«فقط… قال لي ألّا أقلق كثيرًا بشأن الأمر، وقال إنّه لا يفكّر في إنجاب طفل ثانٍ.»
«لماذا؟ أنتما تبدوان متفاهمَين جدًّا!»
قالت ذلك وهي تضيّق عينيها نحو المرأة التي، قبل فترة ليست بعيدة، جلست في مقعد الإمبراطور جانبي.
عندما ابتسمت تينيري لها، سعلت لورا بخفّة كمن فوجئت.
«قال إنّه لا يريد أن يُعرضني لـ… الولادة مرّة أخرى، كان يخشى أن يكون ذلك ثقيلًا جدًّا على جسدي.»
«آه، إنّها مجرّد خصومة عاشقَين. لقد قلقتُ بلا داعٍ.»
ربتت لورا على صدرها مطمئنةً.
خصومة عاشقَين…
لم تكن بالضّبط مشكلة، لكنّها كانت مشكلة مع ذلك.
كانت تعرف أسباب استيائها الخاصّ.
أوّلًا، حقيقة أنّه يخفي عنها شيئًا ما، وثانيًا، الطّريقة التي يعامل بها ألينا سالفاتور بحنان.
كانت تُظهر وجهًا طيّبًا أمام لورا هيل وهي مربية ابنها، لكن كلّما طُرح موضوع ألينا، كان انتباهها ينجذب إليها.
«…بعد كلّ هذا الوقت.»
لا، لقد كانت دائمًا هكذا.
كانت تقارن نفسها بألينا سالفاتور باستمرار، تفكّر فيما كانت ستفعله هي في مثل هذه المواقف، لو قالت كذا، لو تصرّفت كذا، لو كانت… مثلها.
أليس هذا هو السّبب في قلقها الشّديد عندما سمعت أنّ ليونارد رفض مقابلتها و التقى بألينا؟
كانت تخشى أن يرفع ألينا إلى منصب الإمبراطورة ويتخلّص منها، تاركًا إيّاها بلا طفلها.
كان ذلك غيرة قبيحة، عقدة نقص، ومع أنّها أقسمت مرّات ومرات ألّا تؤمن بحبّه، إلّا أنّها بدأت تتوقّعه.
كان يأمل أنّه حتّى لو لم تثق به، فسيظلّ متمسّكًا بها، يثبت لها حبّه بلا أدنى شكّ.
«أظنّ أنّ ذلك في دمه.»
كان صوت لورا هو ما قطع شرودها. نظرت تينيري إليها كأنّها تسألها عمّا تعنيه.
«العائلة المالكة كانت دائمًا ثمينة، حتّى أولئك الّذين يفضّلون المحظيّات. ربّما امتنع الأجداد عمدًا عن إنجاب مزيد من الأمراء؟ خوفًا على سلامة الإمبراطورة…»
بالطّبع، لم تكن بياتريس وهاينريش على علاقة وثيقة، لكن ذكر الأجداد كان بالتّأكيد إشارة إلى إشاعة.
كانت ممتنّة لمحاولة لورا مواساتها بأيّ طريقة ممكنة.
«شكرًا لكِ، لورا.»
«على الرّحب.»
لم يحلّ ذلك شيئًا، لكنّه كان مطمئنًا أن تعرف أنّ هناك من يقف إلى جانبها.
طوت تينيري إطار التّطريز والإبرة.
«يا إلهي، صاحب السّمو، هل اختبأتَ مجدّدًا؟ لقد اختفيتَ فجأة.»
رفعت تينيري نظرها بسرعة عند صوت لورا. انبعث ضحك صاخب من أسفل طاولة الشّاي.
ضحكت تينيري ضحكة خفيفة عند رؤية القدمين والمؤخّرة تبرزان من تحت الطّاولة.
«جوش، أين أنت؟»
رفع الطّفل رأسه فجأة عند نداء أمّه.
«ماما!» صاح، ثمّ أخفى رأسه مجدّدًا.
اقتربت تينيري منه ودغدغت مؤخّرته.
«كيا.»
ضحك جوشوا وأطلّ برأسه.
عندما التقت عيناه بعيني أمّه، ركض هذه المرّة نحو السّرير. كان الطّفل صغيرًا بما يكفي ليختبئ تحت السّرير.
هرعت لورا إلى جانبها.
«لا، صاحب السّمو! هناك الكثير من الغبار تحت السّرير…»
رغم أنّ الخدم ينظّفون يوميًّا، فإنّ تحريك السّرير المثبّت بالعمود ومسح الأرضية كان مهمّة مستحيلة.
لكن جوشوا لم يبدُ أنّه يسمع كلام المربيّة ودفع رأسه تحت السّرير.
من الجيّد أنّه لم يزحف إلى الدّاخل كلّه.
«جوش، هيّا اخرج.»
«جيجي، جيجي.»
أمسكت تينيري والمربيّة به بسرعة، فرفع جوشوا رأسه مطيعًا.
نظر إلى تينيري بعينين واسعتين.
«ماما!»
«ماذا؟»
«هذا.»
أشارت يد صغيرة تشبه السّعفة إلى تحت السّرير.
«هذا، هذا.»
«ما الّذي هناك؟»
جلست تينيري على ركبتيها وانحنت بجذعها العلوي. تبعتها لورا ونظرت تحت السّرير.
رأت شيئًا يلمع في شقّ مظلم لا تصل إليه الإضاءة.
«ما الّذي هناك؟»
مدّت لورا يدها تحت السّرير. لامست أطراف أصابعها شيئًا صلبًا.
أوقفتها تينيري، ممسكةً الطّفل بقوّة.
«سأطلب من أحدهم إحضار عصا، لكن لا تمسكيه بيدكِ، تحسّبًا لأيّ شيء…»
«لا بأس، يا جلالة الإمبراطورة، إنّه مجرّد صندوق.»
مدّت لورا يدها تحت السّرير وكأنّ الأمر لا يعنيها.
ما أخرجته كان صندوقًا كبيرًا بلا مقبض.
كان قديمًا ومغطّى بالغبار، كأنّه تُرك دون عناية لوقت طويل.
«ما هذا؟»
«مو جي (ما هذا)؟»
قال جوشوا متابعًا تينيري.
بلّلت لورا منديلًا بالماء بسرعة ومسحت الغبار عن الصّندوق.
عانقت تينيري الطّفل بقوّة، لا تريد أن يلمس شيئًا قذرًا.
مع إزالة الغبار الرّمادي، ظهر صندوق مجوهرات فاخر مزيّن بحواف ذهبيّة.
أطلقت لورا صرخة خفيفة، ولوّح الطّفل بذراعيه كأنّه يريد لمسه.
«هذا…»
«هل يمكن أن يكون شيئًا يخصّ جلالتها؟ إنّه مقفل… هل هناك مفتاح؟»
نظرت لورا، التي كانت على وشك فتح الصّندوق، تحت السّرير مجدّدًا، كأنّها تبحث عن مفتاح.
في تلك اللّحظة، خطرت على بال تينيري فكرة.
«…انتظري لحظة.»
قفزت من السّرير وركضت إلى الجناح الملحق.
هناك، في درج المكتب، كان المفتاح الّذي وضعته بعيدًا منذ زمن بعيد.
«هل سيناسب؟»
فكّرت للحظة، لكنّ ذلك لم يكن مهمًّا حقًّا إن لم يناسب.
ربّما إذا أخبرت ليونارد، سيتمكّن من فتحه، حتّى لو بوسائل قسريّة بعض الشّيء.
لكن حالما أدخلت المفتاح في ثقب المفتاح، والطّلاء الذّهبي يتقشّر في بعض الأماكن، أدركت أنّ قلقها كان عبثًا.
كان يبدو متيبّسًا قليلًا، لكنّها دارته بقوّة وسمعت صوت حديد يُفتح.
«لقد فُتح.»
قالت لورا، وصوتها يبدو متوترًا قليلًا. كان جوشوا ينظر بفضول أيضًا.
فتحت تينيري صندوق المجوهرات بحذر.
في الدّاخل كانت عدّة دفاتر ذات غلاف صلب، وعدّة مظاريف رسائل، وصندوق مجوهرات صغير.
فتحت تينيري الدّفتر، مبتعدةً قليلًا عن أصابعها المدهونة بالمرهم.
كان هناك خطّ اليد المألوف المتآكل بالزّمن.
«لورا، أعطيني لحظة…»
«آه، نعم. سأكون بالخارج.»
رفعت المربيّة الذّكيّة جوشوا بين ذراعيها وقامت بسرعة.
قبّلت تينيري الطّفل في حضن المربيّة، ثمّ حملت الصّندوق وجلست على السّرير.
تسارع نبض قلبها عند التّفكير في العثور على أثر من ماضيها في هذا المكان.
«هنا كانت تحتفظ بمذكّرات…»
وضعت تينيري الدّفتر جانبًا ورفعت مظروف رسالة قديم.
لم يكن هناك اسم على المظروف. بعد تردّد، فتحته بحذر.
وكان بداخله…
إلى صاحبة حبّي، النّصف الآخر لروحي الحقيقيّة، بياتريس.
لم يمضِ سوى ثلاثة أيّام منذ رأيتكِ، لكنّني أجد صعوبة في كبح شوْقي، كأنّها مرّت سنوات.
«…ماذا؟»
تجمّدت يد تينيري عند رؤية الكتابة المائلة.
اجتاحت نظرتها المرتعشة النّصّ كأنّها لا تصدّق.
لماذا حتّى بعد أن تأكّدتُ من حبّكِ ذلك اليوم، لا زلتُ أظمأ إليه أكثر من أيّ وقت مضى؟
لماذا يسمح هو لامرأة جميلة ومحبّة مثلكِ بالرّحيل؟
سَمّيني أنانيًّا، لكنّني أشكره لأنّه لم يرَكِ على حقيقتكِ.
لأنّه لولا أن ترككِ في وحدة مريعة كهذه، ما كنتِ لتنظري إلى شخص مثلي أصلًا.
رغم أنّها تساءلت إن كانت قد قرأت خطأ، فمهما قرأت مرّات، بقي المحتوى نفسه. خفقت قلبها بعنف.
مستحيل. مستحيل…
«لا يمكن.»
أنكرت تينيري. لكنّ الرّسالة أمامها كانت تنادي بوضوح اسم الإمبراطورة.
«لا أصدّق تلك الإشاعة…»
كان افتراضًا لا تريد حتّى التّفكير فيه، لكن إن كان صحيحًا، فلا يمكن إنكار أنّ الإشاعات كانت على صواب.
قبل أن تختفي، كانت ألينا غاضبة من والدها.
الكلمات المقزّزة التي تركتها خلفها.
إن كان ليونارد فعلًا من دم دوق سالفاتور، واستخدم دوق ذلك ليرسله إلى…
«أنا نتيجة معاملة والدي لأمّي وجدّي.»
ارتفع الصّوت الّذي دفنته في ذاكرتها.
ربّما، ربّما، هذا ما كان يعنيه بتلك الكلمات في منزل الدّوق في ترافيل.
الفكرة التي تظهر مرّة لا تتلاشى بسهولة.
سيفسّر ذلك لماذا قالت خطيبة ليونارد، ألينا، إنّها لا تنوي أن تصبح إمبراطورة، ولماذا اقتربت من ليونارد دون أن تدرك، ولماذا تردّد ليونارد في احتجاز دوق، ولماذا يحاول إخفاء شيء عنها.
«لا يمكن أن تكون هي قد فعلت ذلك…»
حتّى لو كان صحيحًا بالنّسبة للآخرين، فكان من غير المعقول بالنّسبة للإمبراطورة.
عندما سُئلت إن كانت تحبّ الإمبراطور، أومأت بدموع.
التي كانت تزور قبر زوجها كلّ يوم وتضع الزّهور ولا تستطيع إخفاء كم تشتاق إليه.
وضعت تينيري الرّسالة جانبًا ورفعت الدّفتر مجدّدًا. لا زال هناك بصيص أمل في قلبها.
«ربّما هو مجرّد حبّ من طرف دوق فقط. وهم أو شيء من هذا القبيل. حتّى لو أصبح فعلًا عشيق الإمبراطورة، فما إذا حدث ذلك قبل الولادة أو بعدها غير معروف.»
ربّما هناك دليل صغير هنا ينفي ادعاءات دوق.
فتحت تينيري الدّفتر بسرعة، والصّفحة الأولى كانت مكتوبة بخطّ مائل كبير وخشن، كأنّها كانت تكتب مذكّراتها منذ صغرها.
التعليقات لهذا الفصل " 89"