الفصل 98
تينيري إيفان.
كانت امرأة جميلة تشبه أمّها، لكنّها كانت دائمًا هادئة ومنطوية، فلم يُنتبه إليها.
عندما التقت بياتريس بالشّخصيّة التي أصبحت إمبراطورة، ظنّت أنّها نسخة طبق الأصل منها.
الأبرز أنّها كانت تخفي خوفها بابتسامة.
«تحيّة، جلالتك.»
لم يكن صعبًا تخمين أيّ قلق تحمله السيّدة المهذّبة.
ربّما ستخوض العواطف التي شعرت بها هي في صغرها.
علاوة على ذلك، لم تعش بسلام حتّى في بيتها.
«لا تقلقي… سأكون إلى جانبكِ لمساعدتكِ.»
عند نطق هذه الكلمات، انتابت بياتريس موجة من المشاعر.
يا ليت أحدًا قال لها هذه الكلمات حينها.
كم تمنّت لو كان لديها من يدعمها ويساعدها على الوقوف عندما لا تعرف ماذا تفعل.
نظرت إلى تينيري التي تبتسم دون أثر للضّيق، فشعرت بياتريس بقليل من الطّمع.
كانت تعلم أنّها خاطئة، وأنّه من القسوة والوقاحة أن ترغب في شيء، لكنّها لم ترغب في صنع شخص آخر مثلها.
ليس ثمّة حاجة للقول إنّ تينيري كانت تميل إلى الخطأ. لم يكن ذلك مفاجئًا، إذ كانت شديدة الملاحظة دون حتّى محاولة.
لم تغضب بياتريس منها أو تفقد صبرها أبدًا، لأنّ انعكاسها كان مألوفًا كالمرآة.
كانت تمدحها على كلّ شيء صغير تفعله كأنّها طفلة، وكلّما سمعت أنّ والدها لودفيغ إيفان قادم للزّيارة، كانت تؤجّل واجباتها وتذهب لرؤيته.
لم يخلُ الأمر من إحباط، لكنّها لم تستطع إلّا الشّعور بالفخر حين رأت المرأة التي كانت تخفض رأسها وتحدّق بها في كلّ مرّة ترفع رأسها.
كلّما حاولت فعل شيء، حتّى لو كان أخرق أو غير متوقّع، كانت تشعر بالسّعادة، كمشاهدة طفل يخطو خطواته الأولى.
لكن هل يمكن لقلب الإنسان أن يكون قبيحًا إلى هذا الحدّ، أم أنّها قباحة بياتريس وحدها؟
كانت بياتريس أحيانًا تكره تينيري التي تبتسم ببراءة دون أثر للأذى.
خاصّة حين تراها جنبًا إلى جنب مع ابنها.
«ظننتُ أنّ عليّ طلب إذن جلالته بشأن التّطريز، لكن يبدو أنّني أخطأتُ في الكلام، فقد عرض مساعدتي…»
في البداية، ظنّت أنّه مجرّد مزاح حين رأت ابنها يأتي إلى القصر ليوفي بوعده.
لكن مع رؤيته يأتي كلّ أسبوع، بدأت تشعر بعاطفة غريبة تنبعث داخلها.
مشاهدته يكافح لعقد العقد، ثمّ يستسلم أخيرًا ويخرج رافعًا يديه، ورؤية تينيري تضحك بهدوء.
لمَ يزعجها هذا المشهد السّلميّ إلى هذا الحدّ…؟
لأنّها تعلم غرض ابنها.
معاملة زوجته بحنان عظيم، البحث عنها في أيّام ليست خاصّة، تناول الطّعام معًا بلا سبب، التحدّث معًا…
كلّ ذلك محاولة لئلّا يكون مثل أبيه.
حتّى لا تكون تلك الشّخصيّة الشّبيهة بها تعيسة. حتّى لا تمرّ بما مرّت به هي.
حتّى لا يحتقرها أحد، حتّى لا تضطرّ للغضب من أحد، وتستطيع أن تعيش حياتها إمبراطورة رحيمة ولطيفة.
كلّما أدركت ذلك، تذكّرت بياتريس شبابها غير المكفّر عنه.
‘أكرهكِ. أكرهكِ لأنّكِ سليمة إلى هذا الحدّ، وأكرهكِ لأنّكِ تملكين بسهولة ما لم تملكه أنا في صغري.’
لو كان لديها زوج محبّ مثل هذا.
‘لو كان لديّ من يحميني من أن يحتقرني أحد، لكنتُ فعلتُ أفضل منكِ.’
‘أنا لستُ كبيرة بما يكفي لأصاب بالخرف.’
كلّما هدّد الحقد والحسد بالسّيطرة عليها، كان عليها أن تذكّر نفسها لتبقى عاقلة.
لا نتحوّل إلى بالغين قبيحين. لا نرتكب المزيد من الخطايا.
هذا الظّلم ليس خطأها، فلا نزيد كره النّاس. كرّرت ذلك لنفسها.
أحيانًا، حين تكتشف حنانًا لا يُنكر في تلك العينين تنظران إليها، لا تستطيع إلّا أن تفكّر.
‘لا، لستِ أنتِ؛ أنا من يكره. أنا من يكره لأنّني أحسد سعادتكِ، لأنّني لا أستطيع التّخلّص بسهولة من هذه الأفكار البغيضة.’
في الأيّام التي يصعب فيها كبح المشاعر السيّئة، تلجأ بياتريس حتمًا إلى العزاء.
تنظر إلى تمثال منحوت بوجه المتوفّى، وتتمتم لنفسها.
«كلّ ذلك بسببك.»
رغم علمها أنّ لا أحد سيجيبها، تكلّمت بياتريس بنبرة متذمّرة.
«أنتَ سبب امتلاكي قلبًا قبيحًا إلى هذا الحدّ.»
حيًّا كان أو ميتًا، جعلها تشعر بالوحدة.
الشّخص الّذي يجب أن تحقد عليه، الّذي كان يجب أن يبقى أطول ليُلام على حزنها، رحل مبكّرًا، تاركًا إيّاها تحمل الحقد تجاه شخص كابنة.
حتّى لو كان يحبّها، هل كان سيغيّر شيئًا؟
في النّهاية، رحل دون أن يسدّد شيئًا.
«في الحقيقة، كنتَ تكرهني أنتَ أيضًا، أليس كذلك؟ لهذا حاولتَ الرّحيل دون قول شيء.»
لا، ربّما كشف كلّ شيء ورحل لأنّه أراد تعذيبها.
ترك نفسه حرًّا، جاعلًا إيّاها تشتاق إليه أكثر.
لمَ تأتيها ذكريات لحظاته الأخيرة فقط، كأنّ الحزن السّابق لم يكن موجودًا؟
لمَ هو ظالم إلى هذا الحدّ أنّ العاطفة الوحيدة التي تركها لها هي الشّوق؟
كان يتصرّف كأحمق لنحو عشرين سنة، وكان يجب أن يسدّد لها.
لا، لم يكن متساويًا، لكن مع ذلك، لم ينظر إلى امرأة أخرى قطّ، فلو اعتمدت عليه بجدّيّة لسنة أو سنتين، ربّما كان ذلك كافيًا.
حينها، كما قال، كانت لتمسك يده، تتمشّى معه، وتسافر معه.
كان ليحثّ ابنه البالغ على اعتلاء العرش أسرع، وينخرطا في حبّ متأخّر.
تتساءل إن كان ذلك لأنّه رحل مبكّرًا جدًّا.
رحل دون أن يسدّد لها حزنها، ولهذا تملك قلبًا قبيحًا إلى هذا الحدّ.
‘إذًا ليس خطأي. كلّ ذلك خطأكَ.’
حتّى لو أجبرت حقدها، لم يستطع المتوفّى تقديم عذر واحد.
مع مرور الوقت، خفّ كلّ من الحقد والضّغينة، وملأ مكانهما الشّوق الّذي لم تستطع محوه.
تلومه وتحقد عليه على كلّ شيء، ثمّ تعتذر قائلة إنّها على الأقلّ جزئيًّا مذنبة.
ثمّ تبكي لنفسها وتتمتم أنّه لو كان طيّبًا لما فعلت ذلك.
وهكذا مرّت سنة، ثمّ اثنتان…
«الآن تؤدّين عظيمًا بدوني.»
اعتادت تينيري على واجباتها وأصبحت قادرة على إدارة المناسبات الإمبراطوريّة دون مساعدة بياتريس. بالنّسبة لمعلّمتها، كان تطوّرًا مفرحًا.
«ذلك بفضل كلّ ما علّمتِني إيّاه.»
لسبب ما، بدا صوتها الهادئ حلوًا جدًّا.
مع تلاشي الحسد غير المستحقّ، فكّرت: «ما أسعد أن تملك شخص مثلكِ ما لم أملكه أنا.»
وحين أدركت أنّها تستطيع التّدبير جيّدًا بدونها، شعرت بالرّاحة.
في تلك اللّحظة، فكّرت بياتريس فجأة.
آه.
‘الآن يمكنني أن أموت.’
‘يمكنني الذّهاب إليك بسلام.’
و.
* * *
انتهت مذكّرات بياتريس هناك.
حدّقت تينيري في الورق الفارغ مذهولة. رغم أنّها رأته بعينيها، لم تستطع تصديقه بسهولة.
«إذًا…»
غطّت تينيري وجهها وأخذت نفسًا عميقًا داخلًا وخارجًا.
‘كنتِ تنوين الموت منذ البداية…’
هل لهذا رفضتِ مساعدتي في تجهيز الرّحلة وجهّزتِ كلّ شيء بنفسكِ من البداية إلى النّهاية؟
لم تردي أن أتورّط في شبهات غير ضروريّة بعد موتكِ.
‘أتُرى هل يعلم جلالته.’
هل تقولين؟ سواء كان يعلم أم لا.
تتساءل إن كانت ستفتح جروحًا قديمة.
أم سيكون غير ضروريّ أن تتكلّمي عن شيء لا يعلمه فقط لتؤذيه؟
لكن وسط قلقها، لم تستطع تجاهل الواقع أمامها مباشرة.
كانت كلمات الدّوق سالفاتور صحيحة. يمكنه فعلًا أن يكون والد ليونارد.
«أمّي هي من حملتني وولدتني، فكيف لي أن أعلم من والدي؟»
أدركت ما كان يعنيه.
لم تدرك أنّه قال ذلك ليختبر ردّ فعلها ويرى إن كانت ستقبل.
«يجب أن تثق بها، جلالتك.»
لم تعرف تينيري تعبير وجهه حين بصقت ذلك، لا تعلم شيئًا.
أو كيف كان يجب أن يومئ وهو يتكلّم، غير مدرك.
«…ليون.»
تسرّب تنهّد محبط من بين يديها المغطّيتين لوجهها.
كان يجب ألا تقوله. كان يجب ألا تدع نفسها تنفعل بكلمات تطلب منها ألّا تهتمّ.
جلست تينيري مغطّية وجهها طويلًا. الشّفقة والحرج، الذّنب والنّدم.
كلّ تلك المشاعر المذهلة المختلطة كانت تشير إلى اتّجاه واحد.
يجب أن تذهب لرؤيته.
يجب أن تلتقيه فورًا.
جمعت تينيري المذكّرات والرّسائل بحذر وقامت.
عانقت الصّندوق المغلق بقوّة إلى صدرها.
التعليقات لهذا الفصل " 98"