فبالإضافة إلى أن رمز هذه البلاد هو طائر الفينيق الأسطوري، فإن المناخ غير الوفير بالخيرات يجعل من الصعب رؤية الطيور الصغيرة الجميلة، مما يزيد من تعلقهم بها.
لهذا السبب، كثرت أنواع الحلي والأعمال الفنية التي تحمل الطيور موضوعًا لها. ولم تكن الساعة الجدارية الباهظة الثمن المعلقة في هذه الغرفة استثناءً من ذلك.
جلستُ على حافة السرير، محدقة بهدوء في الساعة المثبتة على الجدار.
“هل حان وقت الخروج؟”
أعلنت الزخرفة الصغيرة لطائرٍ يتربع على قمة الساعة منتصف الليل.
ما إن أكمل الطائر دورةً خفيفة بأجنحته عائدًا إلى عشه، حتى ارتديتُ العباءة التي أعددتها مسبقًا.
لم يكن الزي المدرسي الخاص بإستريا، الذي ارتديته في النهار، مناسبًا للتجوال ليلًا؛ فألوانه الزاهية تكشف هويتي، وتنم عن انتمائي بشكل واضح.
“أشعر ببعض الفراغ.”
كان ارتداء الملابس العادية بعد فترة طويلة شعورًا غريبًا، كما لو أنني نسيتُ جزءًا من الزي، لكنه كان خفيفًا في الوقت ذاته.
ثبّتُ مشبك العباءة فوق قميص داكن اللون كي لا تنزلق، ثم وقفتُ أمام المرآة. لم يكن هناك ما يستدعي الحذر سوى شعري الطويل.
“ربطه فقط لن يكفي…”
فإذا ما انحلت الرباط، سينسدل شعري الطويل في لحظة. وبعد تفكير، قررتُ جدله بطريقة بسيطة.
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم خرجتُ إلى الشرفة. ففي الممر، قد يمر الخدم الذين يتفقدون المكان أو يشعلون الشموع، لذا بدا لي أن هذا الطريق أكثر أمانًا من الخروج عبر الباب.
“قيل لي إن الدوقة تقيم في الطابق العلوي مباشرة. سأضطر للالتفاف إلى الجانب الآخر، لكن ما إن أصعد، ستصبح الأمور أبسط بعد ذلك.”
لم أكن أتوقع أن تدريبات القوة البدنية التي لم أخترها طوعًا ستفيدني هنا. صعدتُ فوق الدرابزين، وقستُ المسافة إلى الشرفة العلوية.
الارتفاع بين الطوابق كبير، مما يجعل الأمر صعبًا. لكن لحسن الحظ، فإن هذا القصر الفاخر الذي أُنفق عليه المال بسخاء، كانت شرفاته واسعة بما يكفي. وبقفزة مرتفعة، يمكنني الإمساك بها بمهارة.
دعمت حذائي الخالي من الكعب جسدي بثبات فوق الدرابزين الضيق. وبعد عدة قفزات لأختبر توازني، دفعتُ نفسي بقوة للأعلى. تمكنت يداي الممدودتان من الإمساك بدرابزين الطابق العلوي.
“حسنًا، نجحتُ.”
استخدمت زخم جسدي لرفع قدمي فوق الدرابزين، ثم تجاوزته. شعرتُ بنسيم الطابق الأعلى يلفحني برفق.
سمعتُ مرةً أن غرف الطابق الثالث تُترك شاغرة عادةً ما لم يكن هناك ضيوف مميزون. ويبدو أن الغرفة فوق غرفتي لم تكن استثناءً. دخلتُ غرفة خالية بحذر، ثم تقدمتُ نحو الممر.
“الذين يتجولون في الطابق الثالث غالبًا أشخاص محددون. يجب ألا يوقظ صوت خطواتي أصحاب القصر من نومهم.”
خففتُ من وقع أقدامي، وعبرتُ الممر الذي تراقصت فيه ألسنة الشموع بسرعة.
وبعد لحظات…
“رئيسة الخادمات.”
“…هش، تفضلي بالدخول.”
تمكنتُ من الدخول إلى غرفة الدوقة.
—
كان الجو داخل الغرفة قاتمًا وكئيبًا بالنسبة لمكان تعيش فيه سيدة القصر. كانت الإضاءة خافتة، تعتمد على بضعة مصابيح زيتية وشموع مشتعلة، يعطرها عبير الأعشاب المنعشة التي تُستخدم لتهدئة النفس، ممزوجًا برائحة غريبة بعض الشيء.
كان العطر حادًا بطريقة ما، لا يبدو من النوع الذي قد تفضله الدوقة عادةً.
“إنه عطر النيرولي. أحضره بيلِد قائلًا إنه مفيد للنوم والاسترخاء.”
“آه… أعتذر، لقد نسيتُ تقديم التحية أولًا.”
“لا بأس، خذص مقعدًا ؟”
جلستْ على الأريكة، و بدت بجسدها النحيل وكأنها ستُبتلع من الأثاث في أي لحظة.
قبل نصف عام، حين كنتُ أقيم هنا، كنتُ أصادف الدوقة أحيانًا، ولم تكن تبدو بهذا الوهن. لكنها اليوم، ربما لأنها لم تكن تتظاهر بتعبير جاف كالدمى، بدت مجرد امرأة هشة.
“كان يمكنني تقديم الشاي على الأقل، لكنني دعوتكِ سرًا، لذا أعتذر.”
“لا، لا يهم. سمعتُ أنكِ مريضة، فهل أنتِ بخير؟” .
عندما ذكرتُ ما سمعته خلال العشاء، بدت الدوقة متعجبة، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة خافتة.
“هل هكذا برر أكتيون الأمر؟ ومع ذلك، لم يرسل زوجي أحدًا لرؤيتي.”
شعرتُ بالحرج لأنني أثرتُ دون قصد موضوعًا حساسًا.
لكنها، على العكس، ابتسمت برفق وكأن مزاجها تحسن قليلًا.
“ألستِ تتساءلين لماذا دعوتكِ؟”
بعد ابتسامة قصيرة، نظرتْ إلى النافذة بجمود وقالت:
“آنسة أورتيس، زوجي قد يحاول إدخالكِ إلى هذه العائلة قسرًا.”
في اللحظة التي نطقت فيها الدوقة بتلك الكلمات، أدركتُ ما كانت تنوي اقتراحه لا محالة.
“هل تريدينني ألا أأتي إلى هنا؟”
“نعم. هذه العائلة…”
تغيرت الدوقة فجأة، وهي التي كانت محاطة بجو من الخراب.
لمع في عينيها الزرقاوين عزمٌ وذكاءٌ لأجل شيء ما، فشعرتُ وكأنني ألمحت جانبًا حقيقيًا من شخصيتها للمرة الأولى.
“هذه العائلة كمستنقع لم يتمكن أحد من النجاة منه.”
كان صوتها، الذي بدا وكأنه يغرق، قد اكتسب وضوحًا أكبر.
كنتُ سأكذب لو قلتُ إنني لم أشعر بالحيرة تجاه سبب دعوتها لي، وأنا التي لم أتبادل معها حوارًا حقيقيًا من قبل.
لكنني، من خلال ما رأيته أمامي، فهمتُ لماذا أصرت على استدعائي لهذا الحديث.
“ماتت الفتاة التي كادت تصبح صديقة ابنتي، وابني بدأ يشبه والده تدريجيًا. حتى وإن أدركتُ أن الأمور تسير نحو الخطأ، فقد تباعد عالم ابني الذي يعيشه عن العالم الذي أراه أنا كثيرًا.”
“…نعم، كان الأمر سيئًا للغاية.”
“لكنني رأيتُ ذلك الطفل يتغير قليلًا. كان يكره آنسة أورتيس بشدة، لكنه في الواقع كان يتغير بسببكِ.”
لم أستطع الرد بأنني لم أقصد ذلك، فاخترتُ الصمت.
“ولم تقتصر التغييرات على كاسييل فقط، بل أثرتِ على أكتيون أيضًا.”
“ش، شكرًا…”
“لذا، لا أريد رؤيتكِ مقيدة في مكان كهذا. والأهم من ذلك…”
ابتسمت الدوقة ابتسامة هادئة. ثم خرجت كلماتها التالية كما لو كانت تتحدث عن طقس مشمس، عادية ومسالمة:
“لأن برونديارن ستنهار قريبًا. وأتمنى ألا تكوني جزءًا من هذه العائلة حينها.”
فتحتُ فمي مذهولة.
كانت كلمات تحمل معانٍ كثيرة. ومن بينها، استطعتُ أن أستشف الغرض الحقيقي وراء دعوتها لي.
“…وماذا لو لم أكن جزءًا من العائلة؟”
“…”
انفلتت ضحكة خفيفة مني دون قصد.
ثم قررتُ مسح كل الأفكار القديمة التي كونتها عن الدوقة. هذه المرأة كانت ذات إرادة صلبة وقوية.
“الآن، أخبريني بالموضوع الرئيسي، سيدتي.”
“بفضلكِ، بدأت تتشكل شقوق بين ولي العهد وبرونديارن.”
“لم أفعل ذلك عن عمد.”
“لا يهم. المهم أن هناك فجوة قد ظهرت. منذ أن جذبتِ انتباه ولي العهد، سواء أردتِ ذلك أم لا، أصبحتِ الفتيل الذي سيفصل بين الطرفين.”
كنتُ موافقة على ذلك.
والأهم، أنني كنتُ أفكر أيضًا أن إثارة الفتنة بينهما ودفع أحدهما لإسقاط الآخر هو السبيل الوحيد للخلاص من وضعي الحالي.
لكن، إذا كنا سنركب نفس القارب…
“يمكنني قبول اقتراحكِ، سيدتي. لكن يجب أن أحصل على شيء في المقابل، أليس كذلك؟”
“لا يمكنني تلبية كل ما تتمنينه، لكنني أريد أن أمنحكِ ما تستطيعينه في حدود قدرتي.”
قدمت الدوقة مثالًا عمليًا للغاية:
“مثل هوية مزيفة والهجرة إلى بلد آخر.”
“صحيح. حتى لو نجحنا في إسقاط برونديارن، قد يكون من الصعب عليّ العيش في هذا البلد باسمي الحقيقي. لكنني أريد شيئًا آخر، سيدتي.”
انتظرت الدوقة بهدوء الشرط الذي سأطرحه.
كان هدفها يشبه هدفي من بعض النواحي: الحرية. فهي أيضًا تتوق إلى التحرر من هذا المكان.
لكن ماذا بعد إسقاط برونديارن؟ ماذا بعد سقوط ولي العهد؟
هذا وحده لا يكفي.
ما لم نغير شيئًا أكبر، سنظل مقيدين بهوية “المتجلين”، وربما نُجبر على الخضوع لشيء آخر مجددًا.
“أريد أيضًا أن تنهار برونديارن، لكن لا يمكنني تجاهل احتمال الفشل. أعتقد أنكِ تفهمين ذلك، سيدتي، لأن لديّ شخصًا يجب أن أحميه مهما كلف الأمر.”
كان رغبتي في تغيير هذا النظام ملحة، لكنني جسدٌ كان يجب أن يموت مرةً من قبل.
حتى لو لم أكن أنا الحقيقية، فقد كنتُ شخصًا مات بالفعل.
لم يكن بإمكاني ألا أستعد لاحتمال الفشل.
“إذا حدث لي شيء، أريدكِ أن تحمي أخي الصغير، هياكين أورتيس، مهما كان الثمن. هذا كل ما أريده.”
تأملت الدوقة شرطي لفترة طويلة، ثم أومأت برأسها.
“حسنًا. سأضمن حماية عائلتكِ مهما حدث.”
عندها فقط شعرتُ بالرضا وقبلتُ اقتراحها.
—
بعد انتهاء الصفقة، أخذتني رئيسة الخادمات إلى الممر.
كنتُ أنوي العودة إلى غرفتي عبر شرفة الدوقة، لكن بينما كان النزول ممكنًا، كان التسلق إلى الجانب الآخر عبر الجدران مشكلة.
“هذه الساعة هي الأقل ازدحامًا بالناس. بعد ساعتين، سيستيقظ الخدم، لكن الآن الجميع نائمون. لن تصادفي أحدًا، فاطمئني.”
“ألا يتجول الحراس؟”
“يتجولون، لكن مساراتهم لن تتقاطع مع طريقكِ.”
“إذن لن أضطر لاستخدام الشرفة مجددًا.”
رافقتني إلى بداية درج الطابق الثالث، ثم انحنت بأدب وودعتني قبل أن تعود إلى الدوقة.
“يجب أن أعود بسرعة. سأبقى هنا حتى الغد، لكنني أرفض الاستيقاظ مبكرًا في يوم راحة نادر.”
وأنا أدرك الهدوء المحيط، خطوتُ نحو الطابق السفلي.
لكنني توقفتُ فجأة، واختبأتُ خلف ستارة النافذة المظللة.
“ألم يقولوا إنه لن يكون هناك أحد؟ من هذا؟”
كان الظلام يحجب الرؤية، لكن الشخص كان طويل القامة بشكل لافت. هل هي امرأة طويلة؟ تساءلتُ وأنا أشك في عيني.
ثم تذكرتُ صوت الدوقة فجأة:
“إنه عطر النيرولي. أحضره بيلِد قائلًا إنه مفيد للنوم والاسترخاء.”
كان ذلك الشخص هو بيلِد نفسه.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 36"