حين بدأت أتمشى أمام مكتب الدوق بوضوح متعمد لألفت انتباهه، أخيرًا أنزل قلمه وسألني: “…ما قصة هذا المظهر؟”
أجبت بسرعة وكأنني كنت بانتظار سؤاله: “إنها قبعة قشية.”
ألقى عليّ نظرة من الأعلى إلى الأسفل، ملامحه بدت منزعجة، لكن صوته كان يحمل شيئًا من القلق:
“أليس هذا اللباس خفيفًا جدًا على الطقس الآن؟”
في الواقع، كان ما أرتديه خفيفًا مقارنة بثيابي المعتادة. لم أكن ألبس فستانًا أرستقراطيًا أنيقًا كما في العادة، بل ارتديت فستانًا بسيطًا مع قبعة قشية واسعة الحواف، لذا لم يكن مستغربًا أن يُبدي استغرابه.
اعتدلت في وقوفي، وضعت يدي على خاصرتي، وأعلنت بحماس: “سأذهب إلى البحر!”
“أعلم.”
بالطبع يعرف… فديدريك هو من حصل على إذن الإجازة من الدوق.
“هل الرحلة اليوم؟”
“لا، ليس اليوم.”
“فلماذا جئتِ إلى هنا بهذا الزي؟”
ابتسمت ابتسامة خبيثة، ويبدو أنه شعر بأن هناك شيئًا مريبًا، لأن جبينه تجعد بانزعاج.
“لا، لا تبدأي بـ…”
وقبل أن يُكمل جملته، قطعت عليه الكلام بسرعة:
“سأدخل البحر مع ديدي ونلعب بالماء!”
صمت تمامًا. كان يبدو غير مبالٍ، لكنني أعلم أنه ليس كذلك، لذا واصلت استفزازه:
“ستكون رحلة ممتعة، أليس كذلك؟”
“هل تفاخركِ هذا مقصود؟”
“نعم!”
“…”
“أكيد ديدي سيبتسم من قلبه عندما يرى البحر، أليس كذلك؟”
“سيبتسم لأنه ينظر إليكِ.”
“ههه…”
لا أنكر أن سماعي لهذا منه جعلني أشعر بسعادة كبيرة.
هز رأسه بتنهيدة وكأن لا فائدة من الحديث معي، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه.
اقتربت منه أكثر وسألته:
“ألا تريد المجيء معنا، أبي؟”
بات من الطبيعي بالنسبة لي مناداته بـ”أبي”، ولم يظهر عليه أي ارتباك كما في السابق… بل بدا وكأنه يحب ذلك.
“…إلى البحر؟”
“ظننت أنك ترغب بذلك.”
“لا بأس بالنسبة لي، لكن ديدريك لن يحب الأمر.”
“لا يمكنني إنكار ذلك.”
برز عرق خفيف في جبهته. كان من الممتع حقًا استفزازه.
لكن يبدو أنه شعر ببعض الخيبة، لذا قلت له بابتسامة:
“إذن بعد عودتنا من البحر، لنذهب معًا في نزهة عائلية.”
هناك أماكن كثيرة جميلة للنزهة بالقرب من العاصمة. وحتى لو لم نغادر القصر، يكفي أن نتمشى في الحديقة الجميلة المحيطة به.
تردد قليلًا، ثم حرّك قلمه بتظاهر غير مبالٍ، وقال:
“…أظن أن هذا ممكن.”
رؤية زاوية شفتيه ترتفع بخفة كانت كافية لأفهم أنه بدأ يتطلع لذلك اليوم بالفعل.
“سأذهب للبحر وأقضي وقتًا ممتعًا!”
“…فقط لا تتأخري كثيرًا.”
أومأت له بابتسامة.
*************
“هذه أول مرة أركب فيها قاربًا.”
في حياتي السابقة كنت طريحة الفراش في المستشفى، وفي هذه الحياة كنت حبيسة الغرفة حتى ظهور المجتمع الأرستقراطي أمامي وبدأت رحلتي في تعلم كل ما يلزم، لذا لم أخرج كثيرًا. هذه هي أول مرة أتحرك بحرية.
أبحر القارب الذي يقلني أنا وديدريك بسلاسة فوق الأمواج.
“وأيضًا، هذه أول مرة أرى فيها البحر!”
نظرتُ إلى البحر الأزرق الممتد، ثم إلى عيني ديدريك، فابتسم بخفة وربت على رأسي.
“بحر روسأربن أجمل بكثير من هذا.”
قالوا إن روسأربن جزيرة جميلة تُحيط بها مياه زمردية بلون البحر، وهي مملوكة لعائلة بلاكوود، ولن يتواجد فيها أحد سوانا نحن والخدم.
“أنا متحمسة جدًا!”
ما جعل قلبي يخفق أكثر هو أنني ذاهبة في هذه الرحلة وحدي مع ديدريك.
وبدا أن الحماس انتقل إليه أيضًا، فقد تلاشت حدّة عينيه وتحولت لنعومة دافئة. لم أتمالك نفسي فلامست ابتسامته الهادئة بأطراف أصابعي.
قبّل طرف إصبعي وسألني:
“هل تمانعين إن غطيتُ عينيكِ قبل أن نصل؟”
“لماذا؟”
“أريد أن أريك البحر في أجمل لحظة، لا أريدكِ أن تريه بطريقة عشوائية بمجرد أن ننزل من القارب.”
“إذا كان هذا السبب، سأغمض عيني بإحكام!”
أغلقت عيني لأريه كيف سأفعل ذلك، وفجأة شعرت بشيء دافئ وناعم يلامس جبيني ثم يبتعد…
لم أكن بحاجة لأن أفتح عيني لأعرف أن تلك كانت شفتا ديدريك.
فتحتُ عيني، والتقت نظراتنا. اقترب مني بهدوء، مائلًا رأسه… وكانت شفتاه على وشك ملامسة شفتيّ، لكن…
“أحضرتُ بعض الفاكهة لتتناولوها قبل الوصول…!”
“آه.”
“…”
دفعت ديدريك بسرعة بعيدًا عني، فغيّر الخادم كلامه فورًا:
“سأذهب لتفقد الفيلا إذًا!”
ثم فرّ هاربًا وكأن الأرض تلاحقه، وكأن نظرات ديدريك الحادة تحرق ظهره.
ربّتُّ على خد ديدريك، أحاول كتم ضحكتي:
“ديدي، هدئ أعصابك.”
“…”
كان يبدو محبطًا، فاقتربت منه على أطراف أصابعي وهمست:
“هيا، الآن! هذه فرصتك!”
“هاه…”
“لن تفعل؟”
“سأفعل… بما أنكِ أعطيتني فرصة.”
لفّ وجهي بكفيه، وقبّلني برقة كما اعتاد دائمًا. ولحسن الحظ، لم يقاطعنا أحد هذه المرة.
**********
وصلنا إلى الجزيرة، وأنا لا أزال معصوبة العينين وأتشبث بيد ديدريك. لا أعرف إن كان السبب هو التوتر أو الحماس، لكني لم أستطع التوقف عن الابتسام.
وفوقي، سمعت ضحكته الناعمة.
“ما الأمر؟”
“أنتِ لطيفة جدًا… سأحملكِ.”
“لماذا؟ أريد أن أمشي وأنا أمسك يدك.”
عانقت ذراعه بقوة. شعرت براحة كبيرة بالاعتماد عليه فقط، وترك حواسي توجهني. نسيم البحر المالح، ودفء الشمس على جلدي… وكل ما حولي بدا مطمئنًا لأنني كنت مع ديدريك.
“سأحملكِ الآن، علينا ركوب العربة.”
“حسنًا.”
رفعني برفق. اهتز جسده قليلًا عندما صعد إلى العربة، ثم بدأت العربة تتحرك. بعد قليل، نزع عني العصابة التي كانت تغطي عيني.
جلست فوق فخذه كأنه شيء معتاد، وهو لا يبدو منزعجًا أبدًا من التصاقي به هكذا.
“قطعة العلكة الخاصة بي.”
“قطعة علكة؟ ما معناها؟”
“يعني أنكِ تلتصقين بي ولا تتركينني.”
“إذًا، أنا علكتك!”
ضحكت من قلب عندما اعترف بذلك بكل بساطة.
العربة كانت واسعة ومغلقة بستائر، وكنّا نتحدث بخفة ومرح حتى توقفت عند الفيلا.
“هل أحتاج لعصابة العين مجددًا؟”
“لا، غرفة الإطلالة على البحر في الطابق الثالث. لن ترَي البحر من هنا.”
“يعني يمكنني الاستمتاع بالمكان؟”
“بكل تأكيد، لكن لا تركضي وتقعي، امسكي يدي.”
أمسكت بيده ونزلت من العربة، فاستقبلني نسيم عليل داعب شعري.
رفعت رأسي، فرأيت حديقة خضراء محاطة بالغابات، خضرة الأشجار وزهور الحقل تتمايل بهدوء مثل أمواج البحر.
وكان هناك بحيرة واسعة في المنتصف، وبجانبها قارب صغير وجازيبو مزين بورد أحمر متدلٍ.
بينما أنا أستمتع بالمنظر، اقترب منا مدير الفيلا والخدم وانحنوا باحترام:
“أهلًا بكم، سيدي وسيدتي. يسعدنا حضوركما إلى روسأربن. أنا مات ريد، مدير هذا المكان.”
“تشرفت بمعرفتك، أنا ماريلين أليا.”
“لقد سمعت عنكِ كثيرًا. سررت بلقائكِ.”
ابتسم مات وسأل:
“هل أرشدكما إلى الغرفة، أم تودان تناول الطعام أولًا؟”
سألني ديدريك: “ما رأيك؟”
ترددت للحظة، ثم نظرت نحو البحيرة:
“هل يمكننا الذهاب لرؤيتها أولًا؟”
ابتسم وأومأ، ثم أمر مات:
“أحضر الطعام إلى الجازيبو.”
“أمرك، سيدي. من الأفضل استخدام العربة الصغيرة لتصلوا بسرعة وراحة.”
نظر إليّ ديدريك كأنه يسألني عما أريده، فأجبت بهز رأسي: “أريد المشي، وأنا أمسك يدك.”
لطالما كان نطاق تحركي محدودًا، لذا أحببت فكرة المشي… وخصوصًا مع يده تمسك بي.
*************
كنت أرغب في أن أمسك بيده وأتحدث معه بينما نمشي ببطء.
فأمسك بيدي بكل ترحيب.
“متى سنذهب لرؤية البحر؟”
“اليوم نرتاح تمامًا، وغدًا، حوالي منتصف النهار ،ليس بروعة منظر ميرير،ولكنه الأجمل في ذلك الوقت.”
نظر إليّ نظرة معبرة حين وصفني بالجمال دون جهد، فرددت عليه بنظرة مائلة لم تحمل نفورًا.
بينما نمشي متشابكي الأيدي ونلوح بها بخفة، وجدنا أنفسنا عند ضفة البحيرة. سطح البحيرة، المغمور بأشعة الشمس، يلمع كالنجوم.
اقتربت قليلاً، لكن ديدريك أحاط خصري بحذر وسحبني إلى الوراء.
“المياه عميقة. لا تقتربي أكثر من اللازم. إذا كنتِ ترغبين بشدة في رؤية البحيرة، ربما نستقل قاربًا؟”
“لا، الطعام سيصل قريبًا. لننتظر هنا فحسب.”
ما إن دخلنا إلى الجازيبو وجلسنا على المقاعد التي تم تجهيزها، حتى لاحظنا الخدم وهم يدفعون عربة مليئة بالطعام في اتجاهنا.
بينما كنت أعبث بيد ديدريك الكبيرة، نظرت إليه بتمعن وعضضتها بلطف.
“…ميري.”
نطق اسمي وكأنما يعاني، فابتسمت بشكل ماكر، وأشبكت أصابعي بين أصابعه.
“هل ستستمرين بهذا؟”
نظر إلي وكأنه يشعر ببعض العتب، لكنني تجاهلت نظراته واكتفيت بالابتسام.
التعليقات لهذا الفصل "143"