استمتعوا
“إيفنيا.”
“أطـ، أطلِق سراحي.”
أدارت إيفنيا رأسها ببرودٍ جليدي، وقد ارتسمت على محياها علاماتُ الارتباك.
وجه آراد الذي كان يحدّق بها بدأ هو الآخر يتشوه بالغضب والخذلان. كان إعراضها عنه فجأة أمرًا يعسر احتماله.
قمع بصعوبة مشاعره المتأججة، وأرخى قبضته عنها.
ومن خلفه، كانت رانلي تبحث عن أمها.
“ماما!”
“آه، رانلي، صغيرتي…”
اندفعت إيفنيا نحو ابنتها كما لو أن ميتة قد بُعثت من جديد.
وحين ارتمت الطفلة بين ذراعيها، لم تستطع إيفنيا أن تستعيد سكينة قلبها إلا آنذاك.
ثم التفتت بنظرة حادة نحو آراد الذي كان يقف متكئًا بذراعين متشابكتين، يتطلّع إليها وكأنها تُثير جلبة لا معنى لها.
عندها فقط وقعت عيناها على هامبتون، الذي بدت على وجهه أمارات الذعر.
وكان يشير بعينيه المتسعتين أن تعتذر فورًا للدوق.
أسرعت إيفنيا بإخفاء رانلي خلف ظهرها وانحنت عميقًا.
“أعـ، أعتذر، سيدي.”
كيف تسوِّل لها نفسها، وهي خادمة حديثة العهد، أن تُحدث مثل هذه الفوضى!
اقتحامها مكتب الدوق، الذي لا يجرؤ حتى رئيس الخدم على دخوله إلا بإذن، خطأٌ كبير يستحق الطرد في الحال.
أخفضت إيفنيا رأسها بلا تردّد.
“لقد أقلقني أمر الطفلة… أرجو المعذرة.”
رمقها آراد مطوّلًا، وكأنه يقرأ في ملامحها آثار الخوف.
“من يرانا هكذا يظن أنني اختطفتها.”
“…”
أطبقت إيفنيا شفتيها، ممتنعة عن الكلام، لكنها كانت بصمتها تُدين.
وكان آراد يفهم احتجاجها الصامت. إن لم يكن هذا اختطافًا، فما عساه يكون؟
“أيعقل أنك لم تُبلَّغي بما جرى؟”
التفت نحو هامبتون بلهجة اتهام.
“أظنني أمرتُ بأن يُبلَّغ بأنها هنا ليأتي أحدهم فيأخذها.”
“لقد أرسلتُ غيري، لكن يبدو أنهما تفرّقا في الطريق.”
“في منزل واحد لا يُنقل الكلام صحيحًا، فكيف لسائر الأمور أن تسير على ما يرام؟”
صوت آراد حادٌّ لا يعرف العلو ولا الانخفاض، فانحنى هامبتون بعمق.
“إنها غلطتي سموك.”
وما كان لإيفنيا أن تقف ساكنة بينما يُلام غيرها.
“بل تقصيري أنا في رعاية الصغيرة. أعتذر عن الفوضى التي تسببتُ بها، وأتقبّل العقوبة عن طيب خاطر.”
قطّب آراد حاجبيه. لم يكن يطلب اعتذارها.
وبخلاف صوته الغاضب حين خاطب هامبتون، جاء صوته الآن مكبوتًا نافد الصبر.
“أنا الذي جئتُ بالطفلة دون إذنك، فلمَ تعتذرين أنتِ؟”
لكن إيفنيا لم تزدد إلا انحناءً.
فإن تصرّف سيد القصر بغير قيود فذلك حقه، أما أن تتصرّف خادمة بمثل تصرفه، فهو جرم عظيم.
“أعتذر.”
“أعتذر، أعتذر… عمَّاذا أصلًا تعتذرين؟”
كانت كل كلمة تنطق بها تزيد إحساسها بأنها تُؤجّج غضبه.
‘يا له من مأزق!’
شعرت كأنها حُبست في متاهة لا مخرج لها.
توترها أمام آراد كان يشلّ تفكيرها، فشرعت تذكر كل خطيئة ارتكبتها.
“لقد تجرأت ودخلت هذا المكان دون إذن… ولم أحسن رعاية الصغيرة… وزادت على ذلك أخطاؤها…”
“كفى. لم أقل لكِ عدّدي زلاتك. الأمر لا يستحق كل هذا.”
رمقها آراد بغضب مكتوم، وكان فمه المطبَق يوحي بجرحٍ أكثر من غضب. لكن إيفنيا التي ظلّت مطأطئة الرأس لم ترَ ذلك.
“أعتذ…”
“قلتُ كفى! لا أريد سماع المزيد. كنتُ فقط ألعب مع الطفلة.”
ارتجفت عيناها المتسمرتان في الأرض.
‘يلعب معها؟ ولماذا؟’
جفّ حلقها، وانقبض صدرها.
هل علم أنّ رانلي ابنته؟ هل أفشت الصغيرة السر؟
ولماذا التقى بها بعيدًا عنها؟
حينئذٍ ترددت رانلي قليلًا ثم بادرت.
“ماما… لقد كنتُ ألعب مع الدوق!”
قالتها بحذر، محاولة أن تُلطّف وقع الأمر على أمها.
“لقد أعطاني حلويات كثيرة جدًّا! انظري!”
وأشارت إلى ما تراكم على الطاولة من أصناف الحلوى.
عندها أدركت إيفنيا أن طفلتها تحاول التخفيف عنها.
لكن إن لاحظت رانلي توترها إلى هذا الحد، فلا شك أن آراد أيضًا قد رآه.
‘لا يجب أن أبدو هكذا. عليّ أن أتماسك.’
شدّت على نفسها وأظهرت وجهًا أكثر هدوءًا.
مهما بدت تصرفاتها قبل قليل متهورة، فإنها تُفسَّر كرد فعل طبيعي لأم فقدت ابنتها. والآن وقد وجدتها، فلا بد من ضبط النفس.
“رانلي، لا ينبغي أن تزعجي الدوق هكذا. لقد وضعتِ أمك في موقف حرج. اعديه الآن ألّا تظهري أمامه أبدًا.”
“لكني…”
أرادت رانلي أن تبرئ نفسها، إذ جُلبت قسرًا بين يدي آراد، لكن صرامة أمها أرغمتها على الرضوخ.
“حسنًا ماما.”
رأى آراد أن الأمر ينقلب على غير ما أراد، فهبّ للدفاع عنها.
“أنا الذي أحضرت الطفلة، يا إيفنيا. لم تزعجني البتة.”
غير أن إيفنيا قطعت الطريق أمامه بحزم.
“أشكر سموك على كرمك ورحمتك. وسأحرص ألا يتكرر ذلك أبدًا. فاسمح لي أن آخذ الطفلة وننصرف.”
وانحنت، فبادرت رانلي تقتدي بأمها.
“أعتذر سيدي الدوق…”
انحبس كلام آراد وهو يراقب رأس الطفلة المنحني أمامه.
لطالما اعتاد الناس أن ينحنوا له. أمر مألوف لا غرابة فيه.
لكن هذه الصغيرة بالذات أن تنحني له… كان شيئًا غريبًا، مربكًا، مكروهًا.
“ارفعي رأسك.”
قالها بصوت ثقيل. لكن لم ترفع أيٌّ منهما رأسها.
“أهذا اعتذار أم عصيان؟”
حينها فقط رفعَتا رأسيهما. لكنهما لم تجرؤا على النظر في عينيه. حتى رانلي، التي طالما نظرته بعيون براقة فضولية، آثرت تجنّب عينيه.
ثم وقعت عيناه على قطعة قماش سقطت أرضًا حين هرع لفتح الباب قبل قليل. كانت ما كانت رانلي ترجوه.
[إ.. إذن، هل يمكنك أن تصنع ثيابًا تُلبَس للدمية؟]
ضحك في سرّه بمرارة. أهذه أمنيتها؟
لم يجرب الخياطة قط، لكن بما أنه وعد، حاول أن يجرّب. حسب أن قطعة قماش صغيرة تُلَفّ كيفما اتفق تكفي.
‘اللعنة.’
كتم شتيمته.
“كنتُ فقط… أريد أن أفعل شيئًا لأجلها. أردت أن أساعدها بشيء. لا أكثر.”
كان صوته عاريًا من الهيبة، عفويًّا.
مرّر يده بخشونة بين خصلات شعره، يحاول أن يجد ما يقوله لإيفنيا. كان ثمة كلام ملحّ يريد قوله، لكنه لم يعرف ما هو.
في تلك اللحظة، رفعت إيفنيا بصرها الذي كان مطأطأ نحو الأرض، وحدّقت بأراد فجأة.
وكأنها تستغربه غاية الاستغراب.
كانت هذه المرّة الأولى منذ عودتها إلى غيلينزيك التي تنظر فيها إلى أراد بعينيها مباشرة بإرادتها
“…”
حدّق فيها واجمًا.
نظرتها كانت واضحة، لكنها خاوية.
وفهم في تلك اللحظة أن هذا هو قلبها العاري أمامه. قلب فارغ.
ولأول مرة، بدلاً من اعتذار، طرحت عليه سؤالًا.
“مساعدة؟”
كان صوتها رتيبًا، لكنه ينضح بغضبٍ مكتوم.
غير أن آراد، الذي كل حسّه مسمّر عليها، التقط ذلك التغيّر الطفيف.
“أشكرك، لكن يكفيني أن منحتني فرصة للعمل هنا مجددًا. رانلي ليست بحاجة لأي مساعدة.”
شددت بصرها فيه، وأكدت.
“لا حاجة لنا بأي مساعدة.”
ثم انحنت مرة أخرى معتذرة، وأخذت بيد رانلي وغادرت بهدوء.
ولما اختفت، أدرك آراد متأخرًا ما الذي كان يريد قوله.
“لا تدفعيني بعيدًا….. هكذا.”
شعر كأنه دخيل منبوذ من حياتها.
جلس على أريكة المكتب مذهولًا، وكأن كومة من الرمل انزلقت كلها من بين أصابعه ولم يبقَ في راحته إلا فراغ.
‘أأنتِ التي اختفيتِ فجأة بلا أثر، أفلا يكفيك ذلك؟ إن كنتِ تبغضينني لهذا الحد، فهلا عشتِ حياةً مزدهرة بعيدة، ولم تطئي هذه الأرض ثانية؟’
اغتاظ حتى ثار. دفع بكل ما بقي من حلويات رانلي فتناثرت مع صخبٍ مزّق السكون.
وأخذ يصرخ في الخواء كالمجنون.
“لقد منحتكِ فرصة، ومع ذلك كنتِ أنتِ من هرب!”
ثم تهاوى على كرسيه، ودفن وجهه في كفّيه. كان شعوره بالغثيان لا يُطاق.
“لِمَ كل هذا الكره لي؟ لِمَ؟”
غمرته العواطف المتناقضة، وعاد فكره إلى ذلك اليوم البعيد…
[اسمعني يا آراد!]
كانت تحاول أن تشرح شيئًا، لكنه صدّها.
خشي أن يسمع من شفتيها ما يرهبه. فتقوقع كجبان، ولم يُدرك أنها تنوي الرحيل. لم يخطر بباله أن ذلك سيكون الوداع الأخير.
في صباح اليوم التالي، ذهب كبير الخدم يبحث عنها، فعثر على سريرها غارقًا بالدماء. واكتشف الجميع أنها اختفت بلا أثر.
لكن آراد كان يعلم الحقيقة.
هو وحده عرف لماذا تركت ذلك الأثر ورحلت.
[تخلّصي من الطفل.]
لقد تركت وراءها برهانًا على أنها أطاعته.
ثم، وقد خابت آمالها فيه، اختفت.
انهار عليه الندم، فبكى في سرّه قسوة موقفه معها، وتوجّع لغيابها.
ولم يدرِ أيُّ يأسٍ استولى على قلبها وهي تغادر، مستنزفة الدماء، مصمّمة على الرحيل.
لاحقها بجنون، لكن كأن يدًا خفية حالت بينه وبينها. لم يستطع أن يقتفي ظلّها.
اشتاق إليها حدّ الجنون.
ولو علم أن الشوق سيقتله هكذا، ما كان ليتعامل معها بمثل تلك القسوة.
‘لو أنني أصغيتُ إليكِ يومها.’
كان هذا فكرًا يطارده طَوال سبع سنوات.
‘لو أنني لم أنطق بتلك الكلمات.’
تحوّل ندمه العميق إلى غضب على نفسه.
وأمال رأسه حتى غطّى وجهه بكفّيه، وبدت عيناه من بين أصابعه داميتين حمراء.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 11"