«ليس لديّ وقت ولا فراغ لألهو بالحبّ. فلا تتوقّعي الحبّ منّي.»
كان صوتًا باردًا، لكن بياتريس اعتبرته لطفًا.
ربّما كان يخشى أن تشعر بالوحدة، إذ ستُبعده الحرب عن القصر كثيرًا.
«فهمتُ.»
ضغطت بياتريس على يد هاينريش وابتسمت مغمضةً عينيها.
«سأكون إمبراطورة صالحة، لأكون ذات نفع لك.»
لم يكن ثمّة إنكار للّمسة من التّكبّر في صوتها.
التّوقّع الطّفوليّ بأنّها قد تكون الوحيدة القادرة على مداواة جراح هذا الرّجل، والغرور بأنّها ستكون مختلفة عن الإمبراطورة الأمّ التي عرّضت البلاد للخطر بقبضتها على الصّولجان.
لكن هاينريش، كأنّه قرأ أفكارها، سحب يده.
«أنوي أن أمنح الشّمال لدوق ترافيل.»
بقي صوته باردًا. لم تفهم بياتريس معناه تمامًا.
«سأأمره بإدارته مباشرة.»
«جلالتك. هذا…»
بعد الزّواج الإمبراطوريّ، كثيرًا ما تُمنح أراضٍ للإمبراطورة أو للعائلة الإمبراطوريّة. وكانت تلك الأراضي غالبًا غنيّة بالموارد، أو تملك موانئ، أو على الأقلّ مناظر خلّابة. فلماذا الشّمال البارد القاحل؟
ألم يكن مكانًا هرب منه كثير من الملّاك بسبب طغيان السّيّد السّابق، فتحوّل إلى مناطق خارجة عن القانون تعجّ بالوحوش الضّالّة؟ والآن يريد والدها أن يديره مباشرة.
«أترسل والدي إلى… مثل هذا المكان؟»
«قرّرتُ فقط أنّ دوق ترافيل هو الرّجل المناسب لهذه المهمّة.»
«…»
«قلتِ إنّكِ ستكونين إمبراطورة صالحة، لكنّني لن أطلب منكِ التّدخّل في الشّؤون العامّة.»
بهذه الكلمات، التفتت بياتريس إلى هاينريش.
لمعَت عيناه الزّرقاوان ببرودة في الزنزانة المظلمة. كأنّ الحرارة فيهما كانت كذبة.
سألته بصوت مرتجف.
«لماذا طلبتَ يدي…؟»
حدّق هاينريش فيها كما فعل في اليوم السّابق. كان صوته باردًا كالرّيح العاصفة.
«ألستِ ابنة دوق ترافيل؟»
«…»
«اعتبرتُكِ الأنسب لمنصب الإمبراطورة.»
لن تكون بياتريس إمبراطورة كاملة.
لن يبحث هاينريش عنها إلّا في الأيّام المحدّدة، واضطرّت بياتريس لتعلّم واجباتها من ضبّاطه بدلًا من الإمبراطورة.
طبيعيًّا، أخطأت، لكن لم يكن هناك من يصحّح لها ولا من يواسيها.
إذا انحنت برأسها كالمذنبة، كان هاينريش يطلق تنهيدة قصيرة أو يصدر صوت استهجان.
لم يرفع صوته يومًا ولم يغضب، لكن ذلك كان يكفي ليغوص قلب بياتريس.
بياتريس التي نشأت كزهرة في دفيئة في قصر دوق، لم تواجه قطّ من يعاملها هكذا.
كانت دائمًا معتادة على اللّطف والحنان. من كان يجرؤ على معاملتها هكذا في معقل دوق ترافيل؟
لكن والدها الذي كان دائمًا يحميها رحل إلى الشّمال البارد، وهاينريش الذي أصبح زوجها لم يعد إلى جانبها.
لم يبقَ لها سوى الاعتماد على صديقاتها المقرّبات من أيّام الفتوة.
«لم يطلب يدي حبًّا. إن رآى وجهي خارج الواجبات الرّسميّة فذلك للضّرورة فقط.»
بعد أقلّ من شهر على زواجهما، غادر هاينريش إلى الحرب.
أفضت بياتريس بذلك إلى أقرب صديقاتها. صديقاتها اللواتي كنّ دائمًا حنونات، واسينها بوجه حزين.
«سيفهم جلالته بالتّأكيد مشاعر الإمبراطورة.»
«لمَ لا تطرّزين له هديّة؟»
شعرت بياتريس ببعض الرّاحة وهي ترى صديقاتها يمسحن دموعها ويعانقنها.
لم تكن تعلم أنّها ارتكبت خطأ فادحًا.
لم يمضِ وقت طويل حتّى انتشر خبر سوء معاملة الإمبراطور للإمبراطورة في كلّ الأوساط.
كان مصدره صديقات موثوقات.
بياتريس التي كانت دائمًا محطّ إعجاب، لم تدرك كمّ من النّاس يتمنّون لها الشّؤم.
في البداية، كانوا يغطّون أفواههم بالمراوح ويسألون عن علاقتها بالإمبراطور.
ثمّ صاروا يقاطعونها حين تتكلّم أو يغتابون علانية وهي تتكلّم.
ثمّ صاروا يدعونها إلى الحفلات ويتعمّدون تجاهل قواعد اللّباس، أو يسكبون الخمر على ثيابها، أو يتعمّدون استفزاز مرافقيها أو يثيرون الفوضى في الحفلات التي تستضيفها.
لم تكن الاجتماعات الرّسميّة مختلفة.
كانت الإمبراطورة في موقع تمثيل الإمبراطور في غيابه، لكن الوزراء تجاهلوها علانية وتحدّثوا بينهم.
إذا قدّمت اقتراحًا بسيطًا، سُئلت أوّلًا إن كان الإمبراطور قد وافق عليه، وبعضهم كان سريعًا في إهانتها مستشهدًا بأخطاء سابقة.
لم تتعلّم بياتريس يومًا كيفيّة مواجهة مثل هذه الأمور.
علّمها والدها، صمويل ترافيل، أنّه كلّما ارتفعتِ يجب أن تكوني أكثر رحمة.
لكنّه لم يعلّمها أنّ الرّحمة للأقوياء فقط.
ظلّت بياتريس لطيفة مع الجميع. حتّى مع من أهانوها.
ربّما ظنّت أنّه إذا كانت طيّبة بما يكفي، كما في الحكايات، فسوف تُكافأ يومًا ما.
أم كان ذلك غرورًا: الاعتقاد بأنّ طيبتها ليست إكسسوارًا يمكن خلعه حسب الظّرف؟
لم تدرك أنّ ضحكتها ولطفها سيُنظَر إليهما كجبن من الآخرين.
لم يقتصر الأمر على النّبلاء الذين بدأوا يتجاهلونها. بل بدأ خدّام القصر أيضًا يحتقرون الإمبراطورة العاجزة.
كانوا يدخلون غرفتها دون طرق ويفتحون النّوافذ للتّهوية، وصار الماء الذي يُحضرونه صباحًا أكثر برودة يومًا بعد يوم.
لم يكن نادرًا أن تفقد شوكة أو سكّينًا عند الطّعام، وعندما تطلب إعادتهما يتنهّدون أو حتّى يتذمّرون.
عند شراء الثّياب، كانوا يلمسونها علانية أو يحضرون مجوهرات لا تتناسب مع ملابسها عمدًا.
أهانتها نفس الأيدي التي من المفترض أن تساعدها على العيش.
دون أحد تلجأ إليه، بدأت بياتريس تفقد ابتسامتها تدريجيًّا.
ما كان يبقيها صامدة هو هاينريش البعيد في بلد آخر.
عندما يعود، سيعود كلّ شيء إلى طبيعته. سيساعدها.
قال لها لا تتوقّعي الحبّ، لكنّها الإمبراطورة. سيفعل ما يجب من أجل العائلة الإمبراطوريّة.
ذلك الاعتقاد وحده هو الذي كان يُبقيها.
عندما عاد هاينريش إلى القصر بعد عامين من حرب منتصرة، تعمّدت بياتريس أن ترتدي ببساطة لاستقباله.
تقلّبت وصيفاتها كأنّهنّ شعرن بنيّتها، وذلك وحده جعل بياتريس تشعر بسعادة كبيرة.
«تهانيّ على النّصر، جلالتك.»
انحنى هاينريش بأدب لكنّه لم يردّ.
كان قد نزل للتوّ من جواده العظيم وكان رثّ الثّياب من الحرب الطّويلة.
لكن لا شيء في جسده الرّثّ أو عينيه الدّاكنتين جعله أكثر رعبًا ممّا كان.
اجالت نظرته الباردة ببطء على بياتريس. شعرت بياتريس برضى غريب من انزعاجه.
«ما هذا الهيئة؟»
«…»
لم تجب بياتريس. حين لم تتكلّم، التفت هاينريش إلى وصيفاتها.
«لمَ هذه الحال للإمبراطورة؟»
«أعتذر، جلالتك. الإمبراطورة هي من اختارت هذه الثّياب بنفسها…»
«غيّروها.»
قال هاينريش وهو ينظر إلى بياتريس. لكن بياتريس هزّت رأسها.
«لا يمكنني التّبذير وأنا الإمبراطورة»، قالت، «خاصّة وأنت تقاتل من أجل الإمبراطوريّة.»
«ما ترتديه الإمبراطورة هو كرامة إمبراطوريّة. هل تقصدين أنّ هذه الكرامة الإمبراطوريّة تبدو في عينيكِ رثّة إلى هذا الحدّ؟»
رغم أنّ كلامه كان توبيخًا، شعرت بياتريس بالرّاحة لسماعه.
انتهى كلّ شيء الآن؛ على الأقلّ لن يحتقرها أحد طالما بقي في القصر.
انحنت برأسها مطمئنة.
«…سأستدعي المصمّم والخيّاطة غدًا.»
أومأ هاينريش ومرّ من جانبها.
لم يكن هناك ترحيب حارّ، ولا عناق أو قبلة حنونة، لكن بياتريس اكتفت بذلك.
بقي هاينريش في القصر لفترة.
كان لا يزال الرّجل الصريح الذي يبحث عنها فقط في أيّام اللّقاء الإلزاميّة، لكن الوصيفات غيّرن سلوكهنّ بسرعة حين أمر بتعديل ملابس الإمبراطورة.
حتّى نبلاء الأوساط صاروا أكثر تهذيبًا مع المرأة المرتدية بألوان زاهية.
لكن ذلك لم يدم طويلًا. ظلّ الإمبراطور محبوسًا في مكتبه ولم يلتفت إلى الإمبراطورة.
عاد الوصيفات إلى إهمالها، مركّزات جهدهنّ على تزيينها ولا شيء سوى ذلك.
مع مرور الوقت، صارت بياتريس أكثر قلقًا.
كانت تعلم ذلك. أنّ السّبب الوحيد لعدم وجود أعداء لها كفتاة كان والدها، دوق ترافيل.
وأنّ إمبراطورة بلا رضى الإمبراطور سيُحتقرها حتّى أهلها.
في يوم، حين عاد ماء الحمّام الصباحيّ باردًا كالثّلج مجدّدًا، ذهبت بياتريس إلى غرفة نومه في جوف اللّيل حاملةً منديلًا طرّزته بنفسها.
«ما الذي تريدينه؟»
«لديّ أمر عاجل أخبرك به.»
لم يتفاجأ هاينريش برؤيتها في الغرفة. لم يطلب حتّى من الخادم إحضار كوب شاي لها.
كان واضحًا أنّه يريدها أن تقول ما تريد وترحل، لكن بياتريس ابتلعت ريقها وقدّمت له ما أحضرته.
«صنعته لك، جلالتك.»
كان منديلًا مطرّزًا بزهور بلون عيني هاينريش، مربوطًا بزخرفة دانتيل محبوكة يدويًّا في زواياه.
كان عملًا من القلب، لكن هاينريش لم يأخذه.
«جلالتك…؟»
«ليس عمل الإمبراطورة أن تطرّز كـ كسولة.»
كان صوته باردًا كالعادة.
«إن كان لديكِ وقت، فمن الأفضل أن تقرئي كتابًا.»
التفت هاينريش كأنّه لا يريد سماع المزيد. أمسكت بياتريس بكمّه بسرعة.
ألم تكن قد قبلت حينها أنّ السّبب الوحيد لكونها إمبراطورة هو أنّها فعلًا ابنة دوق ترافيل؟
انخفض رأسها الذي كاد يبقى مرفوعًا في البؤس خائرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 91"