«جعلتُكِ وحيدة طوال هذا الوقت، فما الضّير إن احتفظتِ بحيوان أليف من هذا النّوع لبعض الوقت؟»
«…»
«أعطاكِ ما لم أستطع إعطاءه لكِ. ربطتُكِ بي أنانيًّا، ولا أظنّكِ تفهمين ذلك.»
ثبّت هاينريش عينيه الزّرقاوتين الباردتين سابقًا على بياتريس. كانت ابتسامة على شفتيه، ابتسامة بدت ناعمة بشكل غريب، ربّما بسبب ترهّل العمر.
«لا تبكي، يا بياتريس. ليس خطأكِ. لم يبقَ لي وقت كثير؛ أرجوكِ، دعيني أراكِ تبتسمين.»
لم تجب بياتريس. لم تستطع قول شيء. ابيضّت شفتها السّفلى المشدودة بقوّة.
عندما رآها كذلك، فتح هاينريش فمه.
«اعتليتُ هذا المنصب بعد أن شققتُ حنجرة والديّ، خوفًا من أن أكرّر أخطاءهما.»
توقّف هاينريش وأخذ نفسًا عميقًا.
«كنتُ أخشى أن تبقي وحيدة وحدكِ بعد موتي، فدفعتُكِ بقسوة.»
في الثّامنة عشرة، دون أن يمرّ بمراسم البلوغ، قرّر. سيصلح أخطاء والده. سيعيد بناء الإمبراطوريّة التي دمّرها والده. أقسم أن يمنع تكرار مثل هذه المأساة.
أقسم مرّة تلو الأخرى.
لكنّه لم يكن يعلم متى سيفقد حياته في الحروب اللّانهائيّة، وزوجته الحبيبة كانت هشّة جدًّا.
«لن أعطيها الحبّ. حتّى إذا رحلتُ يومًا، تستطيع أن تعيش وحدَها.»
لتتمكّن من العيش في هذا القصر بدونه.
دفعها بعيدًا، مرّة تلو الأخرى.
«لو علمتُ أنّني سأعيش طويلًا إلى هذا الحدّ، لكنتُ أكثر حنانًا. لقلتُ «أحبّكِ» ولو مرّة واحدة.»
«…»
«…ظننتُ أنّ كلّ شيء سينتهي بعد هذه الحرب. ظننتُ أنّني حين أعود سأمسك يدكِ وأطلب العفو. كنتُ آمل أن نتمشّى معًا، نسافر معًا…»
صوته الذي خرج كان فيه ارتعاش الضّعيف . كان النّحيب الخافت لا يُصدَّق.
تجمّعت الدّموع في عينيه اللتين كانتا دائمًا تنظران إليها ببرود، وفرك ظهر يديها محاولًا مواساتها.
«أنا آسف.»
«…»
«كنتُ أخشى أن أكون مثل أبي، فأذيتُكِ طوال الوقت. كنتُ أخشى إن قلتُ لكِ إنّني أحبّكِ ثمّ تركتُكِ فجأة وسط الحرب أن ينكسر قلبكِ، فعاملتُكِ بقسوة. لم أدرك أنّه لن تكون لي فرصة لمواساتكِ أبدًا.»
تدفّقت الدّموع ببطء على خدّيها.
«أنا آسف، أنا آسف.» اختلط الصّوت الطّالب للعفو بالبكاء.
«كنتُ أحبّكِ، يا بياتريس.»
«…»
«أحببتُكِ منذ اليوم الّذي جئتِ فيه إليّ، وأحببتُكِ منذ ذلك الحين.»
حدّقت بياتريس به، عاجزة عن الكلام، صوته يبدو قادمًا من بعيد جدًّا.
فتحت فمها كأنّها تريد قول شيء، لكنّها أغلقته أخيرًا، لا تعرف ماذا تقول.
‘لمَ تقول إنّك تحبّني الآن وقد فات الأوان؟’
‘لم تمسك يدي حتّى حين كنتُ أشتاق إليها بشدّة، والآن تقول ذلك بعد أن تخلّيتُ عن كلّ شيء.’
ما هذا الشّعور بالضّغينة الّذي يتصاعد؟
تذكّرت نظرته إليها في اليوم الأوّل الّذي التقت فيه عيناهما.
«بعد أن جرحتني كثيرًا، من الظّلم أن تقول ذلك الآن.»
صمتت طويلًا، ثمّ بصقت الكلمات.
ما الفائدة من قول شيء كهذا بعد عشرين سنة وأنت على مشارف الموت؟
«الآن تدّعي أنّك أحببتني، والآن تتصرّف بكرم شديد. هل يمحو ذلك كلّ ما حدث في الماضي؟»
«…»
«كان بإمكانك أن تقول شيئًا ألطف؛ أنت تعلم كم كنتُ وحيدة و… خائفة وحدي في هذا القصر.»
الّذين كانوا مقرّبين أداروا لها ظهورهم، واضطرّت لمواجهة السّخرية والعداوة وحدها لأوّل مرّة في حياتها.
كان يجب أن يشجّعها أحد على الأقلّ، ولو بكلمة تشجيع.
أو يواسيها حين تبكي وحدها في غرفة نومها الفارغة.
لم تستطع بياتريس أن تغفر لهاينريش أبدًا.
كيف يمكن لتلك الكلمات أن تغطّي كلّ تلك السّنوات؟
حتّى لو تجاوز عن خيانتها طوال هذا الوقت، حتّى لو كان يحبّها منذ البداية، فما الفرق؟
كادت تبتلع الدّموع الصّاعدة. لم ترغب في أن تبدو متزلزلة.
لم ترغب حتّى في الأمل بذرّة غفران.
أرادت فقط أن تدفعه بعيدًا، كما فعل هو، مردّدة الألم عليه.
حتّى الدّموع بدت خاطئة وغير جديرة.
«بياتريس، أرجوكِ.»
غطّت يد مرتجفة خدّها. مسحت أطراف أصابعه الخشنة البلل من عينيها.
يجب أن تدفعها. لا يجب أن تقبله.
حتّى وهي تفكّر في ذلك، لم تستطع دفع يده.
هل لأنّها ظنّت أنّه سيموت قريبًا، أم لأنّها لا تزال تحتفظ بقليل من الحبّ له، الّذي ظنّت أنّه جفّ؟
«أرجوكِ لا تبكي. كلّ ذلك خطأي…»
«…»
«أرجوكِ، ابتسمي لي مرّة أخيرة فقط. ولو للحظة، مرّة واحدة…»
وصل صوته المتوسّل إلى أذنيها.
ماذا فعل جيّدًا ليطلب مثل هذا الطّلب؟
من تركني وحيدة طوال هذا الوقت، والآن…
لكن سواء كان ضعفها الفطريّ أو بقايا حبّ لا تزال لديها لهذا الرّجل المواجه للموت، لم تستطع إلّا الشّعور بالرّحمة.
حتّى المحكومون بالإعدام يُسمح لهم بسماع كلماتهم الأخيرة. ما الفرق في تلبية أمنية صغيرة قبل الموت؟
ارتفع طرفا شفتي بياتريس ببطء في عذر واهٍ.
هذا ليس حبًّا ولا غفرانًا، مجرّد رحمة ورأفة، قالت لنفسها.
لكن ماذا تفعل بـ رجل يبتسم لابتسامتها الضّعيفة كأنّها هديّة؟
«تبدين جميلة.»
رمش هاينريش بقوّة، كأنّه يحاول استيعاب كلّ تفصيل، وترك الدّموع تنزلق من عينيه.
«لمَ لا تزالين جميلة إلى هذا الحدّ، حتّى مع التقدّم في السّن…»
لمس هاينريش وجهها طويلًا.
مسح دموعها حين تجمّعت، وحين ارتفع طرفا فمها، كرّر المديح الّذي لم تسمعه من قبل مرّات ومرات.
لم يرفع عينيه عن بياتريس حتّى غلبه النّعاس، وأغمض عينيه.
عندما لم يعد هاينريش يفتح عينيه، نادت بياتريس ليونارد المنتظر.
رأى ليونارد عيني والده مغلقتين، فتصلّب وفتح الباب ليعلن موت الإمبراطور.
رافق التّتويج جنازة.
ألينا، الّتي كان من المفترض أن تُتوّج أميرة إلى جانب ليونارد، لم تظهر أبدًا.
وقف إيزاك فقط، الّذي عاد متأخّرًا، بوجه قاتم.
في تلك اللّيلة، زار ليونارد بياتريس. أراد أن يسأل عن حقيقة القصّة التي سمعها في النّهار.
ليونارد، الّذي كان دائمًا يشفق على أمّه الوحيدة، لم يستطع إخفاء ارتباكه عند كشفها.
«بعد أن تستقرّ الإمبراطورة الجديدة، سأعتزل في عزلة.»
دلكت بياتريس رأس ابنها. على الأقلّ، كانت مذنبة في عينيه.
لم يومئ ليونارد.
«أعطني بعض الوقت، يا أمّي.»
كان أمرًا صعب التّقبّل في الحال، فقال ليونارد ذلك وعاد إلى غرفته.
لم يغضب ولم يرفع صوته.
بعد أيّام قليلة، أمر ليونارد بإعادة فتح قصر الورد المغلق.
جُدّد القصر المهجور الّذي لم يُمس، وزرع البستانيّون وردًا في الحديقة.
«بعد انتهاء التّجديد، أقيمي في قصر الورد، يا أمّي.»
الابن الحنون الّذي لا يشبه والده لم يفكّر حتّى في معاقبة أمّه المذنبة.
صُعقت بياتريس من فكرة منحه إيّاها قصر الورد، رمز حبّ الإمبراطور لها، لكن ليونارد ضحك كعادته فقط.
«أنتِ تستحقّينه، يا أمّي. بما أنّني أمرتُ بتزيينه بجمال، يمكنكِ الإقامة فيه براحة.»
«جلالتك… أمّك…»
«سأتظاهر أنّني لم أسمع ما قلتِه ذلك اليوم.»
«…»
«لكن بما أنّنا لا يمكن أن نحصل على السيّدة سالفاتور كإمبراطورة، فالإمبراطورة الجديدة الّتي ستُختار لن تكون ماهرة في واجباتها كنبيلة. أرجوكِ اهتمي بإرشادها.»
إن كان هاينريش دائمًا بلا تعبير، فإنّ ليونارد كان شخصًا يخفي مشاعره خلف ابتسامة.
لم تستطع بياتريس توقّع ما يدور في ذهنه حين قرّر منحها قصر الورد بدل لومها أو انتقادها.
لكنّها لم تستطع استجماع الشّجاعة لإخراج المشاعر المخفيّة، فأومأت ببطء فقط.
بعد سنة من موت الإمبراطور، تكلّم ليونارد عن جلب إمبراطورة جديدة.
بعد صراع مع القرار لفترة، اختار إمبراطورة بسرعة غير متوقّعة.
عندما سُئل بحذر إن كان يجب أن يختار بحرص أكثر، أجاب ليونارد.
«ولمَ يهتمّ أحد؟»
كان لا يزال يبتسم، لكن كان واضحًا أنّ الأمر لا يهمّ طالما لم تكن ألينا سالفاتور. انحنت بياتريس برأسها كمذنبة.
بعد إرسال رسائل الخطبة بوقت قصير، أقام ليونارد حفل زفاف.
قيل إنّها ناولت الإمبراطور بنفسها منديلًا مطرّزًا، تمامًا كما فعلت بياتريس حين كانت لا تزال سيّدة نبيلة.
التعليقات لهذا الفصل " 97"