الفصل 94
توقّف بكاء الوصيفات في لحظة واحدة. حدّقن بالإمبراطور والإمبراطورة بعدم تصديق.
تردّدت بياتريس، ثمّ تكلّمت.
«أمرتُ وصيفتي بذلك، لكنّني لم أشعر بالرّاحة، فانتهى بي الأمر بفعله بنفسي.»
«إذا وقع في المستقبل أمر يحتاج قوّة، نادي الفرسان بدلًا من ذلك. سيكون من الصّعب مسك القلم إذا جرحتِ يدكِ.»
كان الصّوت لا يزال باردًا.
كان يقصد ألّا يعيق واجباتها كإمبراطورة.
لماذا شعرت بخيبة أمل مجدّدًا، كأنّها كانت تتوقّع شيئًا آخر منه، هو الّذي قلق على يدها؟
«الوصيفات في القصر تحت سلطة الإمبراطورة. لا تعودي إليّ في مثل هذه الأمور.»
أمر هاينريش الحاجب واستدار ليخرج من غرفة نوم الإمبراطورة.
«هل سيكفي هذا في المستقبل؟»
أوقفت سؤال بياتريس هاينريش في مكانه، فالتفت إليها بوجه خالٍ من الابتسامة.
«لمَ تسألين رأيي في إدارة وصيفاتكِ؟ تولّي الأمر بنفسكِ، لكن امتنعي عن قتلهنّ.»
«…»
«إذا رأيتِ من يستحقّ الموت، تعالي إليّ حينها. سأعيركِ سيفي.»
لم يكن الصّوت دافئًا البتّة. شهقت الوصيفات اللواتي كنّ يحبسن أنفاسهنّ شهقة حادّة.
كلامُه يعني أنّه لن يمانع لو شقّت حناجرهنّ جميعًا.
«ارحمنا… أنقذينا، يا إمبراطورة.»
انبطحت الوصيفات اللواتي كنّ ينظرن إلى الإمبراطور كخلاصهنّ على الأرض يتوسّلن.
خرج هاينريش من الغرفة وكأنّ الأمر لا يعنيه.
تغيّرت وصيفات الإمبراطورة.
طُردت الوصيفات السّابقات بعد جلد شديد دون ولو خطاب توصية واحد.
علاوة على ذلك، حُظر دخولهنّ القصر تمامًا، فلن يعملن كوصيفات مجدّدًا.
استراحت بياتريس في غرفتها يومًا بسبب إصابة يدها.
لم تستطع الرّاحة التّامّة لأنّ عليها اختيار وصيفات جدد، لكنّها لم تستطع محو شعور الرّاحة، كأنّ المريض قد شفي أخيرًا.
عندما خفّ ألم عضلاتها النّاتج عن قلب حوض ثقيل مرّات عديدة، توجهت بياتريس إلى مكتب هاينريش.
«هناك أشخاص في دائرتي يتصرّفون بنجاسة تجاهي.»
«…»
«هل ستساعدني، جلالتك؟ أم عليّ أن أتولّى الأمر بنفسي مجدّدًا هذه المرّة؟»
سأل هاينريش بنبرة لا تزال باردة.
«إذا قتلتِ أحدًا بالصّدفة، أخبريني حينها.»
يعني أنّه لن يتدخّل مهما فعلت.
لم تعد بياتريس تتحمّل من يحتقرونها.
سكبت الشّامبانيا عمدًا على وجه سيّدة كانت تسكب الخمر على فستانها مرّات، وأحرجت آخرين بتقديم فساتين لا تناسب المناسبة.
الرّجال الّذين اقتربوا منها راغبين في استمالة الإمبراطورة غير المحبوبة، رقصت معهم وداست على أقدامهم.
لم تعد تلك الفتاة التي كان والدها يحميها.
لم تعد تلك السيّدة التي كانوا يمدحون ابتسامتها اللّطيفة.
كلّما اصبحت قاسية، أدركت كم كان عبثًا أن تستمدّ لذّة منهم.
لم يستطع هاينريش مواساة بياتريس. لم يكن يهتمّ بها.
كان إيزاك دائمًا هو من يهدّئها.
«لأنّ الإمبراطورة طيّبة القلب، ومن لم يعرفوا ذلك كانوا أغبياء.»
«ليس لديّ ما أقدّمه لك مقابل وقوفك إلى جانبي، يا دوق.»
مزحت بياتريس، فاقترب إيزاك منها بهدوء.
كانت الغرفة صامتة بشكل مريب حين يكونان وحدهما.
«أمتأكّدة أنّه لا يوجد؟»
لمست يد إيزاك شفتيها بلطف.
اقترب ببطء، كأنّه يختبر حدود قبول بياتريس.
أيّامًا كانت أطراف أصابعه تلمس أصابعها، وأيّامًا يمسك يدها، ويومًا يشبك أصابعهما، وأيّامًا يلفّ ذراعه بلطف حول كتفيها أو خصرها.
كانت بياتريس تتوتر كلّما أرادها، لكنّها لم تكره ذلك.
على الأقلّ حين يكون معها، لم تكن وحيدة، وكان مطمئنًا أنّه يساندها.
في أوّل مرّة قبّلت فيها إيزاك في مكتبها، شعرت بياتريس أنّها تنتقم.
هناك من يريدها هكذا، حتّى لو لم يحبّها الإمبراطور.
‘إذًا لم أعد أريد حبّك.’
‘لو كنتَ أحببتني، لما حدث شيء من هذا.’
كرّرت بياتريس ذلك مرّات، كأنّها تحاول محو شعور الفراغ.
«أريد أن أمتلككِ وحدي، يا إمبراطورة، ولو مرّة واحدة…»
كان إيزاك بالضّبط ذلك الرّجل المتوسّل الّذي تحتاجه بياتريس لإشباعها.
كلّما نظر إليها بهذا الشّوق، فكّرت في هاينريش.
رجل لا يهتمّ بها البتّة.
رجل لا يبالي إن هاجمها أحد، ولا إن كانت قاسية مع أحد، ولا يبالي بأيّ شيء.
«لم أنجب وليّ العهد بعد، ولا أريد أن يعلم جلالته.»
«لمَ لا تأخذين بعض الحبوب؟»
«…»
«جلالتك، لا… بياتريس. أنتِ تعلمين قلبي.»
قال إيزاك وهو يدغدغ أذنها.
«أنا دائمًا إلى جانبكِ، فلمَ ترفضين كلّ مرّة.»
«هذا قصر إمبراطوريّ، يا دوق. هناك أعين وآذان النّاس في كلّ مكان، لذا حتّى أنجب ابنًا إمبراطوريًّا…»
«إذًا، إن لم يكن في القصر الإمبراطوريّ، فهو… جائز؟»
همس إيزاك كالأفعى. نظرت بياتريس في عينيه المتوقّعتين، ففكّرت في هاينريش مجدّدًا.
ربّما لن ينظر إليها هكذا في حياته أبدًا.
شعرت بتأثّر ما، فأومأت ببطء.
سرعان ما زارت بياتريس هاينريش.
كان هاينريش هناك، كالعادة، يمسك قلمًا وسط الأوراق المبعثرة. لم يرحّب ولم يطلب منها الجلوس.
نظرت بياتريس إليه دون تحيّة وقالت فجأة.
«أرجوك… خذ إجازة، ولو قليلًا.»
«إذا شعرتُ بالتّعب، سأستريح بنفسي. لا داعي لقلقكِ.»
قال هاينريش ذلك دون أن ينظر إلى بياتريس. كان حقًّا رجلًا لا يعرف كيف يتكلّم بلطف.
حدّقت بياتريس به، ثمّ فتحت فمها.
«… كنتُ أتلقّى مساعدة كثيرة من دوق سالفاتور مؤخّرًا.»
«أهكذا؟»
تس… تس.
رتب هاينريش الأوراق التي راجعها بدقّة. بدا غير مهتمّ.
لماذا ذكرت دوق وهي تعلم أنّ هذا سيحدث، كأنّها كانت تتوقّع ردّ فعل مختلفًا؟
«هل لديكِ شيء آخر تقولينه؟»
كان دعوة للرّحيل.
نعم، هو من عيّن إيزاك مديرًا لها.
عضّت بياتريس شفتها السّفلى بقوّة.
«أودّ أخذ إجازة.»
عندها رفع هاينريش نظره. لم تنظر بياتريس في عينيه.
«…لأنّني أريد الرّاحة قليلًا.»
كان أمرًا محرجًا قوله أمام من يعمل ليل نهار.
فكّرت بياتريس في سحب طلبها، لكن هاينريش أومأ.
«اذهبي.»
«…نعم؟»
صُعقت بياتريس من قبوله دون سؤال.
بينما تقف مذهولة، واصل هاينريش.
«لديّ فيلا على ضفاف بحيرة زابر في ضواحي العاصمة. ليست بعيدة، والمنظر جميل، والطّعام سيناسب ذوقكِ… يمكنكِ الرّاحة هناك بضعة أيّام.»
كيف عرف المنظر؟ كيف عرف ما يناسب ذوقها؟
بدت الكلمات الغريبة غريبة تمامًا.
لكنّهما لم يكونا حميمين بما يكفي لتعبّر عن دهشتها، فأومأت فقط.
سافرت بياتريس وحدها.
رحلة إلى بحيرة صغيرة في ضواحي العاصمة كانت كلّ ما تفكّر فيه، لكنّها كانت كافية لإثارتها، بعد أن قضت حياتها الزّوجيّة كلّها في القصر.
كانت الكوخ جميلة، تطلّ غرفة النّوم على البحيرة.
عندما تفتح النّوافذ، تبرد نسمة باردة الحرّ، وفي اللّيل تسمع صوت الجنادب.
لم يكن الطّعام متبلًا كثيرًا، ممّا يناسب ذوقها إذ لا تحبّ الحارّ.
كان موظّفو الكوخ مهذّبين كموظّفي قصر الدّوق.
قضت بياتريس معظم النّهار في غرفة نومها أو تتجوّل تحت الأشجار الخضراء مع فرسانها.
بدت السّكينة التي وجدتها ترخي توتر جسدها وعقلها.
كان إيزاك يزورها كلّ ليلة، يقيم قرب الكوخ ويطرق نافذتها في جوف اللّيل.
«بياتريس، حبيبتي…»
كان إيزاك يقبّلها، يهمس كلمات حبّ كان قد همسها لزوجته مرّات عديدة.
انتفضت بياتريس ودفعته.
«الدّواء؛ يجب أن تأخذه أوّلًا.»
«أخذته مسبقًا؛ لم أستطع الصّبر بعد رؤيتكِ.»
التفّ الصّوت اللّزج حول كاحلها، يلتفّ حول جسدها كالأفعى.
رنّت في أذنيها كلمات لم تسمعها من قبل.
كانت بياتريس متأكّدة أنّ زوجته سمعت الشّيء نفسه، لكنّها عانقته من عنقه على أيّ حال.
كان أوّل الصّيف، وكان الحرّ يزداد.
عادت بياتريس إلى القصر مرتدية فستانًا عالي الياقة يغطّي عنقها. كان إيزاك قد ترك علامته عليها.
‘رغم أنّني قلتُ له…’ ضحك الرّجل الّذي ترك علامات على عنقها وكتفيها في الصّيف بصوت عالٍ.
خبّأت بياتريس ضيقها وقلقها وذهبت إلى مكتبه. كان هاينريش جالسًا هناك، كالعادة.
«لقد عدتِ.»
«نعم، جلالتك.»
لم يسأل هاينريش أيّ سؤال عن الرّحلة القصيرة.
لم تشعر بياتريس برغبة في إيقافه والحديث عن هذا وذاك.
انحنت بأدب وكانت على وشك العودة إلى قصر الإمبراطورة.
«…بدأ الحرّ يشتدّ.»
عندها توقّفت بياتريس. التفتت فرأت هاينريش يحدّق بها.
«ترتدين ملابس طويلة.»
«…»
«هل أصابكِ برد؟»
خفق قلبها بعنف عند السّؤال. هل علم شيئًا؟ هل يحاول معرفة؟
فتحت بياتريس فمها بسرعة لتبرّر.
«حسنًا، جلالتك، إنّه…»
«استريحي في غرفتكِ حتّى تتحسّني، فلن تستطيعي أداء واجباتكِ إذا مرضتِ.»
بهذا، رفع هاينريش قلمه مجدّدًا. خرّ… خرّ، خدش رأس القلم الورق.
ابتلعت بياتريس ريقها.
«سأفعل.»
كاد قلب بياتريس يقفز من فمها من التّوقّع.
انحنت بياتريس مجدّدًا وهربت من المكتب.
غير مدركة أنّ نظر هاينريش تبعها.
التعليقات لهذا الفصل " 94"