لم تُبدِ ريينا أيَّ ارتباكٍ، رغم اقتراب إينار منها حتّى بات على بُعد أنفاس.
كانت عيناها غارقتين في هدوءٍ عميق،
ووجهها فاتِرًا إلى حدٍّ مُفرِط.
ومن دون أن تُخفي أنّها تسأل بدافع المجاملة فحسب، أعادت ريينا السؤال:
“لا أرغب في عقد صفقةٍ مع سموّك.”
قطعت الحديث قبل أن تسأل أصل الصفقة،
ثمّ بدت كمن يهمّ بالمغادرة فورًا، فتفادت ذراعي إينار اللتين كانتا تحاصرانها، وأمسكت بطرف تنورتها.
“على الأقل، ألا يجدر بكِ أن تسمعي نوع الصفقة أوّلًا؟”
“هل هو أمرٌ؟”
“لا أريد أن أقيّدكِ بأمر.
ثمّ، لو أمرتُكِ… هل كنتِ ستطيعين؟”
“لا.”
كان واضحًا سبب جرأتها الوقحة إلى هذا الحدّ في حديثها مع أميرٍ إمبراطوريّ،
رغم أنّها مجرّد آنسةٍ بلا لقب بعد.
فهي بولشيك.
وإينار، الأمير الثاني، لا يملك نفوذًا يُقارَن حتّى بالأمير الثالث الذي خُطِبت له ثمّ فسخت الخطبة.
“بما أنّك تقول ذلك، فسأسمع.”
لو حاول قمعها بالأوامر أو المكانة،
لما التفتت إليه أصلًا.
هي تعلم أنّه مختلفٌ عن الآخرين،
لكنّ ذلك لا يعني أنّ إينار قد أثار اهتمامًا خاصًّا لديها.
على النقيض منها،
لم يُرِد إينار أن يُفوّت هذه الفرصة معها.
ألم تكن المرأة الأولى في حياته التي كبحت ‘حظَّه’؟
كما أنّ ريينا عاشت حياتها مدفونةً تحت وطأة ‘الحظّ’،
فإنّ إينار أيضًا عاش منساقًا له.
صحيحٌ أنّ حظّها كان سيّئًا،
وحظّه جيّدًا على نحوٍ مبالغ فيه،
لكنّ حقيقة أنّ كليهما جُرّا دون إرادتهما لا تقبل الجدل.
التقت عيناه الرماديّتان بعينيها الزرقاوين.
وفوق رمادٍ احترق،
انتشرت شراراتٌ زرقاء صغيرة.
كم مرّ من الوقت وهما يتبادلان النظرات؟
“أنتِ أوّل فشلٍ لي.”
رأت ريينا بوضوحٍ فاضح صدقه الطافح،
لا شغفًا، بل توقًا.
فارتفع طرف فمها عاليًا.
“يا له من شرف.”
ثمّ أضافت وهي تنقر فنجان الشاي بطرف إصبعها:
“حتّى لو انقلب لساني، لا أستطيع أن أعدّ هذا مجدًا.”
كان استهزاؤها فاضحًا لدرجة أنّ قردًا مارًّا كان ليفهمه،
لكنّ إينار لم يغضب،
ولا حتّى بدا محرجًا.
بل هزّ رأسه بقوّة.
“صحيح.
أيّ شخصٍ سيسمع ذلك سيعدّه حظًّا تعسًا.”
كان تعبيرًا سوقيًّا لا يُتوقّع من فم أمير،
لكن لم يكن هناك وصفٌ أدقّ منه.
عادت زاوية فم ريينا التي كانت قد اختلّت قليلًا إلى موضعها،
ورسمت فوقها زفرةٌ خفيفة.
“لكنّه… صحيح، أليس كذلك.”
في صوتها الخافت هذه المرّة،
كان هناك ‘فهم’ و‘تعاطف’ واضحان.
توقّف إينار عن الكلام.
نعم.
لو كان رجلًا وُهِب حظًّا سماويًّا لا يُقاس…
“أنتِ كنتِ نقيضي……”
“نعم.
فشلُك الأوّل هو رفيق حياتي.”
كانت الكلمات هادئة،
لكنّ ما تراكم فيها من استسلامٍ وفراغٍ ومرارة لم يدم سوى لحظة.
كلّ ذلك تركته قبل العودة.
بل كان لا بدّ أن تتركه.
فهي لا تنوي أن تسلك الطريق ذاته مرّةً أخرى،
حتّى بعد الموت.
صحيح أنّها لا تستطيع تجاهل الريح الخاوية التي تمرّ بقلبها بين الحين والآخر…
لكن.
هزّت رأسها بخفّة.
راقبها إينار بصمت، ثمّ قال:
“ذلك بالضبط ما أريد عقد الصفقة عليه.”
“تقصد الفشل؟”
“نعم.
أنتِ تفشلين دائمًا، وأنا لم أفشل قطّ…
حتّى التقيتُ بكِ.”
توقّف نظره عند طرف تنورتها،
ذلك الجزء الذي تمزّق يوم سقط تمثال المعبد عليها،
وإن بدا سليمًا الآن.
“لم يُصَب أحدٌ بخدشٍ واحد ممّن مددتُ يدي إليهم.”
“لا شكّ في ذلك.”
لم يكن في كلامها تهكّم.
كانت تصدّقه بصدق.
فهي أيضًا مالكةُ حظٍّ تعيسٍ لو قصّته لضحك الناس.
“هل تمنحني بعض الوقت للتفكير؟”
كان سؤالًا أقرب إلى الإخطار.
ساد الصمت بينهما.
قبل لقائهما في المعبد،
لم يكن كلٌّ منهما يرى الآخر سوى شخصٍ موجودٍ هناك.
تحيّة مجاملة في المناسبات الرسميّة.
الأمير الثاني الذي لا يطمع بالعرش،
ووريثة بولشيك الوحيدة.
ذلك كان كلّ شيء.
ثمّ لقاءٌ واحد.
قصير أو طويل،
لكنّه كان كافيًا ليكشف لكليهما ما هو فريدٌ في الآخر.
ألم يُقَل إنّ النقيضين يتجاذبان؟
لذلك، لم يكن الصمت بينهما خانقًا.
ليس مريحًا لدرجة النوم،
لكنّه لم يكن سيّئًا.
لم تغادر ريينا،
ولم يُبعِد إينار نظره عنها.
طَق.
طَق.
راقبت ريينا دوائر صغيرة تتشكّل فوق شاي الإيرل غراي نصف البارد،
ثمّ اتّخذت قرارها.
ستخبره بأنّها عادت من الموت،
وبكيف تريد أن تعيش من الآن فصاعدًا.
هو يريد ‘فشلًا’ يكبح حظّه.
ولم يخطر ببالها حتّى أن تسأله عن السبب.
“سموّ الأمير،
أكاد أتوقّع نوع الصفقة التي ستعرضها.”
“أنت ترفضين إذن؟”
“ربّما.”
لم يكن قرارها بالحديث عن نفسها نابعًا من سببٍ عظيم.
فهو، على الأرجح، الشخص الوحيد الذي سيستمع إليها.
هذا كلّ ما في الأمر.
وحتّى هذا التفكير لم يكن ثابتًا أو مؤسَّسًا.
سواء صدّقها أم لا،
سواء رآها مجنونة أم لا،
فلا يهمّ.
إن صدّق، فلديها ورقة.
وإن لم يصدّق، فلن تخسر شيئًا.
كما أنّ رأيه فيها لم يكن ذا قيمة.
المقبض بيدها هي.
هو من يريد شيئًا منها،
أمّا هي فلا تريد منه شيئًا بعينه.
كانت ريينا وجودًا لا يُعوَّض بالنسبة لإينار،
بينما كان إينار بالنسبة لها… وجودًا لطيفًا إن وُجد، وغير مؤثّر إن غاب.
بعد حين،
ارتشفت ريينا رشفة من الشاي الذي برد تمامًا،
وزفرت.
“قبل ذلك،
ألا تودّ سماع قصّتي أوّلًا، ثمّ اقتراح الصفقة؟”
لم تمنحه فرصة للردّ.
“لقد متُّ مرّةً وعدت.
وبحساب الزمن… دعني أرى……”
امتدّ حديثها طويلًا.
حياةٌ لا تفعل فيها شيئًا دون أن يفشل،
تتعثّر فتُكسَر أنفها،
وينتهي بها الأمر دومًا إلى الفشل.
وحين وصلت إلى موتها،
تحدّثت عنه بهدوء.
ثمّ ابتسمت ابتسامةً باهتة.
“ولهذا، قرّرت أن أعيش دون توقّع،
ودون أن أفعل أيّ شيء.”
كان قرارًا قالته لأوّل مرّة لغير نفسها،
وبدا… لا بأس به.
“لكن لا ضمان أنّني لن أموت،
حتّى لو لم أفعل شيئًا.”
“بسبب سوء الحظّ؟”
“نعم.
ليس سيّئًا فحسب، بل لعينًا.”
تخلّت عن كلّ ما أنهكها.
اعتراف الأب.
الوريثة المثاليّة.
والأمير الثالث الذي تمسّكت به كحبٍّ أوّل،
ظنّت أنّه الوحيد الذي سيحبّها.
قرّرت، مثل سائر العائدين، ألّا تكرّر أخطاء الماضي.
لكن الفرق بينها وبينه كان شاسعًا.
هم يتجاهلون من أنهكهم،
أمّا هي،
فعليها أن تخشى نفسها لتنال الحرّيّة.
كانت هي العقبة الأكبر أمام ذاتها.
أو بالأحرى… حظّها الذابل الذي لم يترك أثرًا.
“لذلك، إن كانت الصفقة لأن تضعني بقربك لتختبر الفشل،
فأرى أنّ إعادة النظر—”
“لا.”
وضع إينار قبضته على صدره،
وانحنى قليلًا.
“أعتذر.
يبدو أنّني اقترحت صفقةً بائسة.”
اتّسعت عينا ريينا دهشة.
ثمّ نظر إليها مباشرةً، وقال بجدّيّةٍ مطلقة:
“دعينا ننسى الصفقة.
ما رأيكِ برهان؟
هل سينتصر حظّكِ، أم حظّي؟”
“رهان…؟”
“بعد عامٍ من الآن،
إن لم تموتي بأيّ شكل،
ففوزي محسوم.”
كانت حياتها على المحكّ،
وهو يسمّيه رهانًا.
لكنّ كلماته التالية أغلقت فمها.
“وسأبذل كلّ ما أملك لأفوز…
أي لأُبقِيكِ على قيد الحياة.”
عينان رماديّتان لا تهتزّان،
وصوتٌ متينٌ صلب.
لم يكن فيه ذرّة كذب.
انحنت ريينا تخفي تعبيرًا لا يُوصَف.
كان يفعل ذلك من أجل فوزه.
لكن…
للمرّة الأولى.
قال لها أحدهم إنّه سيبذل كلّ ما لديه لينقذها.
ضغطت على صدرها المتسارع.
ثمّ وصلها صوته الخافت:
“ريينا بولشيك.
هل تقبلين الرهان معي؟”
أغمضت عينيها،
ثمّ فتحتهما بعد شهيقٍ عميق.
“سموّ الأمير…”
رفعت رأسها ببطء،
ونظرت إليه.
“هل تصدّق قصّتي؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"