كان هناك ذات يوم إمبراطور لم يستطع رؤية دموع إمبراطورته.
فتح مخازنه للإمبراطورة التي بكت لأنّ شعبها كان يموت جوعًا في جفاف طويل.
ورغم أنّ الكثير من سكّان الإمبراطوريّة كانوا يعانون من الجفاف، فإنّ المخزن المفتوح على مصراعيه كان مخصّصًا لبلد الإمبراطورة الأمّ، مملكة جويل.
لم يذهب الإمبراطور إلى مكتبه أبدًا؛ كان يبقى هناك كلّ يوم كأنّ قصر الورد، الذي منحَه للإمبراطورة، هو بيته.
تُركت معظم شؤون الحكم لوليّ العهد الوحيد، وكان مشغولًا باللّعب بطيّات تنورة الإمبراطورة.
لا الإمبراطورة التي تسحر الإمبراطور بضحكها ودموعها كلّ يوم، ولا الإمبراطور الذي يلهو مع إمبراطورة ليست سوى بيدق من مملكة أجنبيّة، كان يُنظر إليهما بعين الرّضا من النّاس.
كان الرّعايا المخلصون قد أداروا ظهورهم منذ زمن، أمّا الرّعايا الخائنون فتملّقوا الإمبراطورة القادمة من بلد أجنبيّ.
وغزت مملكة جويل، التي كانت حليفة لأنّها وطن الإمبراطورة، إمبراطوريّة يوجينيا.
كان ذلك من تدبير الإمبراطورة؛ فقد أغوت الإمبراطور ليُسلّم أسرارًا عسكريّة لبلدها.
غطّى الإمبراطور عليها حتّى بعد أن اكتشف الأمر.
كان وليّ العهد هاينريش هو من أنهى تلك الوضعيّة المُذهلة.
هاينريش، الذي كان يدير الشّؤون منذ صغره، أعاد تنظيم الجيش في غياب والده.
وكانت أوّل خطوة له هي اقتحام قصر الورد وقطع رقاب والديه.
ثمّ سحق جيش المملكة ووضع تاج الإمبراطور على رأسه.
«يا للأسف.»
ضجّت الأوساط الرّاقية بخبر أنّ وليّ العهد، الذي لم يبلغ سنّ الرّشد بعد، قتل والديه وهو يبكي.
بعضهم قال إنّه شخص فاقد للأخلاق قتل والديه، وآخرون قالوا إنّهم يشفقون عليه لمشاعره بعد قتل والديه الحقيقيّين.
كانت بياتريس من الفريق الثّاني.
شعرت بحزن شديد تجاه هاينريش الذي اضطرّ لاختيار الخيانة من أجل الإمبراطوريّة.
كان ذلك أكثر لأنّها التقت به عدّة مرّات في الأوساط الاجتماعيّة، ومع أنّه كان صريحًا بعض الشّيء، إلّا أنّه لم يكن وقحًا.
ربّما لأنّ الإمبراطورة من بلد أجنبيّ، فمن المحتمل أن تُختار الإمبراطورة الجديدة من بين نبلاء الإمبراطوريّة.
كانت بياتريس في مفاوضات مع دوق شاب سالفاتور، لكنّهما لم يخطبا رسميًّا بعد.
علاوة على ذلك، بدا أنّ إيزاك سالفاتور، الابن الأكبر لدوق سالفاتور، يلتقي بابنة فيكونت.
«أعتقد أنّ سيّدتي هي الأنسب لمنصب الإمبراطورة… لكنّني أتمنّى ألّا تصبح سيّدتي إمبراطورة. إنّه أمر مخيف جدًّا.»
«لا تقولي ذلك. لو لم تتّخذ القرار، هل تعتقدين أنّنا كنّا لنعيش بهذا الرّاحة؟»
«صحيح.»
بدت الخادمة قلقة، لكن بياتريس وضعت تطريزها جانبًا للحظة وفكّرت فيه.
عينان زرقاوان عميقتان تحت شعر فضّي لامع ناعم.
كان طويلًا لدرجة أنّها كانت تضطرّ لرفع رأسها لتنظر إليه، رغم أنّه كان كبيرًا بالنّسبة لشاب في عمره.
«أتُرى هل يحبّ التّطريز؟»
ربّما لا توجد فتاة أكثر ملاءمة لمنصب الإمبراطورة منها، الابنة الوحيدة لدوق ترافيل.
لم تكن تريد بالضّرورة أن تصبح إمبراطورة، لكنّها لم تستطع إلّا أن تكون فضوليّة.
لم يمضِ وقت طويل حتّى التقت بهاينريش، الإمبراطور المتوّج حديثًا.
كان هاينريش لا يزال يرتدي تاجه الإمبراطوريّ، لكنّ وجهه كان أغمق بدرجة من ذي قبل.
لكن بياتريس ظنّت أنّه يشبه وحشًا صغيرًا جريحًا.
كان رجل يقف وحيدًا في قاعة رقص فاخرة، دون ابتسامة على وجهه.
كان هاينريش محاطًا بأشخاص يمدحون إنجازاته، لكنّ نظراته كانت باردة.
لم يُلقِ حتّى نظرة على من حوله، وكان يتفقّد المكان.
و بياتريس التي كانت تنظر إليه سرًّا، انتهى بها الأمر بملاقاة عينيها مع الجدار الأزرق البارد.
في تلك اللّحظة، خفقت قلبها كما لم يخفق من قبل.
لم يُبعد هاينريش نظره، فشعرت بأذنيها تحترقان تحت نظرته.
لم تعرف من أين استمدّت الشّجاعة لتكون جريئة إلى هذا الحدّ.
طلبت إذنًا من الشّباب الذين كانت تتحدّث إليهم واقتربت منه بحذر.
حالما اقتربت من الإمبراطور، تنحّى من كانوا يحيطون به فورًا.
«ما الأمر؟»
سأل هاينريش الذي كان يحدّق بها.
تردّدت بياتريس لحظة.
«تبادلنا النّظرات…»
«…»
«ظننتُ أنّني بعيدة جدًّا لتطلب منّي الرّقص…»
كان ذلك زمنًا خرجت فيه مشدّات عظام الحوت من الموضة، ولم تعد ربّات البيوت نادرة.
ومع ذلك، لم تتغيّر القاعدة غير المكتوبة بأن يطلب الرّجل من السيّدة الرّقص أوّلًا، لذا كنّ السيّدات اللواتي يعجبن بشخص ما يعبّرن عن مشاعرهنّ بهذه الطّريقة غالبًا.
أدركت بياتريس بعد أن تكلّمت أنّ كلّ الأنظار تتّجه نحوهما.
تساءلت إن كان سيرفض أو سيقول إنّه لم يقصد دعوتها للرّقص.
بينما كانت تشعر بالقلق، تقدّم نحوها بخطوات واسعة.
«لم أظنّ أنّ هناك من سيرغب في الرّقص مع قاتل.»
«لكنّك بطل أنقذ الإمبراطوريّة.»
أجابت بياتريس، فالتفت هاينريش لينظر إليها.
ثمّ أمسك يدها ببطء. كانت شفتاه ساخنتين على ظهر يدها.
بدأت الموسيقى، لكن هاينريش لم يتكلّم؛ لفّ يده حول خصرها وحرّك جسده فقط.
كان هو أوّل من طلب منها الرّقص، فظلّت بياتريس طوال الرّقصة عاجزة عن الكلام.
«لن يكون منصبًا مشرّفًا إلى هذا الحدّ.»
كان هاينريش أوّل من تكلّم.
«حتّى لو لم تصبحي إمبراطورة، فأنتِ لا تزالين دوقة من آل ترافيل.»
«…»
«أشكّ في أنّكِ من محبّي الرّجال الذين قتلوا والديهم.»
قال هاينريش كأنّه يمزح مزحة سيّئة. تردّدت بياتريس، ثمّ تكلّمت.
«لم يكن لجلالتك خيار في الأمر.»
«حسنًا، يقول النّاس إنّه كان يمكن أن ينتهي كمأساة.»
«…»
«ألستِ خائفة منّي؟»
ظنّت بياتريس أنّه بدا حزينًا ما عندما نطق بالكلمات الأخيرة، فهزّت رأسها بسرعة وأجابت.
«أتمنّى فقط أن أكون ذات فائدة صغيرة لجلالتك.»
أسكتت كلمات بياتريس هاينريش مجدّدًا، كأنّه يقيس صدقها.
عندما انتهت الأغنية، ناولته بياتريس منديلها على عجل وانصرفت.
تبعًا لها، اقتربت عدّة سيّدات شابّات أخريات من هاينريش بنفس الطّريقة.
طلب منهنّ الرّقص، تمامًا كما فعل مع بياتريس.
لكن بياتريس كانت تعلم أنّ عينيه كانتا تتبعانها طوال الوقت.
في تلك اللّيلة، عادت إلى قصر الدّوق ولم تستطع النّوم.
تذكّرت الوجه الذي لا يبتسم والصّوت البارد الصريح.
العينان الزّرقاوان اللّتان نظرتا إليها بدتا أكثر حزنًا من قسوة.
أرادت أن تعانقه وتواسيه.
«كان حنونًا.»
رغم مظهره، فإنّ اليد التي لفّت خصرها والإيماءة التي قادها بها كانتا لطيفتين جدًّا.
وماذا عن نظرته الموجّهة إليها أثناء الرّقص؟
كلّما فكّرت في تلك العينين، خفق قلبها بلا سيطرة.
بياتريس، التي اعتادت على الاختلاط بالنّاس الرّاقين، لم تواجه قطّ مثل هذه الشّدّة الخامّ في نظرة.
عاطفيّة، حارّة، مملوءة بالرّغبة…
ضمّت بياتريس خدّيها المحمّرين. لم يفارق وجهه ذهنها.
لم يمضِ وقت طويل حتّى وصل طلب زواج لـ دوق ترافيل.
عانقت بياتريس الدّوق وقفزت فرحًا.
بدا على الدّوق بعض القلق، لكنّه أومأ كأنّه كان يتوقّع ذلك.
أُعدّ الزّفاف بسرعة وبساطة.
لكن حفل تتويج هاينريش أُقيم أيضًا ببساطة؛ فلم يزعجها ذلك.
كانت سعيدة فقط لأنّها ليست الوحيدة التي تشعر بإثارة ذلك اليوم.
«لقد فعلته في القصر أيضًا.»
كان من المؤسف أن لا توجد إمبراطورة أمّ لتُعلّمها واجباتها، لكن بياتريس، التي كانت تدير البيت نيابة عن أمّها المريضة، لم ترَ في ذلك مشكلة كبيرة.
كانت ببساطة مليئة بالأمل.
كابنة وحيدة لدوق، كان بإمكان بياتريس أن تفعل ما تشاء، وكانت محبوبة من الجميع.
لكن تلك الإثارة والتّوقّع تحطّما بعد الزّفاف، عندما زارا الضّريح معًا.
لا يُسمح بدخول الضّريح إلّا لأفراد العائلة المالكة، أو من يأذنون لهم.
عادة ما يحدّد النّسل تصوير الأسلاف في الضّريح، وغالبًا ما يُصوَّر الوالدان في أكثر لحظاتهم فخرًا.
لكن تمثال الإمبراطور إدوين كان يُصوَّر وهو يعانق إمبراطورته خوفًا. كأنّما للسّخرية منه.
«أنا من طلبتُ أن يُصنع هكذا.»
نظر هاينريش إلى بياتريس التي بدت مرتبكة.
تفقّد الغرفة الكبيرة وبدأ يشرح معنى التمثال أمام الجرّة.
من الإمبراطور الأوّل الذي أعلن يوجينيا إمبراطوريّة، إلى الإمبراطور الغازي الذي جعل أكثر من نصف القارّة ملكًا له، إلى الرّجل الذي قيل إنّه حلّ الأميّة وأحيا الموسيقى والفنون.
توقّف أمام والديه.
كان الظّلام قد حلّ منذ زمن، وكانت هناك أجواء مريبة غريبة في الضّريح حيث تجمّع الموتى.
التعليقات لهذا الفصل " 90"