أخذت إيفنيا بيد رانلي وأوصلتها إلى الجناح الجانبي، ثم قالت لها بصرامة.
“إيّاكِ أن تقتربي من الدوق مرة أخرى، رانلي.”
أخفضت رانلي رأسها في استكانة، وعضّت على شفتها بهدوء وهي تومئ. ثم ما لبثت أن تمتمت كمن يبرّر موقفه.
“لكن ماما، أنتِ قلتِ إن الدوق رجل طيّب… فلهذا السبب فقط…”
فأجابت إيفنيا بعينين صارمتين.
“قد يكون الدوق قد أظهر لكِ بعض اللطف، غير أنه رجل مخيف للغاية كذلك.”
فقالت رانلي بخجل.
“ولكنه قدّم لي طعاماً شهيّاً، بل وخاط لي أيضاً ثياباً لدميتي.”
“ثياب دُمى؟!”
لم تصدّق إيفنيا أذنيها. أيُعقل أنّه هو الذي صنع ذلك؟
تابعت رانلي ببراءة.
“لقد قالوا إن الدوق لا يعجز عن شيء. لذا طلبتُ منه أن يصنع لي ثوباً لدميتي. لكنه بدا وكأنه لا يُحسن الخياطة جيداً. حتى إنني أنا من علمته كيف يُدخل الخيط في ثقب الإبرة.”
“…….”
“لم يكن مُخيفاً أبداً…”
لكن حين رأت رانلي وجه أمها يزداد تيبّساً وغموضاً، عادت فأطبقت شفتيها الصغيرة في صمت. حاولت إيفنيا أن تتخيّل آراد جالساً إلى جانب رانلي يصنع معها ثياباً للدُّمى. غير أنّ الصورة لم تستقم في ذهنها أبداً. تذكّرت قوله قبل قليل.
[أنا فقط… أردت أن أصنع شيئاً للطفلة. تساءلت إن كان بوسعي أن أقدّم لها عوناً ولو قليلاً. هذا كلّ ما في الأمر.]
ارتجفت عينا إيفنيا قليلاً، غير أنها سرعان ما استعادت برودها وحدّتها.
يريد أن يساعد؟ يريد أن يُقدّم شيئاً؟
‘والآن فقط؟’
حين كانت في أمسّ الحاجة إليه، وحين كانت تترنّح على حافة اليأس، ألم يكن هو الذي استدار عنها ببرود؟ لقد تُركت صغيرةً وحيدة في أرض غريبة، تحمل جنيناً في أحشائها بلا عون. كان شعورها حينها كالذي يُدفع إلى حافّة هاوية لا نجاة منها.
‘لا حاجة لي بمساعدته.’
قالت إيفنيا بحزم قاطع، وبصوت بارد لا يقبل نقاشاً.
“ذلك الرجل مخيف للغاية. عدي أمك يا رانلي أنكِ لن تقتربي أبداً من الدوق.”
“حسناً… فهمت.”
تنفست إيفنيا تنهيدة طويلة، ثم ضمّت طفلتها الواهنة إلى صدرها.
“رانلي…”
دفنت وجهها في هامة ابنتها التي تفوح منها رائحة الشمس، وأغمضت عينيها بقوة. غير أنّ ذكريات كابوسية أخذت تلوح في رأسها. ملامح وجهه المتجمد حين علم بحملها، نظراته الحادة القاسية، الشفاه التي لم تتورّع عن الأمر بقتل الطفل. زاد ضغط ذراعيها حول رانلي، وكأنها تحاول حمايتها من تلك الذكرى المروّعة. كيف له أن يكون قد هام بها عشقاً، يهمس لها بأعذب الكلمات، ثم ينقلب فجأة إلى وحش بارد؟!
‘كنتُ مجرد دمية بريئة بين يديه.’
مرّت سنوات طوال، لكن قشعريرة الخيانة ما زالت تسري في عروقها كلما تذكّرت. لقد كانت صادقة معه بكل جوارحها. كم من ليالٍ سهرت بين دموع ولوعة لأجله! كم أحبّت كل ما فيه، وصدّقت كل ما نطق به. كانت كلماته العذبة التي يهمسها في أذنيها تُسكرها، ونظراته الدافئة التي تغمرها بالحنان تُذيبها. كم كانت ساذجة! حتى بدت لنفسها مضحكة مثيرة للشفقة. ولذا فهي تبغضه. سبع سنوات مرّت ولم تخفت في قلبها جذوة الحقد لحظة واحدة.
‘لن أسمح له أن يمسّ حتى شعرة من رأس رانلي.’
لم يكن لذلك الرجل أي حق في أن يضحك مع رانلي.
لم يكن جديرًا بأن ينعم بالفرح الذي تمنحه.
بل حتى أحزانها وآلامها لن يشاركه إيّاها.
لا تدري لِمَ صار يُظهر فجأة بعض اللطف نحو رانلي.
لكن ما كانت واثقة منه هو أنها لن تنخدع بتلك المودّة السطحية مرة أخرى.
تحت نظرات إيفنيا الهادئة الصامتة، كانت دائمًا نار غضب لاهب لم تخمد لحظة واحدة.
***
حين عادت إيفنيا إلى غرفة الغسيل، لاقت توبيخًا شديدًا من أوليفيا.
وفي تلك الليلة واصلت عملها في الغسيل حتى مطلع الفجر.
ومضت أيّام عدّة تعمل فيها إيفنيا بكدٍّ بالغ في غرفة الغسيل.
إذ كانت أوليفيا تتعمّد مضايقتها، فقد اضطرت إلى تفويت معظم وجباتها، وكانت تسهر إلى الفجر كل يوم تقريبًا.
وفي كل مرة، وجدت نفسها مدينة لهارتلاند، الذي كان يمدّ لها يد العون.
كان هارتلاند يعلم جيدًا لماذا تُضطر إيفنيا إلى الابتعاد عن رانلي تلك الساعات الطويلة.
وكان كلما رآها تودع طفلتها وتغيب، يتمتم بالشتائم واللعنات وهو يحدّق نحو القصر الكبير.
ذلك أن الخدم هناك كانوا يتراهنون بحماسة على المدة التي ستصمد فيها إيفنيا.
وكلما اشتدّت سخونة تلك المراهنات، ازداد عدد من يتطوّع لمضايقتها ومحاولة طردها، حتى بدت آثار الوهن والهزال بوضوح على جسدها.
غير أنّ بريق عينيها ظل ثابتًا لا يخبو.
‘لا بد أن أجد عملاً آخر يبعدني عن غرفة الغسيل… عملاً يتيح لي التجوّل داخل القصر من غير أن أثير الريبة.’
وكانت غايتها ثلاث أماكن. المكتبة، ومكتب الدوق، وغرفة النوم التي استخدمها الدوق الراحل.
لا بد أن تكون وثائق أبحاثه التي أخفاها مدفونة في أحد تلك المواضع.
رغم أنّها أصعب الأماكن وصولًا، إلا أن محدودية عددها كانت باعثًا على الأمل.
‘سأحتال بأي وسيلة كانت.’
وممّا يدعو إلى الطمأنينة أنّ نظام هذا القصر لم يتبدّل كثيرًا طوال سبع سنوات.
فقد عرفت إيفنيا من التجربة كيف يتحرك الخدم، ومتى، وبأي طريقة تتم الترقيات بينهم.
قالتها سانا، الخادمة المتدرّبة، بامتعاض، بعدما ضبطتها وهي تضع ثيابها فوق ما خصّت به إيفنيا.
كان وقت العشاء قد حان، وقد رأت إيفنيا منهمكة تُقلب في صندوق أدوات الخياطة.
فقد اعتادت أن تفصل قطع الغسيل الممزقة البالية لتعيد إصلاحها متى سنحت لها فسحة من الوقت.
“أما كان الأحرى أن تدعي غيرك يقوم بذلك؟”
تمتمت سانا بضجر، وهي تدور في أرجاء المكان عاجزة عن مغادرة إيفنيا. فابتسمت لها إيفنيا بهدوء.
“إنني أقوم بهذا لأنني أحب ذلك. أشكركِ على اهتمامك. اذهبي أنتِ وتناولي طعامكِ أولًا.”
“لـ، لست قلقة حقًا عليكِ.”
احمرّ وجه سانا كمن كُشف أمره للتو، ثم خرجت مسرعة من غرفة الغسيل. جلست إيفنيا وحدها في الغرفة التي خلت من الجميع، ترمش بعينيها مرارًا حتى تركزت الرؤية المتعبة. ثم بدأت تطرّز بخفة فوق قماشٍ مثقوب بالي أو ممزق.
‘لعلّ امتلاكي لهذه المهارة نعمة.’
فمنذ أن بدأ هارتلاند يعطف على رانلي، لم تعد إيفنيا تقترب من قاعة الطعام إلا نادرًا. فقد تركت تلك الحادثة القديمة في قاعة الطعام جرحًا نفسيًا عميقًا جعلها تنفر منه. ثم إن وجود الرهانات بشأنها جعلها هدفًا دائمًا لسخرية الخدم الأشقياء كلما ظهرت أمامهم، وما عاد في طاقتها احتمال ذلك.
‘من الأفضل أن أستمر في العمل حتى بالجوع، فهذا سيُسرّع تبدّل مهامي، ومن ثم أجد وسيلة علاج رانلي وأغادر هذا المكان أسرع.’
أخذت يداها تعملان بلا كلل؛ تزرع الأزهار الصغيرة على الأقمشة، وتبسط أجنحة الفراشات، وترسم النقوش العجيبة. ولم يطل بها الأمر حتى عادت سانا بعد انتهائها من طعامها، فهزّت رأسها متحسّرة وهي تنظر إلى إيفنيا بعينٍ لا تفهمها، ثم وضعت أمامها شطيرة ملفوفة في منديل.
“كنت أنوي أكلها لاحقًا، لكن منظركِ لا يُحتمل، فخذيها.”
رفعت إيفنيا نظرها إلى سانا بوجهٍ شاحب.
“أشكركِ يا سانا. حقًا… أشكركِ كثيرًا.”
وكرّرت شكرها مرات، ثم التهمت الشطيرة بعجلة من غير شرب ماء. ولم تدرِ أكان جفاف حلقها من جفاف الخبز أم من غصّة قلبها. وبينما كانت تأكل بشراهة، انتزعت سانا منها بعض الغسيل بنفاد صبر وشرعت تعبث به.
“هاتي، هذه الأشياء يُفترض أن يتكفّل بها أهل الخياطة، فلماذا تعذّبين نفسك؟”
“لا بأس… لستُ بحاجة إلى مساعدتكِ!”
“إنما أفعل هذا لأنه ليس لدي ما يشغلني.”
قهقهت سانا باستخفاف، وجلست بعيدًا عنها، مولية ظهرها كي لا يظن أحد أنهما تتحادثان، وبدأت العمل على طريقتها. ثم تمتمت كأنها تحدث نفسها.
“أتعلمين كم تثيرين قلق من حولك؟”
فرفعت إيفنيا رأسها إلى قفاها متسائلة.
“أنا؟”
“إما أن تكفّي عن إظهار الشقاء في محياك، أو تكوني قاسية مع الناس قليلًا…”
“إن كنتُ قد أزعجتك، فأنا آسفة.”
“هذا بعينه ما يزعج!”
“آه…”
“ولماذا تستسلمين للأمر بهذه السهولة؟”
فتململت سانا بضيق، ثم تمتمت بصوت خافت كأنها تحادث نفسها حقًا.
“رغم أنها حبيسة هذه الغرفة بالكاد تُرى، فلا حديث للخدم إلا عنها متى فتحوا أفواههم!”
وما لبثت أن دخلت الخادمات الأخريات، فتظاهرتا معًا بالانشغال بعملهما. وانكبّت إيفنيا على التطريز أكثر فأكثر، تصلح أيضًا بزّات الخدم بعناية. ولم يمض وقت طويل حتى أثمرت جهودها، إذ دعتها رئيسة الخدم سيلفي بعدما وقعت عينها على تطريزها.
“يدكِ في التطريز ما زالت ثابتة.”
لم تلتفت إليها سيلفي، غير أن في نظرتها بريق رضا لم تستطع أن تخفيه. ناولت إيفنيا أغطية أثاث متعددة وقالت.
“أصلحيها بعناية وأعيديها. وإن جعلتِها متناسقة فسيكون أفضل.”
وكان معنى كلامها أنها ستنقلها إلى العمل في الصيانة، وهو ما يعني ترقية وزيادة راتب. لكن بالنسبة لإيفنيا، كان الأهم أنها ستنال حرية أوسع في الحركة. لهذا عملت بجد طوال هذه الفترة. وبرغم سرورها بتحقق غايتها، اكتفت بابتسامة هادئة دون أن تُظهر الكثير.
“سأبذل جهدي سيدتي.”
ثم سألتها بصوت رزين وواثق.
“هل لي أن أعمل مع سانا؟ تبدو موهوبة، وإن علمتُها ستتقن سريعًا. وبعض هذه القطع من عملها.”
وأشارت إلى بعض التطريزات التي كانت سيلفي تفحصها. فرفعت هذه الأخيرة رأسها، ونظرت إليها من فوق إطار نظارتها الصغيرة.
“أتريدين أن تتولي تعليمها أنتِ؟”
“إن أوليتِني الثقة.”
“لكن التعليم لا يجوز أن يتجاوز غرفة الغسيل. وإن لوثتِ براءتها بما لا يليق، فستُطردين في الحال.”
رمقتها بوعيد أمام الملأ، فاشتعل وجهها خجلًا وكادت تبكي، غير أنها أومأت برفق.
“لا تقلقي، لن أقترف حماقة.”
***
في اليوم التالي، انتقت إيفنيا بعض الأغطية التي سلّمتها لها سيلفي، وضمتها إلى صدرها وتوجهت بخطى ثابتة نحو قصر الرئيسي. كانت خطتها أن تتذرع بأخذ مقاسات الأثاث لتتمكن من التجوّل داخل المبنى، مستغلة وقت الاستراحة حيث انشغل الخدم مجتمعين في المطبخ وقاعة الطعام.
‘لقد خرج آراد منذ قليل، وهذه فرصتي. سأبدأ بالمكتبة.’
كان الطابقان الأول والثاني يعجان بالخدم، أما ابتداءً من الثالث فلا يُسمح إلا للمقربين أو أصحاب المراتب العليا. أما الرابع فهو خاص بأسرة الدوق، ولا يُمسّ إلا في أوقات التنظيف المقررة. لذا كانت مكتبة الطابق الثالث، في آخر الممر الغربي، أيسر ما يمكن النفاذ إليه من بين الأماكن الثلاثة التي أرادت تفتيشها، رغم أن دخولها غير مباح لها.
‘بعد المكتبة، سأصعد عبر درج الخدم إلى الطابق الخامس، حيث غرف الخادمات.’
ولو سُئلت لماذا تجولت داخل القصر بدلًا من ملازمتها مسكن الخدم، لادّعت أنها تبحث عن سانا. فمعظم الخدم يقيمون في المساكن الخاصة بهم، غير أن بعضهم يسكن في علّيات القصر في الطابق الخامس، ومنهم المتدربات مثل سانا تحت رقابة رئيسة الخدم. وهكذا يكون لديها حجة إن لزم الأمر.
وسارت عبر درج الخدم بخطوات حذرة، متفاديةً بصعوبة أعين المارة حتى بلغت الطابق الثالث بسلام.
‘هيوه.’
لم تكن المكتبة بعيدة عن الدرج. وبعد أن تأكدت من خلو الممر، فتحت الباب في صمت، وانسلت إلى الداخل بخفة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 12"