير أنّ المانا الحمراء أخذت تضطرب في داخله، تجتاح جسده بشعورٍ لاذع كأنّ آلاف الإبر تخترقه.
استحضر أراد الخاتم الذي يزيّن إصبعه، وسعى إلى تهدئة تيار المانا المتشابك والمتلاطم. شعر بها تُسحب بقوة إلى جوف الخاتم، ذاك الذي كان هدية من الدوق السابق. بفضله كان يفرّغ فائض المانا الجامحة ويحافظ على وعيه. لقد مضت سنوات وهو يسيطر على جنونه بهذه الطريقة دون عائق.
غير أنّه، وفي الآونة الأخيرة، غدا حتى ذلك الخاتم عاجزًا عن حفظ عقله. ومنذ اللحظة التي التقى فيها إيفنيا من جديد، بدأ كل شيء ينهار.
‘إيفنيا.’
بمجرّد أن تحضر صورتها في ذهنه، يشتعل عطشه ويغذي جنونه. كأرضٍ قاحلة يلتهم قطرات المطر بعد جفاف طويل، كان هو لا يشبع من التوق إليها، ولا يفكر إلا بها بنهم لا حدّ له. وكلما ازداد تفكيره فيها، تعمّقت حاجته واضطربت المانا في داخله حتى أصبح ضبطها عسيرًا.
عاد إلى ذاكرته طيفها حين كانت مراهقة تبتسم له. ابتسامة بريئة ما لبثت أن تحوّلت إلى قلق، ثم تلك اليد الرقيقة التي امتدت إليه. كلما لامست يده، هدأت المانا الجامحة فيه على نحو عجيب. منذ سبع سنين، حين كان مراهقا على شفا الجنون، كانت هي من أنقذته بقدرتها الغامضة. أجل، كان لها ذلك السحر الخفي.
احمرّت عيناه من جديد.
‘كيف لكِ أن تتركيني؟’
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مسعورة، يفيض منها الجنون.
‘أخبريني إنك تحبّينني يا إيفنيا. أخبريني إنني وحدي حبيبك، وإنه لا أحد في عالمك غيري.’
كان جنونه يزحف ليستولي على عقله كلما جرحه برودها، حتى غدا أسيرًا لتلك العاصفة السوداء. أخذ يهتز بضحكات مكتومة، كتفاه ترتجفان، لا يدري أهو من الضحك أم من الألم. حتى استند إلى الجدار، ثم أخذ جسده ينهار شيئًا فشيئًا إلى الأسفل.
***
كان هامبتون يحمل صينية عليها الطعام بيد واحدة، ورفع يده ليطرق الباب، لكنه تردّد. إذ انبعث من مكتب أراد صوت تحطيم ورمي أثاث كالرعد.
‘ها هو يعاود الكرة.’
لقد بدا له أنّ عدد المرات التي يحطم فيها أراد أشياء في الآونة الأخيرة قد ازداد. تذكّر كيف كان يراه أحيانًا في مراهقته، حين كان يتعلّم العمل تحت إمرة والد أراد. آنذاك كان يعتبره فتى مراهقًا متمرّدًا لا أكثر. لكنه سرعان ما تخطّى تلك الطفولة العاصية، وحمد هامبتون زوال ذلك الطبع. غير أنّ ما يراه اليوم ليس إلا عودة إلى تلك العادات القديمة، وهذا ما أثار قلقه.
‘لعلّ في نفسه همومًا كثيرة مؤخرًا.’
لطالما كان أراد شديد الحساسية وصعب المراس، لكنه في الآونة الأخيرة أصبح أكثر عجزًا عن كبح غضبه. لذلك كان هامبتون يحاذر في كل تصرّف، حتى لا يثير حنقه. واليوم بالذات، شاءت الأقدار أن يشهد أراد بعينيه جدال هيسار مع إيفنيا. ولا عجب أن يثور سخطه، وهو سيد مسؤول عن نظام الخدم وتأديبهم.
‘لابد من درس قاسٍ لهما.’
كان يظن أن الأمر سيُحسم بإخراجهما معًا من المنزل. لكن أراد غيّر رأيه على غير عادة، وقرّر أن يعفو عنهما، فما كان بوسع هامبتون إلا أن يمتثل.
‘هل السبب إيفنيا؟’
خمن أن للأمر علاقة بأوراق الميراث التي لم تنجز بعد. فجأة دوّى من الداخل صوت أثاث يُحطّم.
‘يا إلهي.’
رفع يده من جديد وطرق الباب، وقد علا وجهه الذعر.
‘سموك، هل أنت بخير؟’
مضت برهة، ثم جاءه صوت غليظ، حادّ كأنه يخدش الأعصاب.
“اتركني وشأني.”
كان صوته مغايرًا لصورة الرجل المهيب الهادئ الذي ألفه، حتى خُيّل لهامبتون أنّه أمام شخص غريب. بل خطرت له الكلمة الدنيوية القاسية. مجنون.
تراجع هامبتون مرتاعًا، وقد بدا القلق جليًّا على محيّاه. نظر إلى الصينية التي يحملها، فإذا فيها حساء ساخنٌ معدّ بعناية.
لقد لاحظ أنّ آراد بات يزداد نحولًا يومًا بعد يوم، يهمل طعامه، ويقتات على كأس خمرٍ صباحًا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات