قبل قليل، كان آراد قد اصطحب رانلي إلى مكتبه، ثم ارتسمت على محيّاه ابتسامة غامضة وهو يأمر هامبتون قائلاً.
“أخبر إيفنيا أنني أبقي الصغيرة عندي، فإذا فرغت فلتأتِ إلى هنا.”
“نعم، امرك.”
وبعد أن أرسله، أخذ أراد يحدّق في رانلي التي غدت فجأة وديعة هادئة.
‘أب الطفلة…’
تردّد في ذهنه ما قاله هارتلاند من أنّه ليس أباها، لكن صورة الفتاة وهي تناديه ‘أبي’ خطرت له على حين غرّة. أن يكون أبا لهذه الطفلة، أليس معناه أن يكون زوجاً لإيفنيا؟ جلس أراد الفتاة على الأريكة وقابل عينيها مباشرة.
“ما اسمكِ؟”
كانت رانلي لا تزال مذعورة بعد أن رأت هارتلاند يُسحب صارخاً من أمامها. لم تذرف دمعة، بل كانت تجاهد نفسها كي لا تبكي، تحدّق بعينين واسعتين مرتعشتين. تمتمت بصوتٍ مبحوح مكتوم.
وانفجر السيل. بكت الطفلة، وهي تُلقي على أراد نظرات ملؤها الحقد، إذ طرد من كان يلاطفها، هارتلاند. بل إنه لم يكن لطيفاً مع أمها من قبل. وأمها لطالما حذّرتها من اتباع الأشرار. كيف بها وقد جُرّت إلى رجلٍ رأت فيه الشر بعينه؟
“ولِمَ البكاء؟”
قطّب أراد جبينه وحنى رأسه، وكان في عينيه ما يبدو مرعباً للطفلة، بينما لم يكن في الحقيقة سوى الحيرة. لم يعرف كيف يُعامل الأطفال. بل لعلها المرة الأولى التي يواجه فيها طفلة عن قرب. كان يظن أنّ الصغار كدمى هادئة لطيفة، بلا وعي ولا إرادة، يطيعون من يأمرهم. ألم يكن هو هكذا حين كان طفلاً؟ لا يذكر يقيناً.
“أتخشينني؟ أم أنّ في نفسكِ شيئاً لا يرضيكِ؟”
لكن رانلي لم تجب، بل أمعنت في البكاء. فاستشعر الحرج، وحاول تهدئتها برفق.
“لا تكتفي بالبكاء، بل قولي ما تريدين، لأعرف ما حاجتك.”
بدا جلوسه متصلّباً، ذراعاه معقودتان، صوته جافاً متجهّماً، فرأته الفتاة صورة للصرامة، وهو يجهل كيف تبدو هيئته في عيني غيره.
“هل انت تبكين لأنكِ تشتاقين لإيفنيا؟”
فما إن ذُكر اسم الأم حتى رفعت رانلي رأسها ونظرت إليه.
“… ماما؟”
تنفّس أراد الصعداء إذ لاحت بادرة تجاوب، وقال.
“حين ننتهي من حديثنا، آخذكِ إليها. لا، بل ستأتي قريباً، فقد بعثتُ إليها شخصاً ليخبرها أنكِ هنا.”
لكنه لم يدرك أنّ الأطفال لا يُحسنون الصبر ولا التفاوض. في عقل رانلي، لا حديث قبل رؤية أمها.
“أريد أن أذهب إلى ماما!”
“ألم أقل لكِ إنّها ستأتي حين يحين وقتها؟”
إذ ذاك غمرت الدموع عيني رانلي من جديد، وكادت تنفجر في بكاء آخر. فأصابه التوتر. من ذا الذي جعله يضطرب هكذا؟ طالما كان هو من يزرع الارتباك في قلوب الآخرين، فكيف انقلب الحال؟
“لا تبكي.”
“… اوووووه…”
“قلتُ لا تبكي! ما الذي يجعلكِ تبكين هكذا؟”
“وااااااااه!”
“إن لم يعجبك اقتراحي، فبوسعي أن أعدّل فيه.”
“آآآه!”
“هامبتون! أين أنت، هامبتون؟”
صرخ، وقد بلغ به العجز مبلغاً. لم يُجب الخادم، ففتح الباب مرتين، يتأكد بنفسه من الخارج. وأخيراً لمح هامبتون يصعد السلم، فهتف.
“هيا أسرع!”
“ما الأمر، سموة؟”
“الطفلة تبكي ولا تهدأ. أظنها مريضة، استدعِ الطبيب.”
“دعني أجرّب.”
أراد نظر إليه مرتاباً. إن كان هو نفسه قد فشل، فالخلل في الطفلة لا ريب. فكيف لغير طبيب أن يسكتها؟
“… شكراً لك، ايها العم!”
ماذا؟ لقد توقفت؟! أراد حملق في رانلي وهي تمسح دموعها وتتناول من يد الخادم قطعة حلوى، تشكره بأنفاس متقطّعة.
جثا هامبتون أمامها، يمسح دموعها، ويلاطفها بكلمات هادئة. فإذا بالمعجزة تقع. الطفلة تكفّ عن البكاء.
“كيف فعلتَ ذلك؟”
“قلتُ لها إننا سنأخذها إلى إيفنيا بعد قليل.”
تفرّس أراد فيه بدهشة، وقال.
“لكنني أنا نفسي قلتُ ذلك!”
لم يستطع هامبتون أن يحمل نفسه على أن يطلب من سيّده أن يبتسم أو يلطف نبرته.
“هل جرّبت أن تُعطيها شيئاً تأكله؟ الأطفال يعشقون الحلوى.”
ولم يكن كاذباً.
“أهكذا إذاً.”
صفق أراد كتف خادمه. يا له من خادم بارع! إن كان هذا هو مفتاحها، فالأمر يسير. فأرسل هامبتون إلى المطبخ يأتي بما لذّ وطاب من الحلوى.
وبينما هامبتون يستنكر كثرة ما طُلب، كان أراد مُصمّماً. يجب أن يكسب قلب الطفلة.
وما هي إلا لحظات حتى امتلأ المكتب بما لذ وطاب من صنوف الحلويات. كعكات صغيرة مزيّنة بالفاكهة والكريمة والزهور، ميلفيّ يقطر بالكاسترد والتوت الأحمر، تارت محشو بالمربّى، كرَمبيت مقرمش، وكوكيز تنضح بالشوكولا.
رانلي، التي لم ترَ في حياتها سوى القليل، وجدت نفسها أمام مأدبة أسطورية. شهقت، واتسعت عيناها دهشة، بينما ارتسمت على وجه أراد ابتسامة ظافرة.
‘بسيطة!’
كم هو يسير أن تُستمال! لو أنّ كل ما يلزم هو بعض الحلوى، فما أهون الأمر.
“كُلي ما شئتِ. وإن لم يكفِ، فاطلبي المزيد.”
رمقته رانلي بعيون متسعة، وقد تلاشى حاجزها شيئاً فشيئاً مع كل طبق يُوضع أمامها.
“ولكن… هذا كثير جداً!”
أمسكت بقطعة كعك في يد، وبأخرى في اليد الثانية، وأخذت تقضم وهي في نشوة كأن النور يتفجر في فمها. طعم لم يسبق أن اختبرته. حلاوة وحموضة تثير السعادة في لسانها.
أي خبز هذا الذي يذوب كالقطن؟ وأي قرمشة هذه التي تعانق النكهة؟ وأي رغوة بيضاء كالغيوم هذه؟ رانلي لم تدرِ ما تصنع بنفسها من الفرح.
قهقه أراد قائلاً.
“يبدو أنها راقت لكِ. ما دمتِ تشتهين مثلها، سأغرقها عليكِ حتى تشبعي.”
“حقاً؟”
“بالطبع. هذا أمر يسير. أستطيع أن أمنحك أي شيء تشائين. أهناك ما تريدينه؟”
كان يأمل أن تطلب منه إعانةً لأسرتها الفقيرة، أو أن تسعى لإسعاد إيفنيا. بل أفضل من ذلك… أن تتوسل إليه كي يمد يد العون لإيفنيا.
أليس من تذوّق طعم الرفاه ليتعلّق به؟
ولو ثارت من أجل إيفنيا، حتى تلك المرأة العنيدة ستلين.
مقلدًا هامبتون، جثا على ركبتيه أمامها مبتسمًا برفق.
“أستطيع أن أمنحك أي شيء تريدينه. لن يشكّل ذلك عناءً لي.”
راحت رانلي، وخدّاها منتفخان بالكعك، تحدّق فيه.
“لِمَ تُحسن إليَّ هكذا؟”
“كما قلتُ لكِ… الأمر يسير عليّ.”
تذبذبت عيناها بحيرة.
“حقًا…؟”
“نعم. قولي لي ما الذي ترغبين به.”
فتذكّرت رانلي كلمات إيفنيا.
‘الطيبة أجمل ما في الإنسان، لكن الدوق ما زال لا يُجيد إظهارها… غير أنه سمح لنا بالبقاء، فلا بد أن قلبه طيب.’
‘لكن لِمَ يُخالف قلبه بأفعاله؟’
‘الكبار يا ابنتي يخجلون أن يُظهروا ما في داخلهم.’
‘ولِمَ؟’
‘لأن الصدق يحتاج شجاعة، وكلما كبر الإنسان قلّت شجاعته.’
وأخذت تستعيد ما فعله أراد. لعله لم يكن يقسو على هارتلاند إلا ليخفي شيئاً آخر… ألعلّه، مثل شارلز صديق الحيّ، لم يجد طريقة ليُبدي رغبته في القرب إلا بالمشاكسة؟ ألم يصر شارلز بعد ذلك إلى أن يعتذر ويستقيم حين نُصح؟ وها هو أراد، بعد أن بدا قاسياً، قد تغيّر وجهه وأخذ يُحضر لها من الطيبات.
‘ماما قالت. لا بد أن نكون متسامحين…’
فأطرقت برأسها تفكّر، ثم هزّت رأسها بجدية. أجل، ستقبل دعوته.
“ذاك، إذن…”
تسلقت رانلي إلى الأريكة، مالت بجسدها نحوه، كأنها ستبوح بسر.
تردّد أراد، ثم أمال أذنه إليها. همست في أذنه بسرٍّ جعل وجهه يتغيّر.
“ماذا؟”
“ألستَ قلتَ إنك ستفعل أي شيء؟”
ابتسم بسخرية وقد حُشر في الزاوية، ثم أطلق زفرة وأمر خادمه بجلب ما طلبته. ولشدّ ما كانت ملامح الخادم شبيهة بملامحه قبل لحظات.
“أيمكنك أن تفعل هذا؟”
أراد هزّ كتفيه. “من يعلم.”
وما لبث أن جاء هامبتون بما طُلب. فانكبّ أراد ورانلي على الأمر، وقد غاصا فيه معاً. غير أنّ الجلبة في الخارج قطعت سكونهما.
انتفضت رانلي، أرهفت سمعها كالأرنب، وقالت.
“ماما؟”
لقد كان صوت إيفنيا يناديها بلهفة من الممر.
هبّ أراد واقفاً بعجلة، وكان بوسعه أن يأمر هامبتون بإدخالها، لكن فكرة أنّها جاءت إليه دفعته أن يتحرك بنفسه.
فتح الباب بوجهٍ يفيض توقاً، فإذا بشخص يندفع إلى صدره.
“كأنك فراشة لا تعرف إلا أن تُلقي بنفسها في النار.”
خفض بصره، فإذا هي إيفنيا، قد ارتمت بين ذراعيه. شعر بثقلها ودفئها، بخشونة ثوبها الصوفي الأسود السميك، وبعينيها الواسعتين تحدّقان فيه.
عينان زرقاوان كالزهور التي تتفتّح تحت القمر في ليلة صيف، أخيراً قد ثبتتا النظر إليه.
“…”
“…”
توقّف الزمن. لحظة قصيرة، بدت للآخرين تردداً عابراً، لكنها لهما كانت إحساساً غامراً عجيباً.
“أعـ… أعتذر.”
كانت إيفنيا أسرع إلى وعيها، فارتجفت ثم دفعت صدره بكياسةٍ، لكن بحزم.
غير أنّه، في لحظة خاطفة، شدّ ذراعيه، متمسكاً بها.
لماذا لم ينتبه من قبل إلى مدى سحر نظراتها؟
وكيف لصورته المرتسمة في عينيها أن تأسره هكذا، أي سحر هذا الذي لم يدركه من قبل؟
فنطق، وكأنه مسحور.
“إيفنيا.”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"