“ميري…”
“لكن صوتك، دي دي… نبرتك المميزة تلك، أحبها كثيرًا.”
همس صوته المنخفض بدا وكأنه يدغدغ أذنيّ بلطف، وكأنّه يكبح شيئًا بداخله.
كان ديدريك يبدو ظمآنًا، يتوق للمسة بسيطة، وكان ذلك لطيفًا جدًا لدرجة أنني لم أستطع التوقف.
رغم أنّ وجهه احمر خجلًا وهو يفرك عنقه بصمت، لم يحرّر يدي المتشابكة معه، بل جذبني نحوه أكثر وأخفى وجهه في عنقي.
حرارته الدافئة لامست بشرتي، وأنفاسه التي تلامس عنقي كانت كافية لجعل جسدي يشتعل، حتى اضطررت أن أبتعد عنه بسرعة.
“الطعام وصل!”
“… الطعام مهم فعلًا.”
رغم لهجته المتحسّرة، أخذ يلامس شفتيّ برقة.
“جعلتك تنتظر بعدما قطعت كل هذا الطريق، سيكون من غير اللائق أن أؤخرك.”
“أنت محقة، ميري…”
رغم تعبيره الحزين، خرجت الكلمات منه كعادة مألوفة لديه؛ دائمًا ما يردّد أنني على حق مهما قلت.
“هاه، دي دي دائمًا في صفي.”
“لأني دومًا إلى جانبك.”
“وأنا كذلك.”
ضحكنا ونحن ننظر إلى بعضنا البعض بمحبة.
دخل الخدم لترتيب الطعام على الطاولة الكبيرة، وكانت الأطباق تتوالى واحدة تلو الأخرى.
“الطبق الرئيسي لوجبة الغداء اليوم هو الكركند الطازج. وإذا لم يكن على ذوقكما، فلا تترددا في إبلاغنا.”
رفع “مات” غطاءً فضيًا عن صينية ضخمة، وبدأت رائحة الزبدة الدافئة تفوح في المكان.
الصدف الحمراء انفتحت عن لحم أبيض طازج، يعلوه بخار دافئ.
وضع مات قطع اللحم المفصولة بعناية على أطباقنا، ثم قام ديدريك بتبريد قطعة صغيرة ونقلها بحرص إلى فمي.
امتزجت نكهة الزبدة الغنية مع اللحم الطري بانسجام تام، وانزلقت بسلاسة في حلقي.
كانت النكهة متوازنة تمامًا، لا دهنية بشكل مفرط.
“لذيذة!”
“كلي منها كثيرًا.”
“دي دي، عليك أن تتذوقها! لم أتناول شيئًا بهذه اللذة من قبل!”
بما أن المكان قريب من البحر، بدا واضحًا أن المأكولات كانت شديدة الطزاجة.
أخذت قطعة صغيرة بالشوكة وقرّبتها إلى فمه، فتناولها بكل طبيعية وهزّ رأسه موافقًا.
“طعمه رائع.”
“أليس كذلك؟”
كنت أشعر بالفخر كلما رأيت ديدريك يستمتع بالطعام، رغم أنني لم أطبخه.
ويبدو أنه يبادلني الشعور ذاته، حتى إنه كان ينظر إليّ بإعجاب لمجرد أنني أشرب الماء.
بعد أن غادر الخدم، سألته وأنا أتناول من الكركند الذي قدّمه لي:
“ماذا سنفعل مساءً؟”
اقترب مني ولمس بطرف لسانه قطعة صغيرة علقت عند فمي.
“لنجرب نزهة ليلية. الممرات هناك مُجهزة جيدًا.”
“هل سبق أن أتيت إلى هذا المكان؟”
“لا، لكنني بحثت عنه مسبقًا. ألا يعجبك ذلك؟”
“بالعكس، كل ما أفعله معك يسعدني!”
“وأنا أيضًا.”
وجودنا معًا، بعيدًا عن قصر الدوق، وحدنا بلا قيود ولا أعين تراقب، جعل كل شيء يبدو أكثر متعة.
************
في صباح اليوم التالي، استيقظ ديدريك مبكرًا وانشغل بالحركة بهدوء حتى لا يوقظ ماريلين النائمة.
“هل أعدوا المظلّة؟ وماذا عن البساط؟ لا، سأقوم بذلك بنفسي.”
لأن هذا اليوم كان مميزًا بالنسبة له، أراد أن يجهز كل شيء بيديه.
ورغم حرصه على كل التفاصيل، لم يستطع إخفاء القلق الذي بدا على وجهه.
غسل وجهه بسرعة عدة مرات ثم أشار بإصبعه للخادم.
“لا تخبر ماريلين بأي شيء، اتفقنا؟”
“بالطبع يا سيدي.”
“جعلتها تسهر قليلًا البارحة، لكن إن استيقظت، أخبرني فورًا.”
“كما تأمر.”
أخذ ديدريك المظلّة والبساط بنفسه وتوجه إلى الشاطئ، لكنه لم ينظر إلى البحر، بل بدأ يتجول على الرمال غارقًا في التفكير.
“الشمس تشرق من هذا الاتجاه…”
درس اتجاه الرياح وأشعة الشمس بدقة، ثم توقف في بقعة معينة.
نصب المظلّة بثبات، ومدّ البساط بجوارها.
“جهّزوا العصائر الباردة والفواكه قبل أن أصل مع ماريلين. ولا تسمحوا لأحد بالاقتراب من هنا.”
“لا تقلق، سيدي.”
نظر مات إليه بإعجاب وهو يتفقد المكان مرارًا.
لقد سمع من قبل الكثير عن ما مرّ به ديدريك: كيف عانى بسبب زوجة الدوق السابقة، وكيف تغيّر تمامًا بعد أن التقى بخطيبته.
“آمل ألا تمطر اليوم.”
“نادرًا ما تمطر في هذه المنطقة، لا تقلق.”
تأكّد من ثبات المظلّة، وموقع البساط، ثم رفع عينيه نحو السماء ليطمئن على الطقس، قبل أن يعود إلى الفيلا.
بمجرد وصوله، سأل إحدى الخادمات:
“كيف حال ماريلين؟”
“ما زالت نائمة، سيدي.”
هذه المرة، لم يتوجه لغرفتهما، بل إلى غرفة أخرى حيث كان هناك صندوق صغير على الطاولة.
فتح الصندوق بحذر، تأكّد من محتواه، ثم أغلقه مجددًا بعناية.
توجّه إلى خزانة الملابس، حيث كانت مجموعة من القمصان والسراويل الباستيلية مصطفّة.
حدّق فيها بتردد، ثم اختار قميصًا بلون البيج الفاتح وسروالًا أسود، وعلّقهما جانبًا.
شفتاه جفّتا من التوتر، فأخذ يعضّها مرارًا.
“هل كان من الأفضل أن أرتدي شيئًا أكثر أناقة؟”
لكنّه هزّ رأسه بعد لحظة، وكأنّه يحاول طرد تلك الفكرة.
لم يكن يُحضّر للأمر عشوائيًا، بل استمع لرغبات ماريلين سابقًا:
“أحب أن أكون معك وحدنا، لا أحب الأماكن المزدحمة. الحفلات ترهقني، وكل هذه البهرجة تزعج عيني.”
رغم أنها كانت في البداية تحب كل ما هو فاخر، إلا أن أحداث الساحة الاجتماعية جعلتها تتعب تدريجيًا.
“كنت فقط أرغب بأن أُريها أجمل ما في العالم…”
تنهد ديدريك للحظة، تراوده فكرة التخلي عن اللقب وكل شيء، والهرب معها بعيدًا.
لكنه أوقف نفسه، لم يكن يريد أن يبدو بلا مسؤولية.
“سأحبها وأحميها أكثر، حتى لا تضطر لمواجهة كل ذلك وحدها.”
فذلك هو سبب وجوده، ببساطة.
لأجل ماريلين.
وبعد آخر تفقد، دخل الغرفة بهدوء، حيث ما تزال ماريلين نائمة بهدوء، لا تعرف شيئًا عمّا يُحضّر لها.
جلس بجانب السرير برفق، ومسح على شعرها بنعومة بينما استمع لتنفسها المنتظم.
“جميلة…”
ثم لمس خدها برقة.
“كم هي محبوبة…”
أحيانًا، لا يزال يشعر أن وجودها بجانبه غير حقيقي، وكأنّه حلم يخاف أن يفيق منه.
ولذلك، يلمسها باستمرار، يتأكد من دفء جسدها، فقط ليطمئن أنها ما زالت معه.
لم يستطع التوقف، فقبّل خدها، ثم عنقها وكتفها، وكأنّه يختمها بطابع حبه.
تابع تقبيل ذراعها بخفة، إلى أن بدأت تضحك بصوت ناعم.
“تـ…توقف ماذا تفعل ههه”
“استيقظتِ؟”
“أنت من أيقظني!”
“فلنمرح، ميري.”
جلست بسرعة تمسك بيديه وتهزّهما بحماس.
“رائع! هل نذهب في جولة بالقارب قبل الذهاب للشاطئ؟”
“فكرة ممتازة.”
قبّلها بححنان، ثم لفّت ذراعيها حول عنقه، وهو ضاحك حملها بلطف.
وبينما يقبّلها من جديد، سحبت وجهها للخلف ونظرت إليه بفرح.
“آه، من أين لك بكل هذا الوسامة؟!”
“هاه، ها…”
ضحك ديدريك بخفة، وكأنّ كلماتها تدغدغ قلبه بسعادة لا توصف.
************
“نحن ذاهبون إلى البحر، أليس كذلك؟”
“نعم، سنصل قريبًا.”
كانت ماريلين تمشي بجانبه معصوبة العينين، تمسك بذراعه في ثقة.
كلما اقتربا من البحر، بدأت نسمات الهواء تصبح أكثر برودة.
مدّت يدها تتحسّس ضفيرتها التي صففها لها بنفسه، وابتسمت بلطف.
“كنت محقا بأن أربط شعري كما قلت لي، دي دي.”
مسح على خدها برقة، ثم ابتسم.
لكن سرعان ما اختفت ابتسامته، وبدأ يعبث بالصندوق الصغير الذي يحمله في جيبه، وقد ابتلَع ريقه بصعوبة…
التعليقات لهذا الفصل "144"
ليش ماعندنا أمثال ديدريك في الحياة الواقعية
تبا للعزوبية 😭