الفصل 82
عندما عادتا إلى قصر الورد، كانت لورا تقرأ كتابًا في غرفة الدراسة.
كانت تتوقّع أن تكون تأخذ قيلولة، فبدت متعجّبة قليلًا.
«لورا؟»
«آه، جلالتك.»
نادتنها بهدوء، فقفزت من مكانها وانحنت.
جالت عينا تينيري على المكتب في الغرفة.
«يبدو أنّكِ تحبّين القراءة.»
«حسنًا، ليس كثيرًا، لكن……»
تلعثمت لورا.
«أنا مربيّة صاحب السموّ، فظننتُ أنّ من الجيّد أن أتعلّم شيئًا ما قليلًا……»
كانت كلماتها غير متوقّعة.
الكتاب الذي تقرأه لم يكن مكتوبًا بإيجاز فحسب، بل كانت الهوامش تشغل نصف الصفحة.
بجانبه كتب عن نظريّات التطوّر وقاموس لغة القارّة الشماليّة.
انبهرت تينيري أكثر من قليل بهذا المشهد غير المتوقّع.
«أنتِ من اختارتني لأكون مربيّة الأمير، في النهاية…… لا ينبغي أن تندمي.»
«شكرًا لكِ، لورا.»
احمرّ خدّا لورا خجلًا.
لوّح جوشوا بيده نحوها وقال «ماما، ماما، ماما» بنطقٍ أخرق.
هدّأته تينيري.
«شش، جوش. الماما تعمل بجدّ الآن، فلم لا نذهب إلى غرفتك ونلعب؟»
«لا، إنّه عملي.»
نهضت لورا بسرعة وحملت جوشوا، ثمّ ألقت نظرة على تينيري.
«للإمبراطورة…… موعد مع جلالته لاحقًا.»
«إنّه فقط يُريني القصر.»
«حسنًا، هذا موعد إذًا. سأعتني بوليّ العهد جيّدًا، فلا تهتمّي كثيرًا بالشائعات الغريبة.»
«شائعات غريبة؟»
عبست تينيري جبينها قليلًا.
رفعت لورا التي كانت تغلق كتابها رأسها متعجّبة.
«ألا تعلمين…؟»
«هل هناك شائعات سيّئة تدور عن الأمير؟»
سألت مجدّدًا، فنظرت لورا بعيدًا بسرعة.
«لا، ليس عن وليّ العهد، بل عن… جلالة الإمبراطور. لا، هل يجب أن أقول عن جلالة الإمبراطورة الأم……»
«أخبريني أكثر.»
تردّدت لورا لحظة، ثمّ بدأت ببطء تسرد الحديث الذي سمعتْه في المكتبة.
صُعقت تينيري عندما سمعت شائعة كهذه تقول إنّ الإمبراطور ليس ابن الإمبراطور الراحل، وإنّ الرجل الذي يدّعي أنّه والده ليس سوى دوق سالفاتور.
«كيف يجرؤ أحد على قول مثل هذا؟»
«هنري وينشستر، شالمون تايلور، أدريان فوربس، حفظتُهم جميعًا.»
بالطبع قالت إنّها ستسكت حيالهم، لكن لورا لم تهتمّ بوعد تافه كهذا.
من طلب منك أن تتجوّل تتكلّم هراء كهذا؟
«لا أظنّ أنّني سأقول المزيد لأنّني حُذّرتُ من الحديث، لكن يبدو أنّ دوق سالفاتور صاح أثناء احتجازه، فلهذا تنتشر الشائعة في أنحاء… العاصمة.»
«مثل هذا……»
توقّفت تينيري عن الكلام.
ربّما لهذا قالت ألينا إنّها لا تنوي أن تصبح إمبراطورة، ولهذا كان الوصيفات يتصرّفن بغرابة قليلة.
لهذا بدا ليونارد وكأنّه يخفي شيئًا.
لكن الأفكار المتشابكة لم تدم طويلًا.
كان ذلك بسبب إيمانها بأنّ بياتريس لم تكن لتفعل ذلك.
كانت شخصًا أحبّت الإمبراطور الذي عاملها ببرود.
شخصًا كانت تزور المعبد الإمبراطوريّ كلّ يوم، تنظّف المِحراب والمزهريّة وتضع زهورًا جديدة.
كانت من هزّت رأسها بدموع عندما سُئلت إن كانت تحبّه.
شخص كهذا لم يكن ليحبّ أحدًا غير الإمبراطور.
علاوة على ذلك، لو كان ذلك صحيحًا، لما خطبت ليونارد لـ ألينا من الأساس.
«… لا بدّ أنّ دوق يلجأ إلى حيل لكسب الوقت لأنّه محاصر.»
خلصت تينيري.
دوق سالفاتور يمارس حيلة قذرة لأنّه يخاف أن يُعدم بتهمة الخيانة العظمى.
إذا استعجل إعدام الرجل الذي يدّعي أنّه والد الإمبراطور، سيثير الشكوك، ولن يستطيع تنفيذ الحكم حتّى يثبت أنّ قصّته كاذبة.
‘لكن لماذا لم يقل لي شيئًا……’
إذا قال دوق شيئًا كهذا عند احتجازه وانتشر الخبر في العاصمة، فلا سبيل ألّا يكون قد أُبلغ ليونارد.
لكن لماذا عرفت هي ذلك الآن فقط؟
«أظنّ أنّ الإمبراطور لم يخبركِ لأنّه لم يرد…… أن يقلقكِ.»
رأت تعبيرها القاتم، فتكلّمت لورا بحذر.
«تعلمين كم يهتمّ جلالته بكِ، يا إمبراطورة، وأنتِ في القصر منذ يوم واحد فقط، وقد لا تستطيعين الراحة لو علمتِ أنّ شائعات كهذه تدور……»
«… فهمت.»
حاولت تينيري كبح استيائها.
لم يكن ممتعًا أن تسمع هذه الأمور من غيره، لكن ربّما كان لديه سبب لعدم إخبارها.
قد يكون اعتبارًا.
بما أنّ ذلك حدث في سياق اعتقال دوق بتهمة الخيانة العظمى، ربّما تعمّد عدم إخبارها خوفًا من شعورها بذنب غير ضروريّ.
أو ربّما لم يجد الوقت المناسب لإخبارها بعد…… وكان يخطّط لفعل ذلك اليوم، عندما يتجوّلان في القصر معًا.
«مجرّد شائعة ستموت قريبًا، لا تقلقي كثيرًا.»
لم يكن واضحًا إن كانت تلك الكلمات موجّهة للورا أم لتينيري نفسها.
هزّت لورا رأسها موافقة، وتحرّك الطفل كأنّه يحاول رفع كتاب ثقيل.
* * *
لم يمضِ وقت طويل بعد الغداء حتّى وجد ليونارد طريقه إلى قصر الورد.
بدَا متحمّسًا قليلًا.
«هل تشعرين بتحسّن؟»
«نعم، جلالتك.»
كانت في اضطراب عاطفيّ واضح، لكنّها لم تستطع إلّا أن تتذكّر الليلة الماضية.
احمرّ خدّا تينيري قليلًا بخجل متجدّد.
«الليلة الماضية… لا بدّ أنّني بدوتُ بشعة جدًّا.»
«لا، لم أدرك أنّني انفعلتُ قليلًا.»
ابتسم ليونارد ومدّ يده.
وضعت تينيري يدها عليها بحذر.
لم يبدُ كرجل يعاني من شائعات سيّئة، رغم أنّها درست ملامحه سرًّا.
سواء كان لا يهتمّ حقًّا أم يتظاهر بالبقاء بخير، لم تستطع معرفة ذلك.
بعد زيارة قصيرة لغرفة إريك، تجوّل الاثنان في القصر.
قاعات الاستقبال والمراسم، والصالات، والمسارح لعروض الأوبرا وقاعات المجلس للاجتماعات السياسيّة، والإسطبلات وأراضي الصيد، والمكاتب للموظّفين الإداريّين، ومساكن القصر الرئيسيّ وغرف الاستقبال للإمبراطور والإمبراطورة.
بدَا القصر كما كان قبل أن تغادر تينيري: الأبراج الزرقاء الرماديّة الشاهقة، والألواح على الجدران.
«…… لم يتغيّر شيء.»
كان الأمر مفاجئًا تقريبًا كم بقي دون تغيير، إلى درجة أنّه بدا غريبًا أن يُرشدا مجدّدًا.
هزّ ليونارد رأسه وضغط على يدها.
«شعر القصر بالوحدة بدونكِ. التجوّل معًا هكذا شعور جميل.»
«……»
«هل تتذكّرين أنّنا صادفنا بعضنا هنا للحظة في اليوم التالي لمجيئكِ إلى القصر؟»
توقّف ليونارد في الرواق وفتح فمه ليتكلّم.
نظرت تينيري حول المنظر المألوف وابتسمت ابتسامة خفيفة.
«اليوم الذي طلب فيه جلالتك أن نُطرّز معًا؟»
«اليوم الذي حاولتِ فيه الحصول على إذن للتطريز مع أمّي.»
في اليوم التالي للزفاف، كان يعود إلى مكتبه بعد اجتماع.
تذكّرت تينيري ان تسير نحوه بتعبير متحمّس .
سُرّ لرؤيتها تبدو أكثر استرخاء، فكلّمها، وتساءل إن كانت غير مرتاحة عندما أخبرته أنّها جاءت لرؤية أمّه.
«وكم تفاجأ والدي عندما أخبرته أنّ الإمبراطور قرّر التطريز معي.»
«……»
«أنا أيضًا…… في الحقيقة لم أتوقّع أن تأتي.»
«ذلك لأنّ مهاراتي في التطريز سيّئة، لكنّني رجل كلمته كلمة.»
مزح، فانزلقت منها ضحكة صغيرة.
ضغط ليونارد على يدها بخفّة.
«…… أتمنّى لو كنّا تجوّلنا في القصر معًا حينها.»
«……»
«أتمنّى لو كنّا مشينا وتحدّثنا معًا هكذا.»
كان صوته ثقيلًا بالندم.
لم تجب تينيري.
«هناك الكثير ممّا أخطأتُ فيه تجاهكِ.»
بدت صراحة صوته وابتسامته المريرة صادقة.
لكن هكذا كان يتصرّف عندما همس بحبّ كاذب.
مهما كان حلوًا، ومهما همس بكلمات حلوة، كان قادرًا على ذلك دون حبّ.
كلّما هزّ الصوت الحلو قلبها، عادت إليها أحداث الماضي.
الصوت البارد الذي يقول إنّه فقط لأخذ وليّ العهد، والألم الذي تبع كلّ كلمة.
«ليس لديك ما تعتذر عنه، جلالتك، لقد عاملتني دائمًا جيّدًا.»
تكلّمت تينيري كأنّه لا شيء.
لا ينبغي أن تتوقّع شيئًا.
لا حاجة لتوقّع حبّه، فقط أن تسلك الخطّ كما اعتادت.
‘إذا أخبرني بشيء، أستمع، وإذا لم يخبرني بشيء، أتظاهر بأنّني لا أعلم.’
«تينيري.»
ناداها ليونارد باسمها، فرفعت نظرها إليه.
بينما تنتظر أن يتكلّم، أدركت أنّهما أمام غرفة نوم الإمبراطورة.
«…… هل ندخل؟»
هزّت تينيري رأسها ببطء، ففتح ليونارد الباب.
من الباب المفتوح، رأت أثاثًا وفراشًا مألوفًا.
مظلّة مزخرفة مطرّزة بخيوط ذهبيّة، سرير كبير، نافذة كبيرة بأعلى مستدير، أريكة طويلة بما يكفي للتمدّد عليها، وطاولة شاي من خشب الماهوغاني.
دخلت تينيري الغرفة ببطء.
استقبلها هواء مألوف.
لم تتغيّر الغرفة خلال العامين اللذين غابت فيهما.
«هذه الغرفة التي ستستخدمينها بعد المراسم.»
حينها لاحظت الكيس العطريّ عند أسفل السرير.
جلست تينيري على السرير والتقطته.
صرّت الأعشاب المجفّفة داخل القماش المطرّز.
تشنّجت لفكرة أن تترك شيئًا كهذا.
«لم ترمِ شيئًا.»
«لأنّني أردتُ أن تعودي.»
التعليقات لهذا الفصل " 82"