مرّ يومان منذ عودة ريينا من المعبد.
ولو كانت قد نفضت عنها كلّ الرغبات التي قيّدتها ذات يوم، وبلغت حالة الجبل جبلٌ والماء ماء، لكان من المفترض أن تصبح الحياة أسهل بكثير.
لكن، وكما يليق بحياة امرأةٍ قذرة الحظّ، لم تَسِر الأمور كما تشتهي.
“آنِسَة، صاحب السموّ الأمير الثالث…”
“الرسول الذي أرسله سموّ الأمير الثالث في الخارج…”
“أين نضع الورود التي بعث بها سموّ الأمير الثالث…”
مهما فعل سميث، ومهما قال، لم تكن ريينا لتُحرّك حاجبًا واحدًا، كأنّ نباح كلبٍ يمرّ في الخلفيّة.
لكن…
“بهذا الإلحاح؟
أكاد أشتهي أن أغرز فيهما حربةً وأثبّت بها ذراعيه وساقيه.”
كانت ملامحها لا تزال جامدة،
غير أنّ الكلمات المتسرّبة من شفتيها الحمراوين كانت دامية حدّ الرعب.
“هل أُحضِر الحربة؟”
سأل الخادم بأدب، وقد جمع يديه عند سرّته.
لو سمّت ريينا الأمير الثالث صراحةً، لما تغيّر شيءٌ في موقفه.
لوّحت ريينا بيدها.
“لا داعي.
حين ينبح الكلب، نتجاهله.
ثمّ إنّ أيّام هذا التعلّق اللزج لم تَعُد كثيرة أصلًا.”
لم يتبقّ وقتٌ طويل حتّى تدخل جين هذا القصر بصفة ظلّها.
حتى لو لم تحلّ محلّها فورًا، فمجرّد أن تُظهر وجودها لسميث، سيشغله ذلك عنها.
لم يُعلّق الخادم على كلماتها المتناثرة بلا سياق، واكتفى بالانحناء.
“لكن… ما هذه الأشياء التي تتراكم منذ قليل؟”
أشارت ريينا بطرف إصبعها إلى كومة هدايا أخذت ترتفع مهدّدةً بابتلاع جبال الوثائق على مكتبها.
“جميعها من بيوت النبلاء.
وأمّا ما لم يُمكن إدخاله إلى المكتبة، فهو في الخارج، وقد أوصوا بإبلاغك أنّ بإمكانك الاطّلاع عليه متى شئت. ”
وضع الخادم أمامها رزمة رسائل.
لم تكن رسالة أو اثنتين، بل كومة كاملة.
التقطت ريينا بعض الأظرفة، وتفحّصت الأختام.
شعارات بيوتٍ عريقة في الإمبراطوريّة،
وأخرى لا تُرى إلّا في سجلّ النبلاء.
“كلّهم بارعون في شمّ الرائحة.”
لا حاجة لفتح الرسائل،
ولا لفتح الهدايا.
المضمون واحد.
المقعد المجاور لريينا، حيث كان يجلس سميث، بات شاغرًا،
فبدأت الذئاب ترفع رؤوسها وتفرد ريشها،
تبحث عن موطئ قدم.
ألم يُعلِن الفسخ علنًا في قصر الأمير الثالث؟
‘سأفسخ الخطبة.’
أيّ بيتٍ في الإمبراطوريّة سيجلس متفرّجًا؟
إن استطاعوا مصاهرة بولشيك، فسيقدّمون البيت كلّه مهرًا.
بيتٌ وُجد منذ فجر القارّة.
بولشيك اليوم هو رأس الكتلة النبيلة المناوئة للأسرة الإمبراطوريّة،
وأقوى بيوت الإمبراطوريّة نفوذًا.
وحين خُطِب سميث لريينا بدافع حبّها الأُحادي،
تمدّد نفوذه من لا شيء، حتّى صار قادرًا على منافسة وليّ العهد.
فكيف لا يتمسّك بها؟
اختارت ريينا رسالةً عشوائيّة،
وختمها يعود لبيتِ كونتٍ يملك مناجم.
نقرت على مركز الختم.
“سيواصلون الإزعاج هكذا…
ربّما كان الأيسر أن أخطب فحسب.”
دخول جين بات قريبًا،
لكنّها تحتاج وقتًا حتّى تستقرّ،
وحتّى تختفي ريينا.
في تلك الفترة،
أليس أفضل أن تُخطب لشخصٍ مناسب،
ثمّ تفسخ فور أن تصبح جين بولشيك؟
“إلى أيّ بيت نُرسل الرسول؟”
“ليس الآن.”
انسحب الخدم فورًا.
راحت ريينا تفرز الرسائل،
تبحث عن بيتٍ يمكن تطويعه.
بولشيك، مهما بلغ، لا يعيش وحيدًا.
لا داعي لإثارة عاصفةٍ غير ضروريّة…
— طَق طَق.
رفعت ريينا عينيها بفتور.
“الأمير الثالث مجدّدًا؟ ادخل.”
“المعذرة، آنِسَة.”
“سيباستيان؟ ما الأمر؟”
ميلت رأسها.
فهذا الرجل مكانه إلى جوار والدها، دوق بولشيك.
“الدوق يدعوك للعشاء.”
تجمّدت أطراف الخدم جميعًا.
فبعد كلّ لقاءٍ مع الدوق،
كانت ريينا تعود أشدّ حدّةً وتهيجًا.
لكن…
“حسنًا.
الوقت والمكان كالمعتاد؟”
صوتٌ هادئ،
كأنّ كلمة الدوق لم تمرّ على أذنها.
“نعم.”
“فهمت.”
وقبل أن يغادر سيباستيان…
“سيباستيان.”
“نعم، آنِسَة.”
“تتعب كثيرًا.”
“أ… لا.”
“تنسّق بيننا منذ زمن، وشيبك ازداد.
لن يطول الأمر بعد الآن.”
— طَق.
تجمّد سيباستيان خارج المكتبة.
‘تتعب كثيرًا.’
كانت تلك أوّل كلمة تقديرٍ يسمعها.
وحين تحرّك،
كانت خطواته تهتزّ قليلًا.
—
حلّ الموعد.
في الماضي،
كانت الأشواك تخرج من جسدها.
أمّا الآن…
“لا حاجة لشيء.
سأذهب هكذا.”
جلست أمام الدوق،
وبادرت فورًا:
“فسختُ خطبتي مع الأمير الثالث.
دعوتني لأجل ذلك، أليس كذلك؟”
توقّفت يد الدوق.
“وسأتنحّى عن وراثة الدوقيّة.
ابحث عن بديل.
ربّما وجدته بالفعل.
ظلّي… جين، أليس كذلك؟”
قالت ذلك بخفّةٍ مريعة.
حدّق فيها بلا تعبير.
الصمت علامة رضا.
نهضت دون أن تذوق الطعام.
“أستأذن.”
توجّهت إلى غرفتها.
“مهما فعلتُ،
ستحدث مشكلة.”
تمدّدت على السرير.
“أبي…”
ضحكت بسخرية.
“غبيّة.”
ظنّت أنّ القبول حبّ.
كان سمًّا.
هي لا تستطيع أن تكون أبيها.
لكنّها خافت أن تُنبَذ.
فخنقت نفسها.
ثمّ خُنِقت بسمّ غيرها.
“كم مرّة؟”
لم تنم تلك الليلة.
—
في الصباح.
جلست ريينا أمام إينار.
لم يكن هناك موعد.
لكن حين يُرسل أميرٌ عربته…
“إن لم يكن هناك ما تقولونه، سأغادر.”
وضعت الكوب.
فنهض إينار، اقترب،
حاصرها بين ذراعيه،
وهمس:
“لديّ اقتراح.
بل… صفقة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"