13
في الأيّام التالية، وُضعت ليديا والماركيز إستوبان على حدود بين الفتور والتردّد.
لم يتغيّر روتين فحص حالة اللعنة يوميًا والتأكّد من منع تفاقمها.
لكن الماركيز كان يخصّص وقتًا قصيرًا فقط، ثمّ يغيب طوال اليوم خارج القصر، أو يبقى منعزلًا في مكتبه إن كان موجودًا.
تردّدت ليديا مرارًا في طرق باب مكتبه، لكنّها، بسبب ضيقها الخاصّ، تخلّت عن الفكرة أخيرًا.
‘هل كان ذلك سببًا يستحقّ غضبه منّي إلى هذا الحدّ؟’
بالتفكير في الأمر، لم تجد أنّها ارتكبت خطأً كبيرًا، ممّا زاد من حيرتها.
كلّما استعادت الموقف، لم تبدُ كلماتها تجاوزًا يستحقّ ردّ فعله الحادّ. فلمَ كان عليه الردّ بنبرة عصبيّة كهذه؟
شعرت ليديا بالضيق، وأحسّت بالملل من البقاء محبوسة في غرفتها، فجابت القصر بلا هدف.
“الجوّ جميل جدًا…”
أسندت ليديا ذقنها إلى الدرابزين، ونظرت إلى حديقة عائلة إستوبان المزيّنة بجمال خياليّ.
كان مشهد الورود الحمراء المتفتّحة ببهاء يبعث على السكينة.
حملت الريح أصوات محادثات خافتة لأشخاص يشذّبون الأغصان ويرتّبون الأشكال من بعيد.
‘لم أرهم من قبل، هل استدعوا المزيد من الأشخاص؟’
كان عدد الخدم في هذا القصر قليلًا بشكل غريب مقارنة بحجمه. لذا، كانوا يستعينون بأيدٍ خارجيّة لصيانته أحيانًا.
يبدو أنّ إعادة تهيئة الحديقة للزفاف القريب كانت فوق طاقة البستانيّ الوحيد، فاستُدعي المزيد اليوم.
رغم ضجّة تحضيرات الزفاف، لم تكن منطقة ليديا مكانًا يدخله العاملون الخارجيّون.
كان الهدوء يعمّ محيطها بشكل يثير الشعور بالوحدة.
شعرت ليديا بالملل من المشهد الرتيب، فواصلت تجوالها بلا هدف.
ثمّ رأت من بعيد، في نهاية الممرّ، خادومًا يصعدون سلمًا لإنزال إطار ضخم.
‘ذلك الإطار…’
كان يبدو كاللوحة المغطّاة بقماش أبيض في نهاية الممرّ، والتي لم تكن تعرف ما بداخلها.
لكن اليوم، وبينما كانوا ينقلونها، كُشف القماش، وأظهرت صورة عائليّة على ما يبدو.
دفعها الفضول لمعرفة تفاصيل اللوحة إلى توجيه خطواتها نحوها تلقائيًا.
“انتبهوا أثناء النقل. لا تفعلوا ذلك هكذا… آه، الآنسة ليديا. هل تحتاجين شيئًا؟”
التفت إليها الخادم الرئيسيّ، فريدريك، الذي كان يوبّخ الخدم بنبرة صارمة أمام الإطار، بعد أن شعر بوجودها.
“لا. كنتُ أتمشّى فقط. هذه اللوحة…”
كانت عينا ليديا معلّقتين على اللوحة طوال الوقت وهي تقترب.
برزت أوّلًا فتاة شقراء طويلة تجلس بأناقة، رجلاها متقاطعتان، تبدو واثقة ومفعمة بالكاريزما.
بجانبها وقف شابّ يبدو أقرب إلى صبيّ، ربّما إليان في صغره.
“من هذا الشخص؟”
كانت الفتاة الشقراء المتعجرفة تشبه إليان كثيرًا، فأدركت ليديا أنّها كاترينا، أخت إليان التي أصبحت الآن الكونتيسة رودريغو.
لكن من كان ذلك الصبيّ الهشّ الواقف بقرب إليان؟ لم يشبه أيًا منهما، ولون شعره كان أقرب إلى البنيّ الفاتح بدلًا من الأشقر.
“هذا السيد إيدان الراحل.”
“السيد إيدان؟”
نظر فريدريك إلى الإطار وهو يُنزَل بأمان، ثمّ واصل بعد لحظة:
“كان هناك حادث مؤسف سابقًا. بعده، تغيّر جوّ عائلة الماركيز، وأهمّ من ذلك، تغيّر سيّدي كثيرًا.”
لم يكن من السهل قياس عمق الحزن والأسى في عيني الخادم العجوز وهو ينظر إليها.
أعادت ليديا بصرها إلى اللوحة.
كان إليان في الصورة أكثر استرخاءً من الآن.
كان يضع يده بخفّة على كتف الصبيّ المسمّى إيدان، وهناك ألفة غريبة تحوم حوله.
“لم أكن أعرف على الإطلاق.”
“… من الطبيعيّ أن لا تعرفي. سيّدي يكره ذكر السيد إيدان بشدّة. منذ وفاته، لم يذكره أمامي مباشرة ولو مرّة، سوى أمر تغطية هذه اللوحة.”
“لمَ ينقلونها فجأة الآن؟”
“مع زيارة الضيوف بأعداد كبيرة قريبًا، لم يعد بإمكاننا إبقاؤها مغطّاة هكذا، لذا ننقلها إلى غرفة خالية.”
غطّى الخدم الإطار بعناية بالقماش مجدّدًا، فاختفت اللوحة نهائيًا.
نظر فريدريك إلى الفراغ الذي تركه الإطار، وقال بهدوء لليديا المستغرقة في أفكارها:
“أعرف أنّ سيّدي، الذي خدمته طويلًا كصبيّ ثمّ كماركيز، يرفع أحيانًا جدرانًا ويصدّ الناس بطريقة لا تُفهم.”
“… ماذا؟”
“لا أنوي الدفاع عنه أو تقديم الأعذار. فقط، قرار سيّدي بإبقاء شخص ما بجانبه أمر مفرح جدًا، وأتمنّى منكِ، الآنسة ليديا، أن تتسامحي معه.”
لم تستطع ليديا الردّ بسهولة، حيّرتها كلماته.
كان واضحًا مدى أهميّة إليان لفريدريك، لدرجة أنّه يتمنّى بشدّة أن يبني عائلة.
لو علم أنّ هذا زواج تعاقديّ مزيّف سيُكسر قريبًا، ما مدى خيبة أمل الخادم الواقف أمامها؟ لم تستطع تخمين ذلك.
قالت ليديا بصعوبة، كأنّها تعتصر الكلمات:
“… من حسن الحظّ أنّ للماركيز شخصًا مثلكَ، يا فريدريك.”
“أنا من يجب أن يشكر. من النادر أن أرى سيّدي يهتمّ بأحد ويبتسم هكذا بعد وقت طويل.”
أن يتأثّر هكذا فقط لأنّه يتأكّد من عدم تفويتها وجباتها؟
كم كان غير مبالٍ بمن حوله، لا تعرف حقًا.
أمّا الابتسامة، فقد اعتادت على سخريته، تلك التي تقول ‘لنرى كيف ستتعاملين مع الأمور’.
“في تحضيرات الزفاف، قد تحدث خلافات بالطبع، لكن إن احتجتِ إلى من يدعمكِ، أنا هنا.”
“لم نتخاصم.”
كان الماركيز إليان إستوبان منزعجًا وغاضبًا بمفرده لسبب غير معروف.
لذا، شعرت بالظلم لأنّ الأمر بدا كذلك.
“لو حدث ذلك حقًا، لوبّخته فورًا. من الواضح أنّ سيّدي المتطلّب هو المخطئ، وسأنصحه بالركوع وطلب العفو.”
يبدو أنّه يعرف جيّدًا عناد سيّده وطباعه الأنانيّة. ضحكت ليديا وهزّت رأسها أخيرًا.
“شكرًا على كلماتكَ. آه، هل تُخزَّن هنا كلّ الأغراض غير المستخدمة؟”
توقّفت ليديا، التي كانت تسير مع فريدريك خلف الخدم الذين ينقلون الإطار إلى المخزن، متفاجئة بالفوضى غير المتوقّعة.
“نعم. أغراض عائلة الماركيز التي يصعب التخلّص منها أو إعطاؤها لأحد تُحفظ هنا. بمعنى آخر، أشياء فقدت فائدتها لكنّ التخلّص منها صعب.”
تقدّمت ليديا داخل المخزن، تتفحّص المكان.
رأت عدّة أغراض مهملة تشبه القمامة، فأثارت تساؤلًا ونظرت إلى فريدريك:
“لكن، هل من المناسب أن تكون تلك اللوحة هنا؟”
“أراد سيّدي التخلّص من معظم أغراض السيد إيدان، لكنّني لم أستطع، فنقلت بعض ما تبقّى في قصر العاصمة إلى هنا. تلك اللوحة ليس لها مكان آخر.”
“… أفهم.”
فهمت ليديا ذلك الشعور قليلًا. حتّى مع شخص عزيز جدًا، قد يكون رؤية آثاره مؤلمة أحيانًا.
استرجاع الذكريات والمشاعر ممكن فقط عندما يلتئم جرح الفراق العميق ويصبح مجرّد ندبة.
لكنّها علمت أنّ ليس كلّ فراق يصبح كذلك، وقد يبقى جرحًا إلى الأبد.
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 13"